شهادة “كريم عبد السلام” عن واقعة باب سويقة (1) طفل دخل عالم السياسة


2020-01-08    |   

شهادة “كريم عبد السلام” عن واقعة باب سويقة (1) طفل دخل عالم السياسة

لماذا أكتب عن ذاتي في موقع طُلب منّي فيه أن أتحدّث عن العدالة الانتقالية؟

يوحي التقسيم النظري للأشخاص الذين تشملهم مسارات العدالة الانتقالية بتمايز بين من يصطلح على تسميته “الجلاد” وينظر له كعنوان للماضي ومن يصنّفون كضحايا ويدعى للعمل على إنصافهم. كنت وما زلت من بين الذين آمنوا بهذه العدالة. لكنّي رغم ذلك أجد صعوبة في تصنيف ذاتي في إحدى الخانتين وفي تحديد ما ينسب لي من خطأ وتحديد مسؤولياتي عنه، وما قد يكون لحقني من ضرر وبيان ما يترتّب عليّ من حق عنه.

أجدني رغماً عني، هنا وهناك. وأرى أنّي أشترك في ذلك مع كل من كان له دور في تجربتي. يدفعني هذا إلى حديث عن عدالة انتقالية بتقسيمات مغايرة أظنّها أكثر وفاءً للواقع الذي تنطلق منه. سأحاول في حديثي هذا أن أكون موضوعياً وهذا صعب. كما سأحاول في رسمي لشخصي أن أنصف الآخر الذي اختلفت معه في الماضي الإنصاف نفسه الذي أسعى له مع الآخر الذي أجدني اليوم في تعارض مبدئي معه وهذا أصعب. أحاول كل هذا طلباً لعدالة أحتاج إليها في إصلاح علاقتي بذاتي أولاً وبمحيطي ثانياً وبتاريخي الشخصي الذي سأورثه لإبني ثالثاً. وأتمنّى أن تكون محاولتي مفيدة لكل من يعمل على تحقيق مصالحة مع الماضي لا تشيطن ولا تؤلّه. تنصف ولا تظلم. ترفع ضيماً عن ضحايا قدماء ولا تصنع ضحايا جدداً. تكسر مربع التضادّ بين الجلّاد والضّحية وتفرض على الجميع الجلوس على الطاولة طلباً للحقيقة وحماية لحق المجتمع في حقيقة كاملة، بعيداً عن حسابات ما تحت الطاولة وعن حديث التوازنات والمصالح.

أقدّم هنا رواية عن تجربتي التي هي حياتي في ماضيها وحاضرها وفي رسمها لملامح مستقبلي. كنت في البداية طفلاً غرق في عالم الكبار، عالم السياسة، وتطوّرت فيها لاحقاً لأصنع الحدث الذي غيّر ملامحي وبعض ملامح تاريخ البلد. فكانت لحظات أو دقائق أو أياماً أعقبها عذاب سنوات البحث عن العدالة وتلتها معاناة ما بعد الحساب.

الفصل الأول: طفل دخل عالم السياسة

ولدت في سنة 1973 لأب متقدّم نسبياً في السّن يحترف التجارة، متحرّر في تصوّره لكلّ ما هو أخلاقي، ولأم تصغره سناً بشكل كبير كما تختلف عنه في تصوّراتها. فهي تتمسك بأخلاقيات ريفية صارمة تنمّ عن جذورها وموطن نشأتها.

كانت أسرتنا تقيم في بيت تعود ملكيته الموثّقة في إدارة الملكية العقارية لوالدي ويقع في حي الحفصية الشعبي وسط العاصمة تونس. وفي تفصيل مهم، أذكر أنّه كانت تقاسمنا جدرانه “سالمة” التي كانت عشيقة أبي في توصيفها العلائقي وصاحبة محل دعارة بماخور “عبد الله قش” في تعريفها المهني[1].

في سنة 1981، توفّي والدي. كنت حينها في السابعة من عمري. عرّت وفاته إفلاس تجارته التي لم نكن نعرف عنها الكثير، وكانت فاتحة مواجهة بين أمي التي تحمّلت مسؤولية الدفاع عن أسرتها المكوّنة من ثلاثة أطفال صغار، أنا أوسطهم، والعشيقة التي فقدت سند وجودها بيننا ومعنا. تعمّدت سالمة خلال الجولة الأولى من هذه المواجهة طردنا من دارنا باستعمال القوة وعوّلت في ذلك على أصدقائها من المارقين عن القانون في البداية وعلى تواطؤ رئيس مركز الأمن الوطني بالحفصية الذي كان يمثل القانون في جهتنا في مرحلة ثانية. لم يكن خافياً عليّ وأنا الطفل الصغير أنّ رئيس مركز الأمن بالحفصية الذي طرد أمي وهي تحتمي به وتطلب مساعدته، يرتبط بعلاقة ود بخصيمتها. فقد كنت أرى سالمة بحكم قرب مقر المركز من دارنا تتردد عليه كما أشاهده من النافذة كلما حلّ ليلاً في دارنا متخفياً طلباً لما توفّره له ساكنته من صحبة للبنات اللواتي تشغّلهن.

لم يدم كنسنا من منزلنا وإلقاء أغراضنا البسيطة في ساحة الحي طويلاً. لكنّ تفاصيله ظلت عالقة في ذاكرتي إلى اليوم وكان لها دور كبير في صناعة ما كان عليه أمسي.

1- لي ثأر ضد السلطة

لم يبخل رئيس المركز على أمي وهي تستنجد به، بكل ما حفظ من نعوت قبيحة ومن شتائم جزاء ما أبدت من مقاومة وما انهمر من عينيها من دموع. حضر من يومها في ذاكرتي رئيس المركز بعربدته وجبروته. كما حضر المارة بنظراتهم الجامدة وحضر أجوارنا الذين اختاروا غلق أبواب منازلهم خوفاً من تحمّل عبء إعالة أسرة أضحت من دون مأوى. كرهت من يومها “الأمني” وكرهت معه كل رموز السلطة. شعرت بظلم الحاكم وبت أراه عدوّاً لي وأقدّر أنّ لي ثأر ضدّه يفوق ما لي من ثأر ضدّ سالمة.

آوتنا في فترة أزمتنا صديقة لأمي تدعى “هناني”، وجدنا فيها رحمة لم نجدها لدى أقاربنا. وكانت أمي طيلة فترة سكننا في شقتها المتواضعة تخرج كامل يومها طلباً لقوت عيالها وسعياً لاسترجاع ما لهم من حق عقاري.

علمت لاحقاً أثناء تقليبي لأوراقها أنّ المحامي محمد النوري تطوّع للدفاع عنّا وأنّه تمكّن من استصدار حكم يقضي بإخراج سالمة من دارنا لعدم الصفة. فكان بذلك صاحب فضل في عودتنا إلى محل سكنانا بعد رحلة التشرّد تلك. كما كان صاحب فضل على كل المساجين السياسيين الذين تجنّد للدفاع عن حقوقهم طيلة فترة حكم بن علي وسيقدّر لي أن أكون فيما بعد أحدهم.

عدنا بفضل القرار القضائي لدارنا التي ظلّت سالمة تقاسمنا إياها بقانون القوّة، وبتواطؤ السلطة. كان لزاماً علينا أن نتعايش مع هذا الوضع كونه لم يكن لنا أي بديل. وكانت والدتي كل ليلة تحبسنا في غرفتها لكي لا نختلط بزوّار جارتنا الذين يحضرون للهو والسهر. وفرض علينا العداء المستفحل مع جارتنا أن نعيش في خوف منها، خوف مرعب من تنفيذ تهديداتها المعلنة بتحريض روّادها على مفاحشتنا وتعنيفنا. هنا وجدت أن عليّ وأنا طفل صغير، أن أكون حارساً لأخوتي[2] في رحلة ذهابهم وغدوهم من المدرسة، سلاحي رشاش ماء مملوء بماء النار. نما العنف فيّ مبكراً ورغماً عنّي، عنف كبتّه، ووجدت في مسجد الحي علاجاً لي منه. احتميت بالعقيدة في مواجهة محيط كان يدفعني دفعاً نحو الإنحراف. وربما ساعدني تميّزي الدراسي والرياضي على إيجاد هذا الحل.

2- المسجد ملاذي الآمن من الخوف

كنت أهرب من التوتر الذي في منزلنا إلى مسجد الحي، حيث أفني جهدي في الصلاة لربي وأحضر حلقات نقاش كان يشرف عليها شيوخ محسوبون على حركة الاتجاه الإسلامي. لفتّ نظرهم ببراءة طفولتي وبؤسي وكان اهتمامهم بي منطلقي إلى عالمي الجديد. وجدت فيهم الرعاية والعطف والإحاطة. وبفضلهم، عشت لأول مرة في حياتي في محيط أستشعر فيه الأمان وأجد فيه الرفاه الذي كانوا بمالهم الخاص يحرصون على توفيره لي وذلك رغم عدم يسارهم.

كان من أثر عنايتهم وحبّهم أن زاد تميّزي المدرسي وتفجرت مواهبي الرياضية لأكون لثلاث سنوات متتالية بطلاً وطنياً في الجمباز. بات الاتجاه الإسلامي من حينها أسرتي التي تغمرني بالحنان والعطف زيادة على التربية والتوجيه. ووجدتني شريكاً مع أسرتي الجديدة في كره السلطة الظالمة التي تعلّمت بعدما تطور وعيي أنها ليست رجل الأمن بزيّه النظامي، بل تركيبة أكبر وأعمق تسيطر على كل التفاصيل التي تحيط بنا.

انخرطت رغم طفولتي في العمل السياسي ولم أكن في هذا استثناء إذ أن كل الحركات السياسية المعارضة كانت في تلك السنوات تستقطب الأطفال في نشاطها ليكونوا من ضمن أدوات تحريكها للشارع في إطار ما كان يصطلح على تسميته بالحركات التلمذية.

3- الاستعداد لمواجهة الحاكم

تحرّرت سريعاً من هاجس الخوف من عنف جارتنا المعربدة وحضرتني بدلاً عنه رغبة التصدّي لعنف “الحاكم”، هذه الرغبة التي جعلتني أنتقل من هدوء الجمباز إلى صخب الرياضة القتالية وهو انتقال توّج سريعاً بإعلاني مدرباً في هذا الاختصاص. ارتبط تحوّل نشاطي الرياضي باستعداد حزبي لمواجهةٍ كانت القيادة تتوقع أنها قريبة وتعدّني وشباب الحركة لنكون من جُنْدها.

غيّبت استعدادات المواجهة ونقاء العزم كل حضور لمحيطي الزاخر بالمشاكل. فقد كان كل همّي وأنا الطفل المتسيس في انتظار لحظة حسم مع نظام ظالم جربّت ظلمه ولي معه ثأر دفين. كنت أخجل من كل حديث حوله وكان إخواني الذين يعرفون تفاصيله ربما أكثر مما أعرف يتجنّبون إحراجي بأي حديث عنه.

4- العنف الثوري

في بداية عهد حكم زين العابدين بن علي، وسعياً منه لتحصيل اعتراف قانوني به، غيّر “الاتجاه الإسلامي” تسميته إلى “حركة النهضة”[3]. ودخلت الحركة حينها في مرحلة أسميتها “مرحلة المهادنة”[4]. حاولت “النهضة” خلالها أن تحتفظ لنفسها بموقع في الحياة السياسية وفق ضوابط السلطة الجديدة[5]. وعوّلت في عملها السياسي على الخطاب الدعوي بشكل كبير[6]. وكان هذا في إطار استعدادها للانتخابات التشريعية والرئاسية لشهر أفريل من سنة 1989.

قيل لنا في البداية إنّ مجلس شورى الحركة قرر عدم تقديم أي مرشح للانتخابات الرئاسية وتبنّى قراراً يقضي بتقديم مرشحين للانتخابات التشريعية في خمس دوائر انتخابية فقط. وكان واضحاً لنا ونحن عناصر قاعدية أنّ الغاية من تلك القرارات كانت عدم إثارة مخاوف عند الدساترة المتمسكين بالحكم من الإسلاميين. تالياً وبحلول الموعد الانتخابي، التزمت الحركة بعدم تقديم مرشح لرئاسة الجمهورية لكنّها تقدمت بمرشحين في كل الدوائر الانتخابية، بما أوحى بأنّ مكتبها التنفيذي الذي اتخذ هذا القرار اختار الدخول في اللعبة بضوابط دنيا[7].

ولكن بحكم أنّي كنت دون العشرين من عمري، لم يكن لديّ حق في الانتخاب[8]. ورغم ذلك، كنت حاضراً في الحملة الانتخابية وكنت كغيري من أطفال الحركة وشبابها ناشطين في الدعاية لقائمتها في دائرتنا الإنتخابية “القائمة البنفسجية”. وكنت ككل المنتمين والمتعاطفين مع الحركة من ضحايا صدمة التدليس الواسع الذي مارسه أنصار حزب التجمّع والإدارة والذي فرض سقوط مرشحينا في النتيجة المصرّح بها[9] رغم أنّنا كنّا ننتظر أن يكتسحوا النتائج وكنّا نعوّل عليهم لأسلمة المجتمع والتشريع[10].

دفعتني نتيجة الانتخابات وضعف إيماني بإمكانية تغيير سياسي سلمي إلى الابتعاد عن “النهضة” التي بتّ أراها مهادنة لأقترب من “الجبهة التونسية للإنقاذ”[11]، وهي مجموعة تتبّنى الفكر السلفي الجهادي الذي بات له في ذلك الوقت أنصار في تونس بفعل ما يتم تداوله من نجاحات له في مصر.

كانت عملية اغتيال رئيس مجلس نواب الشعب بمصر رفعت المحجوب سنة 1990[12] من قبل مجموعة جهادية من العمليات النوعيّة التي ساعدت في توسّع المدّ السلفي في كل المنطقة العربية ومنها تونس. كنت فكرياً أميل إلى طرح تلك الجماعة الذي يرفض كل مشاركة في الحياة السياسية. كما اقتربت منهم لأنّي كنت تلميذاً لدى منظّرهم العقائدي في تلاوة القرآن وتلميذاً في رياضة فنون القتال لدى مؤسس ذراعهم العسكرية.

وبسرعة كبيرة وبعد أقل من شهر، تفطّن شيوخي إلى تغيّر قناعاتي وعلاقاتي الجديدة. عملوا على إعادتي إلى حظيرة الحركة بعد تنبيهي لضرورة الحذر من خطوات غير مدروسة قد تفسد نجاحاً بات قريباً وسيكون لي دور في تحقيقه. وكان ما تم الإسرار به لي من حديث، على عموميّته، دليل ثقة في شخصي فرحت بها كما لم أفرح في حياتي من قبل ولا ربما من بعد وقادتني هذه المصارحة للعودة إلى الحركة أي إلى النشاط في الخلية الترابية[13].

خلال سنة 1987 أي في عهد بورقيبة، كنت، وأنا في الـ14 من عمري، الطفل الوحيد الذي يتم إعلامه مسبقاً من قيادة الحركة بموعد التظاهرات ليساعد لاحقاً المشاركين فيها على التخلّص من المتابعة الأمنية عبر أزقة المدينة العتيقة التي أحفظها عن ظهر قلب. ومما أتذكره أني نجحت في تلك الفترة في تهريب أحد الأخوة الذي كان أصيب بطلق ناري. أهّلني هذا النجاح وغيره لأكون موضع ثقة كبرى وكشف للقيادة عن مزايا في شخصي أهمّها أنّي كتوم ومتفانٍ ولي قدرة على المبادرة وتقديم الحلول الميدانية بالسرعة اللازمة. وكان من أثر تلك الثقة أن تمّ الاتصال بي من مؤطّري داخل الحركة في نهاية سنة 1990 ليعلمني بقرار القيادة بإلحاقي بدائرة الاستعلام وهي دائرة سرية تعمل على توفير المعلومات اللازمة التي تمكّن القيادة من إجراء تقييم حقيقي للوضع.

5- من العمل الميداني إلى النشاط الاستعلامي

طلبت منّي دائرة الاستعلامات – الجهاز الخاص – أنْ ألتحق بحزب التجمّع الدستوري الديمقراطي أي الحزب الحاكم لأكون عين الحركة داخله. لم أكن الوحيد الذي طلب منه ذلك طبعاً إذ وثّق تاريخ الحركة أنّ عدداً من كوادرها اخترقوا هذا الحزب. كما وجب التنبّه إلى أنّ سياسة الاختراق تلك شملت منظمات وجمعيات أخرى عديدة.

كانت الحركة في البداية تعوّل في عملها الاستعلامي بشكل أساسي على سياسة الاستقطاب لكوادر الدولة الأمنية والعسكرية. وتعني هذه السياسة أن يتم العمل على استمالة من لُمس لديه التزام ديني وأخلاقي ولوحظ تعاطفه مع الحركة، ليكون في صفوف أعضائها السرّيين[14]. لاحقاً ومع تطوّر تنظيمها وحاجاتها، استنبطت قيادتها سياسة الاختراق التي تتمثل في زرع عناصر منها في المؤسّسات التي تحتاج إلى معلومات عنها أو ترى أنّ ما يُقرَّر داخلَها يعنيها. وألفت هنا إلى أنّ اعتماد الحركة على الاستعلام بمختلف وسائله كان في وقته مبرراً موضوعياً لمّا كان واضحاً من سعي السلطة لتصفية النهضة.

نقلني الالتحاق بالاستعلام من النشاط الميداني الذي كان في ذلك الوقت دعوياً لا يروق لي بتاتاً إلى عمل سري على علاقة بمواجهة قريبة كنت متحمّساً لها. حدّد المشرف على خلية الاستعلام وجهتي التي كانت شباب التجمّع في فرعه التابع للجنة التنسيق الحزبي بتونس المدينة – باب سويقة. وقد سبق انخراطي في التجمّع تخفيف مدروس لمظاهر التديّن التي كانت بادية عليّ ومن ذلك تردّدي على المسجد وصداقاتي مع إسلاميين ولحقه تسويق لي داخل “التجمّع”، مما سهّل مهامي وضمن تسلّقي سريعاً نحو مواقع القيادة.

كنت في ذلك الحين أدرس بالسنة الرابعة تقنية بالمعهد الثانوي 9 أفريل بالعاصمة الذي كان من أهم المعاهد الثانوية التي تعرف نشاطاً سياسياً تلمذياً. طلب مني أن أنشط داخل المعهد كتجمّعيّ في الشبيبة المدرسية وطلب من الأخوة في التنظيم التلمذي للحركة بالمعهد استهدافي صورياً على خلفية هذا النشاط، من باب التمويه.

نظّم في حينها زبير الشهودي[15] الذي كان يدرس معي وهو مطّلع تماماً على الدور الذي ألعبه، محاكمة لي في ساحة المعهد اتهمت فيها بأنّي تجمّعيّ وانتهت باعتداء عليّ. رفعت هذه المحاكمة وما تبعها من إصرار منّي على مواصلة النشاط الحزبي في المعهد وخارجه، مكانتي في التجمّع الذي كان مكوّنه من الدساترة القدم يبحث عن تشبيبه داخلياً.

6- صراع الدساترة مع اليسار داخل التجمّع

كان زين العابدين بن علي في بداية فترة حكمه مرتاباً من الدساترة القدم قريباً من النخب اليسارية التي التحقت بالحزب وفرضت تسمية جديدة له هي التجمّع الدستوري الديمقراطي[16]. احتلّ الوافدون الجدد أهم المواقع في الحزب والدولة مما أثار حفيظة جانب من قيادات الحزب التاريخية.

كانت في هذا السياق التاريخي لجنة التنسيق الحزبي بتونس المدينة من أهم لجان التنسيق التي تضم قيادات كبرى من دساترة الرعيل الأول. وقد صاغت هذه القيادات سياسة تشبيب كبرى في صفوف الحزب غايتها إفراز قيادات مستقبلية ذات مرجعية دستورية تتصدّى لزحف اليساريين. وفتح لي وجودي في عرين الحرس القديم وما راج في صفوفهم عمّا كانوا يسمّونه نضالي في مواجهة “الخوانجية” – أي الإسلاميين كما كان يناديهم بورقيبة – أبواب الارتقاء السريع في التنظيم الحزبي.

بالتالي، كان لصراع الأجنحة داخل الحزب الحاكم ولمؤهلاتي الذاتية دور في نجاح عملية الاختراق التي كُلّفت بها. لا يمكنني هنا أن أجزم أنّ هذه العوامل وحدها التي تدخّلت في صناعة نجاحي، إذ أنّي لا أستبعد أن يكون من بين الإخوان الذين خططوا للاختراق من سهّله. ويعود ظنّي هذا لما تبيّن خلال محنة التسعينيات من نجاح كبير لسياسة الاختراقات تجاوز في كثير من الحالات النجاح الذي كنت حققته ووصل إلى درجة تقلّد من كلّفوا بالاختراق مواقع قيادية بالحزب من قبيل عضوية اللجنة المركزية وعضوية المكتب الوطني للمنظمة الطلابية ومنظمة الشباب[17].

أياً كانت أسباب النجاح في الاختراق، فقد وجدتني مرة أخرى في سياق يشبه التنظيم السري الذي كان يشرف عليه دساترة من جيل الاستقلال، من أبرزهم المرحوم عزوز الرباعي، أشارك في دورات تكوينية مكثفة هدفها استعادة الحزب من اليساريين وأتقلّد موقع مسؤولية متقدماً في منظمة شباب التجمّع على مستوى لجنة التنسيق الحزبي بتونس المدينة.

7- المواجهة

حرّكت حرب الخليج الأولى بداية تسعينيّات القرن الماضي الشارع التونسي الذي انتفض ضدّ ما اعتبره تدخّلاً أميركياً في المنطقة العربية. وكانت “حركة النهضة” بمختلف مكوّناتها الترابية والطلابية والتلمذية جزءاً من هذا الحراك أو لعلّها كانت الطّرف الذي أدار هذا الحراك لفرض “الحرّيات” كما كان قرر ذلك مجلس شورى الحركة[18] من قرار الاحتكام للشارع لفرض اعتراف من النظام القائم بـ”النهضة” كفاعل سياسي ولتحقيق الاعتراف بحق التونسيين في التنظم والتنظيم.

استعدّت “النهضة” للمواجهة واستفادت من حراك الشارع. وكانت إستراتيجية عملها الميداني تقضي بالرّد على عنف الأمن بعنف مضادّ يبرز العزم على التصدّي ويؤشّر إلى أنّ المعركة لا يمكن حسمها أمنياً. وصلت رسالة التنظيم إلى النظام الذي استغلّ حالة الإحباط التي عمّت الشارع بمجرد نهاية تلك الحرب لإطلاق موجة اعتقالات استهدفت قيادات الحركة كانت بدايتها خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1990.

توالت لاحقاً الاعتقالات وشملت قيادات وعناصر فاعلة في الحركة كما شملت أمنيين ذكر حينها أنهم من جهازها الخاص. في هذا السياق، وفي إطار ما اصطلح على تسميته بالخطة الاستثنائية[19]، قررت الحركة بداية سنة 1991 تفكيك كل هياكلها الظاهرة[20] والعلنية والتعويل على تنظيم  خاص غير مكشوف للأجهزة الحزبية والأمنية. تكوّن هذا التنظيم في هيكله الأول من مجموعات صغيرة تشكّلت كل واحدة منها من عدد من الأفراد لا يتجاوزون الخمسة كانت غالبيتهم في سياق اختيار مدروس من الشباب الطلابي والتلمذي. وتتواصل الخلايا مع القيادة من خلال عنصر الاتصال فقط، من دون أن يكون مسموحاً لأي منها التنسيق المباشر مع أيّة خليّة أخرى.

أنهك توالي الاعتقالات الحركة التي بات واضحاً تراجع قدرتها على القيادة والتأطير[21]. ويبدو لي اليوم من مؤشرات ذلك الضعف، أنّه تم الاتصال بي من “عامل المدينة” لمطالبتي بالمساعدة في تدريب الأخوة على فنون القتال والمواجهة. كان الطلب غير مستساغ نظراً لكوني في تلك الفترة كنت أقوم بعمل سرّي داخل “التجمّع” ولكن تم تبريره لي بالحاجة الملحّة وبكون من سأدرّبهم سيكونون من خارج منطقة المدينة ولن يتعرّفوا على هويّتي.

آل أمري، بعد استجابتي لما طلب مني، أن أدرّب أبناء الحركة ليلاً على المواجهة وصباحاً أن أجالس قيادات الجهة التجمّعية للحديث عن خطر الخوانجية ومتابعة نتائج رصد ميليشيات الحزب لهم[22]. وكنت بين هذا وذاك أتواصل بحذر مرة أسبوعياً في مكان عام مع عنصر الاتّصال المكلّف بمتابعة عملي لإعلامه بما أتوصّل له من معلومات ولأبدي رأيي في التطوّرات ولإعطائي التعليمات والتوجيهات.

دعت القيادة في بداية سنة 1991 نشطاء الخلايا إلى تأديب الأشخاص الذين انخرطوا في مليشيات الحزب الحاكم وأدّت وشاياتهم إلى الإضرار بالحركة وأسر أعضائها. وتمّ فعليّاً استهداف بعض هؤلاء بالضرب أو الترهيب. تالياً ومع توالي الاعتقالات، أعلن في إطار ما اصطلح على تسميته بالخطة الاستثنائية عن “تحرير المبادرة” أي السماح للخلايا باقتراح مشاريع عمليات نوعيّة وتنفيذها بعد تحصيل موافقة القيادة. كان استدعائي للتدريب على فنون القتال سبباً في إعادة ربط العلاقة بيني وبين التنظيم في هيكله الترابي أي الخلايا المعنيّة بتحرير المبادرة. كما أدى استمرار نشاطي الاستعلامي إلى تطوّر معرفتي بداخل مراكز “العدو” التي يمكن استهدافها. وكنت بالتالي في موقع من يمكنه التخطيط للعمليات كما كنت في موقع من يطلب منه المشاركة في تنفيذها.

عند هذا الحد، كنت الضحية، بعدما استغلّت السياسة طفولتي البائسة التي كان سبق لظلم السلطة والمجتمع أن شوّه معالمها. كنت هنا ضحية لمجتمعي وضحية لمفهوم السياسة في بلدي كما كنت ضحية لحياة سياسية لا يجد الفاعلون فيها أيّ حرج في اغتصاب الطفولة تحت يافطات جميلة تتراوح بين التربية على الوطنية والنضال السياسي والدفاع عن الدين.

  • نشرت هذه الحلقة في الملحق الخاص بالعدد 16 من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة الملحق اضغطوا على الرابط أدناه:

ملحق العدد 16 من مجلة المفكرة القانونية: حكاية من الماضي برؤية مستقبلية


[1]  في تونس هناك بيوت للبغاء العلني من أهمها مبغى عبد  الله قش الذي يقع بالمدينة العتيقة بتونس. ينظم الأمر العلي المؤرخ في 30-04-1942 نشاط هذه المواخير.

[2]   نحن أربعة أشقاء لي أخ يكبرني بسنة واحدة ولكنّي أقوى منه جسدياً مما فرض أن أكون أنا من أحميه و أختين أصغر منّي عمراً كان من واجبي حراستهما خوفاً عليهما.

[3] كان لقاء القيادات المؤسِّسة للحركة في بدايته في سياق فكري ودعوي غطاؤه مجلة المعرفة التي تأسّست سنة 1972 وكان فريق تحريرها مكوّناً من المنظرين للفكر الإسلامي في تونس. طرحت تلك المجموعة أول مرة فكرة تأسيس التنظيم الخاص بالحركة الإسلامية بتونس سنة 1974 فيما يصطلح على تسميته مخيم سوسة أو مؤتمر سوسة. وعقدت لاحقاً مؤتمراً تأسيسياً سنة 1976 أطلقت على إثره  تنظيم الجماعة الإسلامية بتونس وكانت تلك الجماعة دعوية بالأساس وتنشط في مناطق معيّنة ارتبط اختيارها بسكن قيادات فيها وهي: قابس – محمد شمام، جندوبة – فاضل البلدي، سوسة – علي نوير، القيروان – راشد الغنوشي، تونس – عبد الفتاح مورو. عقد بتاريخ 11 و12 و13 من شهر أوت/آب من سنة 1979 المؤتمر التأسيسي للجماعة الإسلامية. وحدد المؤتمرون هيكلية الجماعة التي ستكون سرية كما صاغوا أول قانون داخلي لها حدد شروط العضوية فيها. وفي مرحلة لاحقة، أدّى تفطّن الأمن للتنظيم وحجزه للوثائق الخاصة بتنظيمه لأن تداعى مؤسسوه لمؤتمر استثنائي بتاريخ 09 و10 أفريل/نيسان 1981 تقرر فيه انتهاج سياسة العلنية لأول مرة وتقديم طلب للترخيص بتأسيس حزب سياسي. ولاحقاً وبتاريخ 06-06-1981 تقدّمت قيادة الاتجاه الإسلامي لوزارة الداخلية بطلب ترخيص لكنّ هذا الطلب رُفض رغم وروده في حيّز سياسي تميّز بانفتاح لنظام الحكم على المعارضة السياسية.  وقد ورد في كتاب “حركة النهضة” في الذكرى 15 لتأسيسها “دروس الماضي وإشكاليات الحاضر وتطلعات المستقبل”: “لقد تأسّست حركتنا بعد خمسة عشرة سنة من استقلال البلاد، بعدما تمكّنت النخبة التغريبيّة الحاكمة من تحطيم معظم البنى التحتية للمجتمع والدولة، مثل: إلغاء الأوقاف والمحاكم الشرعية والتعليم الزيتوني وتفكيك العلاقات الأسرية والعشائريّة، وتبلور معالم دولة سلطوية تلغي دور المجتمع وثقافته الأصلية ومؤسساته المدنيّة مماّ أحدث بالتدرّج اختلال توازن بين الدولة/ الحزب/ الفرد من جهة والمجتمع من جهة أخرى. لقد تساند الوجه التغريبي بالوجه الإستبدادي للدولة الناشئة بعد الاستقلال لكي يعيد للحياة التونسيّة موضوع الهويّة والحريّة والعدالة الإجتماعيّة بقوّة وعنفوان عبّرت عنه حركات اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة مختلفة من بينها الصحوة الإسلاميّة التي أحيت مفهوم التوحيد أساساً وإطاراً لشؤون العبادة والحياة، للشأن الفردي وللشأن الإجتماعي على السـواء…”. ورغم تأكيد الحركة على أولويّة المهمّة الفكريّة والتربويّة والثقافيّة في كلّ خططها وبرامج عملها، إلاّ أنّ العمل السياسي وبسبب هيمنة الدولة على كل الفضاءات، كان دائماً يعود ويتمدّد بسرعة فائقة ليحتلّ الصدارة في سلّم الأولويات ويطغى على سائر اهتمامات الحركة ومناشطها، وغالباً ما يلقي بالحركة في قلب الصراع وجهاً لوجه مع جهاز الدولة المتوجّس من كل صوت معارض جاد والمتحفّز للمواجهة والصدام. لقد كان لهيمنة الفضاء السياسي على الفضاءين الدعوي والثقافي النتائج السلبية على مسيرة الحركة وتطوّر الصحوة – يراجع فيما يتعلق بتاريخ تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي “الحركة الإسلامية في تونس أطوار النشأة والمحاكمات السياسية الكبرى 1965-1981” – لطفي العمدوني –

[4]  كان  القانون الأساسي عدد 32 لسنة 1988 المؤرخ في 3 ماي/أيار 1988، المتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية والذي كان سارياً حينها ينص في الفصل 4 منه على أنّه “لا يجوز لأي حزب سياسي أن يستند أساساً في مستوى مبادئه أو أهدافه أو نشاطه أو برامجه على دين أو لغة أو عنصر أو جنس أو جهة”. ولهذا الاعتبار قررت الحركة تغيير تسميتها بشكل يحجب الهوية الإسلامية للتنظيم.

[5]  وجهت  قيادة الحركة بتاريخ 12-12- 1987 رسالة  إلى رئيس الجمهورية حينها زين العابدين بن علي  قالت فيها  إنّ “السلطة الجديدة حدث تاريخي وقدر إلهي أنقذ تونس العزيزة وشعبها من فتنة أيقظها الرئيس السابق وأصرّ على إذكاء نارها… وبيان 7 نوفمبر 1987  توجه ديمقراطي مسؤول”.

[6]   خلال مؤتمر 1986 تبنّى الاتجاه الإسلامي ما يصطلح على تسميته بمشروع الأولويات من ضمنها “الرجوع إلى المساجد والدعوة والتركيز على التكوين والتربية” ويعدّ ذلك تراجعاً عمّا قرره مؤتمر 1979 من تحديد هدف أسلمة المجتمع من خلال دخول كل المنظمات والنقابات  الجماهيرية  (الاتحاد العام التونسي للشغل والكشافة أساساً).

[7]   ورد في اللائحة التقييمية التي صدرت عن المؤتمر العاشر لـ”حركة النهضة”: “جاءت انتخابات أفريل/نيسان 1989 لتمثل اختباراً لموازين القوى وامتحاناً للسلطة والحركة على حد سواء. ولئن كشفت تلك الانتخابات ضعف جماهيرية السلطة، فإنها كانت في المقابل انكشافاً جديداً تعرّضت له المقدّرات البشرية للحركة بعد أن فشلت قيادتها في تعديل ميل القواعد إلى مشاركة ضخمة في الانتخابات. إذ كانت المؤسسة الشورية قد اتجهت في الأصل إلى أن تكون المشاركة في تلك الانتخابات بحجم محدود، وحتى رمزي، بناء على أنّ الخطّة السارية المفعول في تلك المرحلة كانت خطّة “تهدئة”، ولكنّ ضغط المناطق، وكذا ضغط بعض العناصر الفاعلة في الجهاز التنفيذي المركزي جعل الحركة تنزلق إلى مشاركة استعراضية واسعة النطاق، ربما كانت هي العامل الذي عجّل اتخاذ السلطة قرار الحسم معها وهو ما أدى في المحصّلة النهائية إلى نسف الأسس التي قامت عليها سياسة “التهدئة“!…

[8]  كان الفصل الثاني من المجلة الانتخابية النافذة حينها ينص على أنه “يتمتّع بحق الانتخاب جميع التونسيين والتونسيات البالغين من العمر عشرين عاما كاملة والمتمتعين بالجنسية التونسية منذ خمسة أعوام على الأقل وبحقوقهم المدنية والسياسية والذين لم تشملهم أية صورة من صور الحرمان التي نص عليها القانون”.

[9] حصلت القوائم البنفسجية وفق النتائج المصرّح بها على 13% من الأصوات – “الحركة الإسلامية في تونس أطوار النشأة والمحاكمات السياسية الكبرى 1965-1981” –  لطفي العمدوني – صفحة 176.

[10]  لم يتم منح “حركة النهضة” الترخيص القانوني. لذا دخلت الانتخابات بقوائم مستقلة عرفت باسم القوائم البنفسجية نسبة إلى لونها وشارك كوادر الحركة في الحملة الانتخابية وفي مراقبة الانتخابات. وكان من أثر مشاركة الحركة في كل الدوائر أن بات مناضلوها معروفين لدى الشعب والمصالح الأمنية. يمكن القول هنا أنّ التراجع عن مشاركة محدودة في الانتخابات كان خطأ بالغاً أضرّ لاحقاً بقواعد الحركة وسهّل على السلطة استهدافها وكان له دور في كشف التنظيم.

[11]  غالبية المنتسبين لهذه المجموعة هم من المنشقّين عن حركة الاتجاه الإسلامي وتزعّمهم محمد علي الحراثي.

[12]  تمّت هذه العملية بتاريخ 12-10-1990 وكان يسوّق لها بأنّها عملية نموذجية نظراً لتمكّن المجموعة التي نفذتها من الفرار ولبساطة تخطيطها وتنفيذها.

[13] كان الإنتماء إلى الحركة يستوجب تزكية من المشرفين على المساجد أو القطاعات المهنية أو المجالات التلمذية  أوالطلابية. يعقب التزكية إخضاع المنتسب لدورة تكوينية في المنهج الأصولي والفكري للحركة يقدّمه أحد الأعضاء نيابة عن رئيس الحركة. ثم يوزّع على خلايا ترابية أو مهنية أو قطاعية لمدة سنتين يؤدّي في نهايتها البيعة أمام  رئيس الحركة أو من يمثّله (يقسم فيه على الولاء للحركة في المنشط والمكرة  أي في الرخاء والشدة) ويصبح بعدها عضواً كامل العضوية له حق الترشح والانتخاب والمشاركة في المؤتمرات وممارسة مهام تنفيذية.

[14]  كان يصطلح على تسميتهم داخل الحركة بأصحاب القبعات.

[15] لاحقاً كان زبير الشهودي من  شباب “حركة النهضة”  الذين تحمّلوا القمع والسجون وبعد الثورة احتل  مواقع قيادية داخل حركة النهضة بينها منصب مدير مكتب رئيسها.

[16] تسلّم زين العابدين بن علي بتاريخ 07-11-1987 السلطة  بعد معاينة طبيّة لعجز رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة عن مواصلة الحكم. تردد في البداية في مواصلة التعويل على الحزب الاشتراكي الدستوري في حكم البلاد  من عدمه لارتباط هذا الحزب ببورقيبة. ولكنّه قرر في النهاية تغيير تسمية الحزب إلى التجمّع الدستوري الديمقراطي. واستقطب الحزب في تشكيلته الجديدة رموزاً يسارية هامة احتلّت أهم المواقع القيادية في الدولة.

[17] ماهر مذيوب نجح في تقلد منصب عضو لجنة مركزية للتجمّع الدستوري الديمقراطي  عن طلبته.

[18] عقدت الحركة مؤتمراً سنة 1988 أقرّ سياسة تهدئة. ولكن بعد الانتخابات التشريعية لسنة 1989 تمّت مراجعة هذه المقرّرات في إطار مجلس الشورى ومؤتمرات محلية قررت المواجهة مع النظام في سياق ما اصطلح على تسميته “فرض الحريات”. وورد في لائحة التقييم في هذا الخصوص “مع الانفراج الذي حصل إثر أزمة 1987 انزلقت الحركة من جديد في مسلسل الأخطاء في مطلع التسعينات، واتجهت إلى الاستعداد للمواجهة مستهينة بقوّة خصمها، وغير عابئة بضعف حضورها داخل النخبة ولا مقدّرة حقيقة الأوضاع الإقليمية والدولية. فهي لم توطّن النفس على الصبر والتحمل، ولم تجتهد في البحث عن حلول ولم تحسن التّأقلم مع المتاح مع ما كان فيه من ضيق، واعتمدت السياسة كآلية احتجاج ولم تعتمدها كآلية لحل المشكلات ولاستثمار الفرص، وتوسيع دائرة الأصدقاء وتحييد الخصوم. ولم تتعامل بحكمة مع أرصدتها، فلم تدّخر منها كثيراً مما يمكن ادّخاره (خاصة بالجامعة التي زُج بها في أتون المعركة بينما أكدت الخطة على ضرورة تحييدها). وأدت سياسة تحرير المبادرة أثناء المواجهة إلى حصول تجاوزات خطيرة كما ساهمت في

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، حراكات اجتماعية ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني