صورة لقرية شمع حصلت عليها "المفكّرة" من القمر الاصطناعيّ OnGeo™ Intelligence مؤرّخة بـ 24 تشرين الأوّل 2024
كشفت صور الأقمار الاصطناعية، المؤرّخة يوم 24 تشرين الأوّل، عن دمار واسع داخل الموقع الأثري في قرية شمع، حيث أظهرت تدميرًا جزئيًا لمقام النبي شمع، ومعصرة الزيتون، وأربعة من البيوت القديمة، إضافة إلى المقبرة التاريخية والأدراج المحيطة. ووردت أنباء اليوم في عدد من وسائل الإعلام عن عمليّة تفجير شهدها الموقع، وقال مصدر رسميّ لـ”المفكّرة” إنّ شهود عيان نقلوا أنّ القلعة والمقام لا يزالان قائمين.
ويعدّ الموقع، الرابض على تلّة مشرفة على الساحل الممتد من صور إلى حيفا، رمزًا بارزًا لتراث المنطقة، ويضمّ القلعة الصليبية ومزار النبي شمع الذي يُنسب ضريحه إلى شمعون الصفا (القديس بطرس)، أحد حواريي السيّد المسيح، وعددًا من البيوت التي تشكّل البلدة القديمة. ويتمتّع موقع شمع الأثريّ بحماية اتفاقيّة اليونسكو باعتباره مصنّفًا على لائحة الجرد العام، كما منحته المنظمة الحماية المعزّزة يوم 18 تشرين الثاني مع 33 موقعًا آخر، وذلك بناءً لطلب كانت الحكومة اللبنانية وجّهته إليها.
تأتي هذه الاعتداءات التي شملت أيضًا أعمال هدم وتجريف في الأحياء السكنية والمرافق الحيوية في شمع، طالت 42 من أصل 108 مبنى في القرية، ضمن استراتيجية إسرائيلية أوسع تكرّرت في قرى الشريط الحدودي وتتوسّع اليوم إلى قرى الخطّ الثاني خلف الحدود. وقد وثقت “المفكرة” سابقًا أدلة على استباحة القوّات الإسرائيلية للموقع الأثري واستخدامه لأغراض عسكرية، رغم تمتّعه بحماية منظمة اليونيسكو.
وذكرت تقارير إعلامية يوم أمس الأحد 25 تشرين الثاني 2024، أنّ القوّات الإسرائيلية انسحبت من بعض المناطق التي تقدّمت إليها في البيّاضة التابعة جغرافيًا لشمع، وسط مقاومة عنيفة واجهتها من وحدات حزب الله القتاليّة. وتؤكّد هذه المعطيات استمرار المعارك، وتجعل التدمير يبدو كجزء من استراتيجية إسرائيلية موازية للعمليات العسكرية، حيث يتم استهداف المواقع الأثرية والبنية التحتية للقرى خلال عمليّات التوغّل، بما يترك أثرًا دائمًا عليها.
كما أظهرت الصور مؤشرات خطيرة على تمركز آليات عسكرية إسرائيلية على مقربة من موقع قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) جنوب غرب القرية، في انتهاك واضح للقوانين الدولية التي تحظر استخدام المواقع المحمية، مثل منشآت الأمم المتحدة، لأغراض عسكرية أو كغطاء للعمليات القتالية.
تدمير الموقع الأثري
تدمير الموقع الأثري
يقع الموقع الأثري على أعلى تلّة مشرفة على الساحل الممتدّ من صور إلى حيفا. وتُعد تلّة شمع معلمًا أثريًا يمتد تاريخه إلى الفترة الرومانية، حيث تمّ العثور فيه على فسيفساء بيزنطية تعود إلى القرون الأولى للميلاد. وهي تشكّل مع محيطها واحدة من أهم حواضر منطقة جبل عامل تاريخيًا، يحيطها سور متين تتصل أجزاؤه بتسعة أبراج نصف دائرية.
ينقسم الموقع إلى ثلاثة أقسام رئيسية تعكس تنوّع استخداماته عبر العصور: القلعة الصليبية، وقد بُنيت فوق موقع بيزنطيّ عام 1116 ميلادي وفق ما وثّقه المؤرخ الفرنسي جون ريتشارد، ويشار إليها محلّيًا بـ “دار الشيخ”، حيث جدّدها وسكنها حاكم مقاطعة الشعب الشيخ واكد في القرن الثامن عشر لتكون مركزًا إداريًا وحصنًا دفاعيًا.
وإلى الغرب من القلعة، “دار النبي” الذي يضمّ المزار الدينيّ “مقام النبي شمع” حيث الضريح المنسوب إلى شمعون الصفا وكذلك مرفقاته التي تشمل المضافة ومعصرة الزيتون وصهريج مياه مقبّب تحت أرضيّ والمقبرة القديمة؛ وأخيرًا “دار الحاج عبّاس” التي تضم البيوت التاريخية التي سكنها الأهالي قبل توسّع القرية خارج أسوارها.
وبحسب صور الأقمار الاصطناعيّة التي حلّلتها “المفكّرة”، والمؤرخة في 24 تشرين الثاني 2024، دمّرت القوّات الإسرائيليّة القبّة الجنوبيّة الغربيّة في “مقام النبي شمع” الذي تعلوه 4 قِباب بتصميم معماري فريد في المنطقة.
وتمّ تدمير معصرة الزيتون التاريخية، التي كانت نموذجًا للمعاصر التقليدية في المنطقة، وتميّزت بمكبس مصنوع من خشب السنديان المحلّي ولولب منحوت يدويًا لاستخراج الزيت، إضافة إلى حجر رحى دائري يُستخدم لطحن الزيتون، يُدار بواسطة خيل مربوطة بالحجر المثقوب. وشمل التدمير المقبرة التاريخيّة، وفيها أجيال من آباء وأمّهات أهالي القرية.
أما ناحية البيوت القديمة، فقد وثّقت الصور تدمير ثمانية منازل على التلة، بينها ثلاثة منازل تاريخية، تضم مضافة كانت تستقبل المسافرين والزوار، ومنزلين قديمين كان يقطنهما أجداد أهل شمع، مما يجعلها جزءًا الذاكرة الجماعية للقرية.
ووثّق مواطنون في فيديو حصلت عليه “المفكرة” وتحقّقت من أنّه يعود إلى 15 تشرين الثاني، استخدام القوّات الإسرائيليّة الموقع الأثري لقرية شمع للتحصّن، مع ورود تقارير عن استخدامها له لسحب الجرحى، وبيّن الفيديو وقوف الجنود الإسرائيليّين فوق سطح معصرة الزيتون، وظهرت معالم القلعة والمزار الديني والبيوت سليمة.
أبعد من تدمير الحجر
ويُظهر استهداف موقع تلّة شمع الأثري أبعادًا تتجاوز مجرّد العمليات الميدانية، لترتبط بأهداف سياسية بعيدة المدى.
وقال مهدي درويش (25 عامًا) من قرية شمع، إنّ استباحة القوّات الإسرائيليّة للموقع الأثري أشعره بـ “انتهاك لكرامة القرية وتنديس لهويّتها”، وقال في شهادته لـ “المفكّرة”: “شعرت بأنّ القوّات الإسرائيلية تعوّض خسائرها في الميدان بانتهاك هويّتنا وذاكرتنا ومقدّساتنا والتعدّي علينا كأصحاب لهذا الموقع ومن خلال أعمال انتقاميّة”.
بدوره قال ه. د. في شهادته لـ”المفكّرة” (مغترب من شمع تمنّع عن مشاركة اسمه بسبب ظروف إقامته في بلد أجنبيّ) إنّ هذه المشاهد “تظهر لي وجود مشروع لمحونا ماديًا ومعنويًا كأفراد ومجتمع، لكنني أتمسّك بمقاومته”.
وتشكّل أعمال التهديم والتجريف أدلة واضحة على نيّة التدمير لدى القوّات الإسرائيليّة، مع استباحتها السابقة للموقع الأثري، رغم منحه الحماية المعزّزة من قبل منظّمة اليونسكو في 18 تشرين الثاني.
ومن الناحية القانونية، يشكّل استهداف المواقع الأثرية والثقافية خرقًا واضحًا لاتفاقية لاهاي لعام 1954 الخاصة بحماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح، والتي تلزم الأطراف المتحاربة بحماية المواقع ذات الأهمية الثقافية وتجنّب استخدامها أو تعريضها لأيّ أضرار.
ووفقًا للاتفاقيّة عينها، يتحمّل المعتدي المسؤولية الكاملة عن الأضرار التي تلحق بالممتلكات الثقافية. وصنّفت “المفكّرة” استخدام القلعة وتفخيخها على أنّه جريمة حرب وانتهاك لحظر الأعمال العدائية الموجّهة ضدّ الآثار التاريخية التي تشكّل التراث الثقافي والروحي للشعوب، كما حظر استخدامها في المجهود الحربي.
المزار الديني وتظهر قببه الأربعة (تصوير إبراهيم صفيّ الدين)
تدمير البنية التحتيّة
خلال تحليل صور الأقمار الاصطناعيّة الحديثة، وثقت “المفكرة” تدمير مشروع الطاقة الشمسية المحاذي للجبّانة الجديدة في القرية. المشروع، الذي نفّذته البلدية قبل سنتين ونصف السنة، وكان يضمّ 170 لوحًا شمسيًا مخصّصًا لضخ المياه من البئر الأساسيّة في القرية إلى الخزان الرئيسي في القلعة، لتستفيد منها منازل الأسر الـ 150 في شمع.
وفقًا لعضو البلدية وأمين الصندوق فيها محسن درويش، فإنّ المشروع كان يمثّل شريان الحياة للسكان، حيث وفّر المياه لري المنازل والأراضي الزراعية.
ويقول درويش إنّ “هذا المشروع كان يعني الكثير لأهالي القرية، لأنّه كان المصدر الوحيد لتأمين المياه. وكان مشروعًا متقدّمًا حيث سمح لنا بتأمين المياه بالاعتماد على الطاقة الشمسيّة فقط، من دون بطاريّات، ومن دون حاجة للمازوت. تدميره ليس مجرّد استهداف مادي، بل هو استهداف لحياة السكان اليومية”. وكشف عن أنّ المشروع كلّف أكثر من 70 ألف دولار أميركيّ.
إبادة القرية
كما كشفت صور الأقمار الاصطناعية عن حجم الدمار الذي طال قرية شمع، حيث أحصت “المفكرة” تدمير 42 مبنى، معظمها منازل سكنية، إلى جانب فيلّات وقصور. كما أظهرت الصور عمليات تجريف واسعة استهدفت الطرقات، بما في ذلك تجريف الإسفلت، وتدمير الأراضي الزراعية المحيطة باستخدام آليّات وجرّافات.
وفي صور الأقمار الاصطناعيّة المؤرّخة في 26 تشرين الأوّل، يمكن إحصاء 9 مواقع للتدمير فقط في القرية، وقد ارتفع هذا الرقم أكثر من 4 أضعاف بالترافق مع محاولات الغزو الإسرائيليّة، ما يضعها في إطار عمليّات الغزو.
في قلب القرية، تمّ تدمير مسجد قديم. بجوار المسجد، تمّ تدمير حسينية النساء بشكل كامل، بينما تعرّضت حسينية الرجال لأضرار.
ويُظهر تحليل “المفكّرة” لصور الأقمار الاصطناعية أنّ جرّافات دخلت من فوق ركام المسجد والحسينيّة قبل أن تتحرّك إلى مزرعة تعود ملكيتها لعائلة درويش. ومن المزرعة، تابعت الجرافات مسارها إلى منزل مكوّن من طابقين، بُنيَ بطراز يشبه القلاع، فدمّرت الجدار المحيط به ومرفقاته، وجرّفت من حوله. ويشير التحليل إلى أنّ المنزل تعرّض لقصف لعلّه مدفعي من مسافة قريبة، قبل أن تدخل الجرّافات، ممّا يفسّر تدميره الجزئيّ وتحوّله إلى ما يشبه أطلالًا ضخمة.
ويقول مهدي، الذي تربّى في هذا البيت: “لم يعتصر قلبي لرؤية المنزل مهدّمًا فحسب، بل لرؤية الوحشية التي تمثّلت بتجريف أجزاء منه وحديقته وأشجار الزيتون واسطبل المواشي، ومحيطه الذي يشمل المسجد والحسينيتين وساحتهما، فهذه ذكرياتنا التي يتمّ الدوس عليها وسحقها، وهذا الأسلوب بالتدمير تحديدًا يظهر كراهية لنا كأفراد وكأصحاب ماديين ومعنويين لهذه الأماكن”.
المنزل الذي تربّى فيه الشاب مهدي درويش ابن شمع
من خلال التدقيق في صور الأقمار الاصطناعيّة، يبدو أنّ مسار الجرافات، الذي يمكن تتبّعه بوضوح هنا، يعكس تصميمًا على التدمير الممنهج، بخاصّة وأنّ المواقع المستهدفة – المسجد، الحسينيّة، المزرعة، والمنزل – لا يمكن أن تشكّل بذاتها خطرًا عسكريًّا يعالج بجرّافة. هذا يتماشى مع نمط مدروس لمحو المنشآت المدنية من دون مبرّر عسكري واضح.
تمركز بمحاذاة اليونيفيل: مؤشر خطير
وأبرزت صور الأقمار الاصطناعيّة تمركز آليات عسكرية إسرائيلية وجرّافة على مسافة يمكن وصفها بالخطيرة من موقع “اليونيفيل” في قرية شمع. وأظهرت الصور أيضًا قيام القوّات الإسرائيلية بأعمال تجريف بمحاذاة الموقع.
ويُظهر هذا التمركز الخطير نمطًا إسرائيليًّا متكرّرًا ضدّ مواقع قوات اليونيفيل، مثلما حدث في مارون الراس في 6 تشرين الأوّل 2024، حينما دانت اليونيفيل في بيان رسميّ تحركات الجيش الإسرائيلي المحاذية لمواقعها ووصفتها بأنها تهديد مباشر لسلامة عناصرها.
سياق تاريخي
تعرّض الموقع الأثري في شمع لاعتداءات إسرائيليّة متكرّرة على مدى عقود، بدءًا من تجريف البوابة التاريخية عام 1998 خلال الاحتلال الإسرائيلي، واستخدامه كموقع عسكريّ للاحتلال حتّى عام 2000. وفي عدوان عام 2006، دُمّر أكثر من 80% من القلعة، بحسب أرشيف وكالة الأنباء البريطانيّة. بما في ذلك الأبراج والباحات والمقام الديني المجاور، نتيجة القصف الإسرائيلي المباشر.وتثبتت لجنة التحقيق الأممية عقب عدوان عام 2006 من أنّ الجيش الإسرائيلي تسبّب بأضرار كبيرة وغير متناسبة في الممتلكات الثقافية والأثرية والتاريخية في لبنان، بما لا يمكن تبريره بالضرورة العسكرية. وشملت هذه الممتلكات قلعة شمع التي عانت من أضرار كبيرة.
خلاصة
يُعدّ الموقع الأثري في شمع الذي يمثل رمزًا للتاريخ المشترك والتراث المحلي، أكثر من مجرّد موقع محميّ يشكّل استهدافه بالتالي جريمة حرب، بل هو ركيزة أساسية تعزّز انتماء السكان لأرضهم. استهداف هذا الموقع يشير إلى نمط من جرائم الحرب تهدف إلى تفكيك النسيج الاجتماعي للسكان عبر تدمير رموزهم الحضارية.
ويعكس الدمار الذي طال المنشآت المدنية والخدمية والزراعية في القرية سياسة ممنهجة تستهدف مقومات الحياة اليومية للسكان، عبر ضرب بنيتها التحتية بشكل شامل. ويتجلّى هذا النمط من العمليات في تدمير المساكن والمساجد والمرافق الحيوية كأنظمة المياه والطاقة، ممّا يعكس تجاوزًا واضحًا للضرورة العسكرية وتجاوز الأهداف العسكرية المباشرة نحو استهداف البنى الأساسية للحياة المدنية.
ومع استمرار المعارك في محور شمع – البيّاضة لليوم العاشر، يبدو أنّ القوّات الإسرائيلية توسّع من استراتيجية بدأتها في القرى الحدوديّة، وتهدف إلى محو معالم القرى ككيانات تاريخية حاضنة للمجتمعات، ليس لدواعٍ عسكرية، بل في محاولة متعمّدة لإضعاف ارتباط السكان ببيئتهم التاريخية والثقافية، وضرب الذاكرة الجماعية للمنطقة والتي تشكّل عنصرًا رئيسيًا في مقاومة مشاريع السيطرة وإعادة تشكيل الهوية.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.