تنشر المفكرة الحلقة الثانية من ملحق العدد 16: بعد صمت لعقود ” كريم عبد السلام ” الصندوق الأسود لواقعة باب سويقة يوثق شهادته: حكاية من الماضي برؤية مستقبلية. وبالامكان الاطلاع على الحلقة الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة من الملحق.
تزامنت بداية عقوبتي مع انطلاق إدارة السجون في تطبيق سياسة صارمة في مواجهة مساجين النهضة[1] الذين كان يصطلح رسمياً على تسميتهم بالمساجين ذوي الصبغة الخاصة .[2]قامت هذه السياسة على فرض اختلاط بينهم وبين مساجين الحق العام، بما يلائم الادّعاء بكون ما ينسب لهم من أفعال من قبيل جرائم الحق العام مع اعتماد ممارسات تمييزية في مواجهتهم اصطلح على تسميتها بخطة التاءات الثلاث وهي التشريد والتجويع والتجهيل.
التشريد: ويتمثل في فرض نقل دورية للمساجين ذوي الصبغة الخاصة من سجن لآخر بما يضمن عدم تطور تأثيرهم الأدبي على غيرهم من مساجين الحق العام من جهة وبما يساعد في السيطرة عليهم واستضعافهم من جهة ثانية[3].
التجهيل: ويقوم على منع إدخال وسائل التثقيف والتعلّم للمساجين، إذ لم يكن يسمح إلّا بإدخال الأوراق والأقلام للغرف مرة واحدة في الأسبوع وبقدر محدد لكتابة رسائل للأهل.
التجويع: كانت السجون تقدّم لنزلائها وجبتي طعام يومياً تسمّى في لغة المكان “الصُبَة”، وهي تفتقر للقيمة الغذائية ولا تلتزم بالتنويع الغذائي، زيادة على كونها في الغالب سيّئة المذاق. وكان جميع من في السجن بمن فيهم إدارته يعلمون مسبقاً أنّ مآل تلك الوجبات القمامة، لكون المساجين يعوّلون في قوتهم اليومي على “القفة”[4] وهي “المؤونة” التي تجيز لوائح السجن لعائلات المساجين تقديمها لهم بمناسبة الزيارة الأسبوعية.
لم تحرم إدارة السجون المساجين ذوي الصبغة الخاصة من الحق في القفة، لكنها قيّدته بشكل تستحيل معه ممارسته كفعل تعذيب لأسرة السجين. وكان هذا بأن فرضت على أسرهم دون سواها من أسر المساجين فصلاً ليوم تقديم القفة عن يوم الزيارة. ويؤدّي هذا الشرط في اقترانه مع سياسة التشريد لأن تكون الإعالة الدورية شبه مستحيلة[5]. ويبدو الهدف من هذا الإجراء خلق حالة هشاشة في صفوف هذه الفئة من المساجين قد تسهّل على إدارات السجون اختراقهم بامتيازات بسيطة. وقد اصطلح على تسمية هذا المخطط بسياسة التجويع.
خلال فترة حبسي، تنقّلت بفعل السياسات الخاصة تلك بين 14 مؤسسة سجنية، كانت المسافات بينها كبيرة كما كانت ظروف الإقامة متباينة بينها أيضاً وتتأثر كثيراً بدرجة اكتظاظ الغرف وشخصية مدير السجن وقدرة أمي على تحمّل مصاريف التنقل لجلب القفة لي. ولكنها في عمومها كانت قاسية جداً وشكّلت بالنسبة لي مناسبة لمراجعات عميقة كما كانت سبباً في توحّد مساجين الانتماء ومنهم أنا في تنظيم نقابي قد يكون تجربة فريدة من نوعها.
زمن للمراجعة: فقدان الحقيقة التي كنت أمتلك
دفعتني أسئلة من التقيتهم من المحكوم عليهم في القضية ذاتها عن حقيقة وقائعها وسعي سواهم من مساجين النهضة وراء المعرفة ذاتها، للتساؤل حول جدوى العملية التي شاركت فيها ومدى صواب سياسة المواجهة التي كنت من حطبها.
كنت في ليل سجني الطويل والرتيب أخشى النوم باكراً خوفاً من متحرّش ممن اعتادوا نهش أجساد المساجين الأطفال أو لص يسلب قوتي القليلة وأمثال هؤلاء كثر في الغرف التي مررت بها. وكنت أشغل نفسي خلال سهري باستعادة ذكريات تجربتي، ما سبق الحادثة وما تبعها. ووجدتني في كل ليلة أتخيّل السلطاني [6] والنار تلتهم جسده وهو يستغيث بي وأنا عاجز عن المساعدة وأجيب مقسماً بأغلظ الإيمان أنّي وكل من خطط للعملية لم نكن نقصد قتلاً ولا إضراراً. طلبت منه العفو أكثر من مرة فانكسر بذلك ما كان من فخر عندي بعنفي. كان مخيالي وهو يحاول أن يطرد “السلطاني” يستحضر “مصطفى” الذي بمجرد حضوره يسأل عمّن يتحمّل ذنب إعدامه. أنفي المسؤولية وأذكر القيادة التي أذنت بالعملية والتي كان هو وعامل الجهة من تواصلوا معها. أتذكر القاضي الظالم الذي حكم بالإعدام، أكيد هو القاضي نفسه الذي وقفت أنا أمامه. وكان قلقي في كل مرة يؤكّد لي أنّ السلطاني لم يغفر لي وأنّ مصطفى لم يقتنع بإنكاري المشاركة فيما كان له من مآل فيزيد تعبي. وطرداً لهواجسي، عدت لربي. استغفرت وشكوت أمري فأنا لم أكن يوماً أحبّ إيذاء غيري. قرأت القرآن طلباً لحفظه ورحمة لكل من تضرّر من حادثة باب سويقة. وأشهدت في هذا الله على كوني ومن معي لم نكن نظن أن يحدث مثل هذا ولم نكن نقصده.
وإذ اشتدّ قلقي وأرقي، قررت بدءاً من يوم 13-09-1993[7] أن أصوم شهرين كاملين كفارة على القتل غير المتعمد الذي حصل. أتممت “الدّية” بدون أن أصل للراحة التي أبحث عنها فلم أقطع صَومي. وكان ذلك عهدي إلى أن خرجت من سجني صائماً صيام وصال لا أفطر إلّا أيام التشريق وعيد الأضحى للواجب الشرعي أو في حالة المرض الشديد للضرورة. لم يمنعني في هذا صيامي المسترسل وحفظي اليومي للقرآن من أن أطرح على نفسي أسئلة تتجاوز أبواب باب سويقة والنهضة والسياسة لتتعلق بالقيم الإنسانية، وقد لا تنسجم مع بعض عقيدتي ومنها المسألة المثلية والإعدام.
المسألة المثلية
في لحظة من لحظات قذارة الحياة السياسية بتونس استعملت السلطة الجنس في صراعها مع النهضة وتحديداً مع المنتسبين لها المودعين سجونها. وأخذ هذا الاستغلال بُعدَين: أولاً، تحريض مساجين على التحرّش بالمنتمين للحركة أو أقلّه التسامح معهم في صورة التشكّي بهم من أجل فعل كهذا؛ وثانياً، إيداع مساجين الحركة من فترة إلى أخرى في الغرف المخصصة للمثليين.
واجه مساجين الحركة التحرّش كسياسة بالتعويل على قوّتهم التي استمدّوها من وحدتهم فكان الجميع يحمي الجميع من الخطر الذي يستهدفهم ويهدف من يقفون وراءه لضرب ما عرفوا به من استقامة أخلاقية. على مستوى شخصي، كشف لي المرور بغرف المثليين في إطار العقوبة أو الاقتراب من بعضهم المثليين الذين كانوا يتوزّعون على الغرف، عن حجم المعاناة التي تعيشها هذه الفئة بسبب ميولها الجنسية. كنت قبل سجني أكفّر المثليين وأخجل من مجرّد الركوب قرب أحدهم بوسيلة نقل وكنت أظن أنهم منحرفون. فهمت وأنا في السجن حجم الخطأ فيما كنت أظنّ في المناسبة ذاتها التي تبيّنت فيها خطورة استضعاف هذه الفئة على القيم الإنسانية الجامعة التي كانت تجمعنا في الغرف. فلم يكن المرور بغرف المثليين بالنسبة لي ولمن كانوا في مثل وضعي فرصة لتنفيس كبت وبالتالي للخروج عن نمط سلوكي نلتزم به – كما كان يأمل من يخططون له – بقدر ما كان مناسبة للاكتشاف والفهم.
كان غالبية من يصنّفون مثليين وتفرد لهم غرف خاصة، ممن حكم عليهم في قضايا حق عام من قبيل الاعتداءات بالعنف أو من جرائم السرقات التي استعمل فيها العنف. وفي فترة إيداعي غرفة المثليين بسجن 9 أفريل، نمت صداقة بيني وبين “توتو” وهو مثلي يحترم كثيراً مساجين الحركة ويحرص على أن يوفّر كل ظروف الراحة لكل من يصادف منهم تبركاً وطلباً لرضاء الله فقد كان يظن أنهم “على بركة” كما كان يردد بلا ملل في كل مرة يتطوّع فيها لغسل ملابس أو ترتيب سرير. سألته مرة وقد كان على درجة عالية من الثقافة والاطّلاع المعرفي عن مفارقة أن يكون أغلب من معنا من مثليين متهمين بالعنف فقال لي “وما الغريب، ألم يُقل لك سابقاً أنّ كبار باندية تونس[8] مثليون؟ يحتاج المثلي قوته ليحمي نفسه وتفرض عليه قسوة المجتمع في كثير من الأحيان أن يقتات بقوة جسده... كريم أنت وجماعتك “متاع سياسة”[9] رجائي أن تتذكروا هذا يوم ستصبحون في السلطة، الدنيا دوّارة[10]“.
الإعدام كعقوبة
كان يتم إيداعي، بحكم التهمة والأفعال التي تنسب لي، في “الكراكة” بكل السجون التي تردّدت عليها. والكراكة في عرف المكان هي الغرفة التي تضم بين جدرانها المحكومين بالمدد الطويلة والمصنّفين “خطرين”. وقد فرض تواجدي مع هؤلاء عليّ أن أنخرط في مجتمعهم بقيمه ذاتها، تلك القيم التي اتّضح لي أنّها لا تختلف كثيراً في احتكامها لقانون القوة عن قيم المجتمع السياسي الذي كنت وغيري من مساجين الحركة نحسب عليه.
كنت قبل هذا قد هربت من عنف محيطي الاجتماعي إلى السياسة التي دفعتني إلى عنف “ثوري” كان من أثر ممارسته أن عدت إلى مربّع البداية. تبيّنت عند هذا الحد أنّ التمايز بيني وبين غيري ممن تمت محاكمتهم من أجل عنف أو قتل ليس بالعمق الذي كنت أظن. كلنا نمارس العنف بغطاء من التبريرات تراوحت بين “رد الفعل” و”الغضب” و”الظروف القاسية”.
التقيت هناك محكومين بالإعدام. نمت علاقات صداقة بيني وبين عدد منهم. وكان من أبرز ما لاحظت أن الغالبية منهم لم يكونوا من المنحرفين قبل واقعة القتل التي نُسبت لهم. فرض اللقاء في ذهني سؤالاً لازمني عن عدالة عقوبة تنهي الحياة وقد يكون مزاج القاضي ما برر النطق بها أو قد يكون جهله بحقيقة الوقائع سبب قضائه بها. وكان مصطفى – وبصرف النظر عن عدالة المحاكمة التي خضع لها – الذي مازلت متمسّكاً أنه أعدم ظلماً سبباً في سؤالي حول عدالة الإعدام في المطلق.
كنت أظنّ قبل سجني أنّ الإعدام وغيره من العقوبات الجسدية من حكم الشرع الذي سيكفل متى طبّق، العدالة الحقيقية. فهمت بفعل ما تعرّضت له من تعذيب وما خبرت من محكوم عليهم بالإعدام أنّ العقوبات الجسدية تهين البشر ولا تحقق العدل كما أنّها عقوبات لا يمكن إصلاح ما يعتريها من خطأ. تلك العقوبات مطلقة في أثرها بما لا يجوز معه منطقاً أن تصدر عن قاض يصدر أحكاماً نسبيّة وهذا كفيل وحده برفضها. أبعدتني أسئلتي عن الإعدام وبعض الحيرة الوجودية عمّا كنت أظنّه الحقيقة المطلقة. كما أبعدتني عن قناعات الجماعة التي لأجلها دخلت السجن من دون أن تفصلني عنها.
كان تحصيلي العلمي يوم دخلت السجن محدوداً وكانت رغبتي في التعلّم والمعرفة كبيرة. حرمت وكل من سجن من تلاميذ وطلبة من حق مواصلة التعليم، كما حرمنا من فرص تطوير معارفنا. فقد كانت مكتبة السجون لا تضم في رفوفها إلّا الكتب التي تمجّد نظام بن علي وكنّا نسميها “الكتب البنفسجية”[11].
استحضرت في مواجهة التجهيل المتعمّد ثقافة التعلّم بالمشافهة التي خبرتها في حلقات جامع الزيتونة وبحثت بواسطتها في علم غيري من مساجين الحركة الذين كانوا من مشارب معرفية متعددة ومن المتميزين في مجالات تخصّصهم. فكنت في كل مرة ولشهور ألازم أحدهم ملازمة التابع للشيخ طلباً لعلم أتعلّمه وكان من فضائل السجن عليّ أن استفدت من معارف متعددة أكملت نقصاً تعليمياً أعانيه بسبب الاضطهاد السياسي. وعند هذا الحد كان تقاطعي مع مساجين الإنتماء مفيداً لي على مستوى شخصي، كما كان تضامني وإياهم في الدفاع عن حقوقنا مفيداً لعموم المساجين.
السجن ساحة لنضال نقابي
تذكر مصادر متعددة أنه خلال محنة التسعينيّات، اعتقل في السجون التونسية آلاف الأشخاص ممن كانت تهمهم على علاقة بالانتماء للنهضة. على أرض الواقع، أدّت ضخامة عدد المساجين الإسلاميين لأن تكون السجون ولمدة تزيد عن العقد، المكان الوحيد الذي يجمعهم ويلتقون فيه داخل البلاد. فقد دعم نقل النهضويين من سجن إلى آخر هذا اللقاء من حيث لم يدرِ من كان يدير السجون، بحيث أقيم تواصل دائم بين مختلف السجون.
استشعر الشباب المساجين – أو من يصطلح على تسميتهم بجيل المحرقة – خطورة تطوّر الممارسات التعسّفية في حقهم، خصوصاً أنّها كانت تتطور يوماً بعد آخر بفعل حماسة مديري السجون ودفع مساجين الحق العام للانخراط فيها. كما التقى جانب من هؤلاء حول سؤال تقييم السياسات التي أدّت إلى المواجهة مع السلطة أو ساهمت على الأقل في إذكائها.
وقد وصل تعسّف سلطات السجون إلى حد منع المساجين من أداء صلاة الصباح بحجّة أنّ أداء تلك الصلاة يقلق المساجين غير المصلّين. كما قاد التوحّش السلطة نفسها إلى جمع المصاحف من كل الغرف لمنع المساجين من حفظ القرآن. واستعمل السجّان مساجين الحق العام كحربة في تنفيذ سياسته بتحريض بعضهم على تعنيف من يصلّون أو يرتلون القرآن. وأدّى المس بالمقدّس وما تزامن معه من مظاهر إهمال صحي إلى فرض لحمة بين جيل الشباب من مساجين الحركة[12] قادت إلى ردود فعل مقاومة[13] تطورت إلى تنظيم مهيكل.
اعتمد الشباب لتعزيز التواصل فيما بينهم حركة التنقلات داخل السجون والقدرة على استقطاب مساجين الرأي العام واستعمالهم في تبادل الرسائل بينهم. وكان من ثمار هذا التهيكل أن قادوا بتاريخ 07-11-1996 إضراباً عاماً عن الطعام شمل مختلف السجون ودفع النظام إلى التنبّه لقوّتهم.
توالت لاحقاً التحرّكات الاحتجاجية لمساجين الانتماء. وكان موضوعها تقديم حلول لحاجيّاتهم وقد نجحوا بفضلها في إنهاء سياسة التشريد وفي خلق اختراقات في مواجهة سياسة التجهيل. من أبرز محطاتها ما أصبح يسمح به بين فينة إلى أخرى، من إدخال كتب إلى الغرف كنّا نتبادلها فيما بيننا ونسعد بمطالعتها[14]. وكان من أثرها أن بات مساجين الحركة يحكمون إلى حد بعيد داخل السجن وهو أمر كان قائماً بتاريخ 23 أفريل 2003 تاريخ خروجي من السجن[15] وإستمرّ بعده.
التقييم: سؤال حول المسؤولية
كانت حادثة باب سويقة وما سبقها من محطات مواجهة مع السلطة وما لحقها موضوع سؤال دائم داخل مجموع مساجين الحركة في سياق تقييمي. وكان السؤال التقييمي يتطوّر في صفوف مجموعات من الشباب المساجين، خصوصاً الطلبة والتلاميذ، إلى سؤال حول مسؤولية القيادة عن المواجهة مع السلطة خصوصاً فيما يتعلّق باختيار ساعتها وحدود نطاقها واستعمالهم فيها من دون اعتبار لهشاشتهم. تحوّل بفعل هذا الضغط السؤال عن التقييم إلى استحقاق، وهو استحقاق فشلت قيادة الحركة في المهجر في محاولتها الاستجابة له بسبب عدم جرأتها في تحديد المسؤوليات.
حررت ثورة 14-01-2011 تونس وتحررت معها الحركة، وعادت قيادات المهجر وعاد تنظيم الداخل إلى النشاط. وجدتني هنا أبتعد عن الحزب وقد أعيد تأسيسه لاعتبارات على علاقة بتطور رؤيتي للشأن العام وبرفضي العودة مجدداً إلى حظيرة الإتباع والاعتقاد. ولم يمنعني انسلاخي هذا من مواصلة متابعة الحراك الداخلي الذي قاده من كانوا معي بالسجن والذي رفع شعار التقييم. وكنت أتابع وأهتم لأنّي وبكل بساطة معنيّ بمطالبهم وأعتقد أنّه من حقي كما هو من حق من يشاركون فيه ممن دفعوا ثمن مغامرات قيادة قامرت باندفاع وصدق شباب اعتقد فيها، أن نستمع لتقييم فيه تحميل للمسؤوليات.
منعت القيادة خلال أول مؤتمرات الحزب كل حديث عن التقييم بدعوى حماية لحمة الحزب. وفرض شباب الحركة أن يكون التقييم أولوية في ثاني المؤتمرات. وصدرت عن المؤتمر العاشر للحركة لائحة تقييمية فيها جانب من الاعتراف بالمسؤولية ولكنّي أقدّر هنا أنّ ما أُعلن كان دون السقف الذي أطمح له، لغياب تحميل المسؤوليات وترتيب الأثر عليها منعاً لتكرار الأخطاء نفسها. ويؤكد هذا حاجتنا الملحّة إلى فهم أعمق للعدالة الانتقالية التي خرجت من سجني مقتنعاً بحيويتها[16].
- نشرت هذه الحلقة في الملحق الخاص بالعدد 16 من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة الملحق اضغطوا على الرابط أدناه:
ملحق العدد 16 من مجلة المفكرة القانونية: حكاية من الماضي برؤية مستقبلية
[1] تعهدت هيئة الحقيقة والكرامة فيما تعلق ببحثها في انتهاكات النظام الاستبدادي بـ29137 عريضة موضوعها المعاملة القاسية واللاإنسانية في السجون ومراكز الإيقاف.
[2] كان في مرحلة أولى يتمّ التنصيص على هذا التصنيف في وثائق السجن حتى تلك التي تسلّم للمساجين. لاحقاً تم التراجع عن هذا التنصيص بعد أن تبيّن للنظام أنّ دولاً قبلت طلبات لجوء سياسي لمساجين سابقين بالاستناد للتصنيف الظاهر واستبدلته إدارة السجون بمصطلح “انتماء” في تمييز جديد بين المتّهمين بالانتماء للنهضة وغيرهم.
[3] ينصّ الفصل الثالث من القانون عدد 52 لسنة 2001 مؤرخ في 14 ماي/أيار 2001 الذي يتعلق بنظام السجون على “تنقسم السجون إلى ثلاثة أصناف: سجون الإيقاف وتأوي الأشخاص الموقوفين تحفظياًـ سجون التنفيذ وتأوي الأشخاص المحكوم عليهم بعقوبات سالبة للحرية أو بعقوبة أشدّـ السجون شبه المفتوحة وتأوي الأشخاص المحكوم عليهم من أجل الجنح، والمؤهلين في العمل الفلاحي. يتم اعتماد هذا التصنيف حسب الإمكانيات المتاحة، على أنه يجب التفريق في كل الحالات داخل السجون بين الموقوفين تحفظياً والمحكوم عليهم.
[4] تسمّى قانوناً المؤونة وتم تشريعها في إطار حق السجين في الحفاظ على روابطه الأسرية. هناك حالياً مطالبات حقوقية بالعدول عنها لما تسبّبه من تمييز بين المساجين ولما تؤدي له من تخلّ من الدولة عن واجباتها تجاههم. فقد ورد في الفصل 18 من نظام السجون “للسجين الحق في الحفاظ على الروابط العائلية والاجتماعية وذلك بتلقّي المؤونة والطرود والملابس التي ترد عليه من أهله”.
[5] تخرق هذه السياسة في ركائزها الثلاث الفصل الأول من القانون المتعلق بنظام السجون والذي ينص على أنه من واجب إدارة السجون أن “تكفل حرمة السجين الجسدية والمعنوية وإعداده للحياة الحرة ومساعدته على الاندماج فيها. ويتمتع السجين على هذا الأساس بالرعاية الصحية والنفسية وبالتكوين والتعلم والرعاية الاجتماعية مع العمل على الحفاظ على الروابط العائلية”. كما تخرق الفصل 19 من القانون ذاته الذي ينصّ على حق السجين في الحصول “على أدوات الكتابة وكتب المطالعة والمجلات والصحف اليومية عن طريق إدارة السجن ووفقاً للتراتيب الجاري بها العمل. ويتم إيجاد مكتبة بكل سجن تحتوي على الكتب والمجلات المعدّة للمطالعة والحصول على الوثائق المكتوبة الأخرى التي تمكّنه من متابعة برامج دراسته بالمؤسسات التعليمية من داخل السجن ومتابعة برامج التعليم والتثقيف والتوعية التي تنظمها إدارة السجن”.
[6] عمارة السلطاني هو من مات حرقاً في مقر لجنة التنسيق. تمسّكت الرواية الرسمية سابقاً بكونه عامل حراسة بلجنة التنسيق وقد كذّبت ذلك لاحقاً ابنته في شهادة لها وأكّدت انه كان من ناشطي حزب الدستور ومؤسسيه وكان يتطوّع لحراسة المقر في إطار لجان اليقظة. يرجى مراجعة تحقيق قناة الجزيرة السابق الذكر في الفصل الثاني.
[7] صودف أنّي اتخذت قراري في اليوم نفسه لتوقيع اتفاق غزة – أريحا أولاً وهو اتفاق زاد في ألمي لكون القضية الفلسطينية كانت على أهمية كبرى في تصوّري السياسي.
[8] فتوات أو لنقل الأشخاص المعروفين ببطشهم وقوتهم الجسدية.
[9] تحترفون السياسة باللهجة التونسية.
[10] الأمور تتقلب وتتغير.
[11] بعد انتخابات 1989، تحوّل اللون البنفسجي إلى لون يرمز لحركة النهضة. نزع لاحقاً النظام هذه الرمزية عن ذلك اللون من خلال إعلانه اللون المفضل لبن علي واللون الرسمي لرئاسة الجمهورية. وبات كل حديث او كتابة تمجّد النظام بشكل مبالغ فيه ويغيب عنه الحسّ النقدي يسمى في الوسط الشعبي والسياسي المعارض خطاباً بنفسجياً.
[12] كانت غالبية القيادات في العزلة أي في غرف تخصص عادة لمساجين لا يوجد رغبة في أن يخالطوا عموم المساجين خوفاً من تأثيرهم أو طلباً لحمايتهم وتمييزهم.
[13] في ليلة من ليالي سنة 1994 علت أصوات من الغرفة رقم 2 جناح س بسجن 9 أفريل تستغيث وتردد “جماعة الانتماء قتلوا الكبران”. ودبّت حركة كبيرة في السجن في حينها. في اليوم التالي، اتّضح أن شباب الحركة وبفعل مضايقات الكبران لهم ردّوا بتعنيفه. كما لاحظ الجميع خوفاً من مساجين الانتماء من السجّانين ومن كانوا يتحرّشون بهم من مساجين الحق العام. ومن دون سابق اتفاق وتنسيق توالت لاحقاً وبسرعة كبيرة حملات تأديب الكبران. وأدّى رد الفعل هذا إلى تغيير جذري في قواعد التعامل داخل الغرف وخارجها وكشف عن أهمية التصدّي الجماعي للهرسلة اليومية.
[14] كانت تحرّكات عنيفة وقاسية استعملت فيها أجساد المساجين كوسيلة مقاومة من خلال الإضرابات عن الطعام والتي كانت غالباً إضرابات وحشية وقد استشهد خلال هذه التحركات كل من: علي المزوغي سنة 1997 – رضا الخميري 1997 – عبد الوهاب بوصاع 2002.
[15] غادرت السجن بنهاية العقوبة لم أتمتع بأي شكل من أشكال العفو الخاص وكان هذا حال أغلب مساجين الحركة ممن رفضوا الانخراط في منظومة الاستقطاب بالسجن.
[16] قبل يوم واحد من الإفراج عنّي كتبت هذا النص الذي يختزل إلى حد بعيد تصوّري للتجربة. “السجن تجربة بشرية موغلة في التوحّش والإنسانية تتصارع في فضائها المغلق المتناقضات التي تسكننا وتطفو على سطح أفعالنا تجربة الدفاع عن الحياة وحق العيش. لم يكن السجن رغم قساوته خالياً من الضوابط. كان فيه حدّ من الانضباط المعياري الذي جرى به العرف في فضاء الهامش والخارج عن الورقة والرافض لقوانين المجموعة. الإنسان هو الإنسان وهو يقتل وهو يسرق وهو يكذب وهو يسطو. يسكننا الشر ينفس مستوى الخير والعدالة مفهوم مبني على القيم والقيم تتغيير في كل زمن لهذا هي نسبية. ولا يمكن إسقاط عدالة اليوم على عدالة الأمس…”. يذكر أني قضيت المدة التي صدر بها الحكم كاملة إذ لم يسند لي أيّ عفو خاص وهذا كان حال أغلب مساجين الحركة.