منذ فترة طويلة عُدّ لبنان “جنّة للحرية” يُتاح فيها للإنسان أن يعبّر دون حدود عن أفكاره وآراءه، حيث يعيش الناس في وئام على اختلاف أهوائهم السياسية والفكرية والدينية. وإن كانت الحرب الأهلية التي استمرت لخمسة عشر عاماً، بدءاً من العام 1975 وحتّى العام 1990، قد كشفت زيف ذلك، إلّا أن عبارة “بلد الحريّات” ما زالت مقرونة حتّى اليوم بلبنان.
وإن كان صحيحاً أنّ اللبنانيين يتمتّعون، حتّى اليوم، بهامش حريّةٍ أكبر من معظم مواطني الدول العربية المجاورة، إلّا أنّ ذلك ليس مرتبطاً بممارسةٍ ديمقراطية حقيقيّة متأصّلة في النظام والثقافة السياسية ولا بإيمان صادقٍ من الدولة وأجهزتها بحقّ الأفراد بالتعبير. يمثّل تعاطي السلطة من خلال الرقابة على الأعمال السينمائية والمسرحية خير نموذجٍ على ذلك، إذ تعتري السلطة الرقابية المعطاة لجهاز الأمن العام مشاكل قانونية متعدّدة، واستنسابيّة في التطبيق لا تخلو من الاعتباطية، إضافة إلى تدخّلات جهات أخرى دون وجه حق.
هكذا نظم القانون الرقابة المسبقة: معايير مطاطة للسينما ورقابة مطلقة للمسرح
يفرض مكتب الرقابة في الأمن العام على جميع السينمائيين الحصول على موافقة مسبقة منه قبل الشروع في تصوير الفيلم. يمارس المكتب هذه الرقابة بناءً على تعميمٍ داخلي، وبحكم سلطة الأمر الواقع. باستثناء القانون الذي أصدره المفوّض السامي الفرنسي في العام 1934، حيث أناط فيه بنفسه هذه الصلاحية، لكنه صار بحكم الملغى منذ الاستقلال في العام 1943، إذ لا يوجد أيّ نصٍ قانوني يتيح الرقابة المسبقة على تصوير الأعمال السينمائية. بكل الأحوال، حتّى ولو حصل صانعو العمل على الموافقة، فإنّهم يحتاجون إلى أذونات أخرى كي يتمكّنوا من التصوير دون أيّ مشاكل. عدا عن الأذونات المطلوبة من مديرية الجيش ومديرية الأمن الداخلي في حال كان التصوير سيتم بأماكن يتواجد فيها عناصر من الجيش أو الدرك، ويضطرّون أحياناً للحصول على موافقة الجهات الحزبية النافذة في المناطق التي يصوّرون فيها، أو حتّى شركات خاصة، كما في حالة “سوليدير”، حيث يتوجّب الحصول على إذن منها للتصوير في وسط المدينة.
أما للحصول على إجازة عرض فإنّ الشروط نفسها تتطبق على الأفلام المحلّية والأجنبية، إذ تخضع جميعها للقانون الصادر في العام 1947، الذي ينصّ على إخضاع جميع الأشرطة السينمائية للرقابة ويلحظ اعتبارات عدّة تتيح عرض الفيلم أو منعه، وهي: احترام النظام العامّ والآداب وحسن الأخلاق، احترام عواطف الجمهور وشعوره واجتناب إيقاظ النعرات العنصرية والدينية، والمحافظة على هيبة السلطات العامّة، ومقاومة لكل دعوة غير مؤاتية لمصلحة لبنان.
يظهر جليّاً مقدار سعة هذه العناوين و”مطاطيتها”، ممّا يعطي الرقيب هامشاً واسعاً في الحذف والمنع، إلّا أنّها تظل أفضل من الرقابة على المسرح. وكان المسرح عرف لفترة وجيزة حريّة واسعة في هذا المجال في إثر ما جرى أثناء عرض مسرحية “مجدلون”. تعود الحادثة إلى العام 1969، حين اقتحمت قوة من الأمن الداخلي مسرح بيروت ومنعت عرض المسرحية. دفع ذلك فريق العمل إلى إكمال العرض في الهواء الطلق، ورفع روجيه عساف بعدها دعوى قضائية على وزارة الأنباء لغياب النص القانوني الذي يتيح الرقابة المسبقة على الأعمال المسرحية وكسبها، فاتحاً الباب بذلك أمام المسرحيين للغوص في المواضيع الأكثر جدلية دون خشية الرقيب. لكن اندلاع الحرب دفع الدولة لاستصدار المرسوم الاشتراعي الرقم 2 الصادر في 1-1-1977 والذي فرض الرقابة المسبقة على جميع النصوص المسرحية، وأعطى الأمن العام الحق في رفض العرض كلّياً أو جزئيّاً من دون أيّة معايير أو توجيهات.
مقص الرقيب حين يعمل
لم تهتم أجهزة الدولة بكون هذه القوانين بالية عفا عليها الزمن، أو بكونها صدرت في ظروف استثنائية كما في حال مرسوم الرقابة على المسرح. عدا عن ذلك، فإنّ تطبيقها تشوبه أيضا الكثير من المشاكل. لا يكتفي الأمن العام بتجاوز صلاحياته عبر فرض الرقابة المسبقة على النصوص السينمائية، بل يبيح لنفسه حقّ منع الفيلم أو عرضه خلافاً للقانون الصادر في العام 1947. نصّ القانون على أنّ الأمن العام في حال كان لديه اعتراضات على فيلم معين، عليه أن يحيل الأمر إلى لجنة أخرى تحيله بدورها إلى وزير الداخلية الذي يملك وحده الحقّ بمنع العرض. يُضاف إلى ذلك استغلال الجهاز الرقابي لمرونة النص القانوني، الذي ينص على احترام النظام العام واحترام عواطف الجمهور والحفاظ على السلم الأهلي.
تعمل المخرجة السينمائية إليان الراهب كمخرجة لأفلامٍ وثائقية وكمنظّمة مهرجانات. أتاح لها ذلك التعرّف على الجهاز الرقابي وآليات عمله ومقدار الاعتباطية والاستنسابية في قراراته. تؤكّد الراهب في حديث لـ”المفكرة القانونية” على غياب آلية عملٍ واضحة للجهاز الرقابي. تقول: “هناك اعتبارات واسعة ولا حدود لها، ولا توجد أيّة معايير واضحة تفصل المقبول عن الممنوع. مثلاً هناك الحجّة المستخدمة بكثرة: الفيلم يهدّد السلم الأهلي. لكن مفهوم السلم الأهلي يتغيّر بين فترة وأخرى. في الماضي كان ممنوعاً مهاجمة الجيش السوري أيام تواجده في لبنان، واليوم صار من الصعب توجيه النقد لحزب الله وحركة أمل، أو الحزب الاشتراكي، ومؤخّراً التيار الوطني الحرّ”.
بدوره يوافق جنيد سري الدين، أحد مؤسّسي فرقة “زقاق”، على كلام الراهب، يقول: “لا يوجد معيار موحّد، هناك أشياء مسموحٌ قولها اليوم تصير ممنوعة غداً، يؤثّر على ذلك التقلبات السياسية والتغيّرات في موازين القوّة”.
وبينما يشير سري الدين إلى أنّه لم يقع حتّى الآن صدامٌ حاد بين فرقته والأمن العام، تتحدّث الراهب عمّا جرى خلال الدورة الأخيرة من “أيام بيروت السينمائية” في وقتٍ سابق من هذا العام. تقول: “قرّرت الرقابة أن تمنع فيلم “واجب” للمخرجة الفلسطينية آن-ماري جاسر وفيلم “بانوبتك” للمخرجة اللبنانية رنا عيد. فيلم جاسر لا شيء فيه يوجب فرض الرقابة، ليس أول فيلمٍ فلسطيني يعرض في لبنان، لا شخصيات إسرائيلية فيه، ولا يروّج للعدو بأي شكل من الأشكال. ولم تكن هذه أوّل مرة نعرض فيها أفلاماً فلسطينية. اضطررت وقتها للتفاوض مع وزير الداخلية، بعدما أحيل إليه الملف. وبالفعل وافق على عرضه”. تضيف: “أما بالنسبة لفيلم رنا عيد، فهي حصلت على أذونات للتصوير في سجن العدلية ولم تصور أيّ شيء خلسة. طلب الأمن العام حذف المشهد وعدم إظهار وجوه بعض الشخصيات، لكنّها رفضت. ومرّة أخرى تدخل وزير الداخلية وأعطى الموافقة، لكنّ الأمن العام تدخّل مرّة أخرى ليقول إنّ ذلك ليس من صلاحيات المشنوق لأنّ الملف لم يرسَل إليه، ومُنع الفيلم فعلاً. كان الوضع في غاية العبثية”.
إذ تبيّن الحالة الأولى الازدواجية غير المفهومة من قبل الجهاز الرقابي -حيث عُرضت في السابق أعمال أنتجت في الداخل الفلسطيني المحتل من دون أيّة مشكلة، من بينها أفلام المخرج إيليا سليمان- فإنّ الحالة الثانية تثبت تجاوز الأمن العام لصلاحياته حينما رفض تحويل الفيلم إلى وزير الداخلية وأصدر قراره بالمنع، وذلك لأنّ المخرجة التي تحصّلت على الأذونات منهم للتصوير رفضت حذف جملة تقول: “إن المسجونين في نظارة الأمن العام يمكن أن لا يحاكموا ويتمّ نسيانهم تحت الأرض”. يعني ذلك بالمعنى الواسع أنّ على الفنان أن يتقيّد برؤية السلطة للوضع، ما هو تناقض مع أحد المكوّنات الفنيّة الأساسية: الحرية. ممّا يزيد الأمر سوءاً أنّ السلطة هنا لا تعني أجهزة الدولة فقط، بل تعني الأحزاب والمؤسّسات الدينية التي تدخّلت أكثر من مرّة لتمنع تارةً ولتحذف تارةً أخرى. تبقى المواضيع المتعلّقة بالدين، والجنس، والسياسة والحرب الأهليّة الهاجس الأساسي للرقيب الذي يمعن فيها حذفاً وتقطيعاً، بناءً على اعتبارات عشوائية في معظمها.
إلّا الدين
يعتبر “المسّ” بالرموز والشعائر الدينيّة مدخلاً أساسياً للأمن العام لكيّ يمارس الرقابة. وهو، وإن كان يقوم بها من تلقاء نفسه، كما فعل في مسرحية “فيفا لا ديفا” للمخرج نبيل الأظن عندما حذف عبارات اعتبرت مسّاً بالدين، منها “ليه الحسين متل ابن الله؟” إلّا أنّه لجأ في كثيرٍ من الأحيان للمرجعيات الدينية. حدث ذلك مع الفيلم المصري “مولانا” حيث عُرض بعد حذف عددٍ من مشاهده بطلب من دار الفتوى، وتكرّر مع فيلم “اسمعي” لفيليب عرقتنجي الذي أجبر المخرج على تغطية شيخ درزي ببقعةٍ سوداء عوضاً عن حذف المشهد بضغطٍ من دار الطائفة الدرزية، ومؤخّراً مع الفيلم الأميركي “الراهبة” الذي منع من العرض الشهر الماضي بضغط من المجلس الكاثوليكي للإعلام بحجّة “أنه مسيء للدين المسيحي ويشوه صورة الراهبات”.
في السياق نفسه، تشير الراهب إلى أنّ موافقة الأمن العام على العرض لا تعني بالضرورة حصوله: “يمكن أن تضغط لجان أخرى على الأمن العام لإلغاء العرض، مثل المركز الكاثوليكي للإعلام، ودار الإفتاء وغيرهم، فيرجع الأمن العام عن موافقته. وحتّى لو تمّ تجاوز كلّ ذلك، يمكن للضغط في الشارع أن يؤدّي إلى منع الفيلم”. تعطي الراهب ما جرى مع فيلم “طيارة من ورق” للمخرجة الراحلة رندة الشهال مثالاً، إذ أنّ الفيلم عرض عند إنتاجه في العام 2003، لكن عندما أراد تلفزيون “الجديد” بثّه في العام 2010 اعتصمت مجموعة من الشيوخ والمواطنين الدروز رفضاً لذلك، وهو ما حصل فعلاً حيث اضطرت القناة إلى إلغاء العرض. تكرّر هذا الأمر مع فيلم “تنورة ماكسي” لجو بو عيد، الذي سحب من الصالات تحت ضغط رجال الدين المسيحيين وبفعل حملةٍ إعلاميةٍ شرسة ضدّه قادها الإعلامي طوني خليفة.
جنس بدون مثليّة
شكّل الجنس هاجساً أساسياً في البدايات بالنسبة للرقيب، لكنّ ذلك تغيّر مع الوقت حيث نشهد اليوم تسامحاً كبيراً مع المشاهد الجنسية، ومن النادر أن نسمع بمنع أفلامٍ أو الحذف منها لهذا السبب. لكن حتّى هذا التسامح يخضع لمعايير غريبة، بحسب الراهب، “قال لي أحد العاملين في مكتب الرقابة أنّه لا مشكلة لديهم مع الجنس، لكن هناك شروط أيضاً مثل ألّا تتجاوز مدّة لقطة يظهر فيها صدر امرأة عار أكثر من خمس ثوان، وألّا تظهر عورة الممثل اللبناني أو العربي حصراً في الفيلم”.
بكلّ الأحوال يظلّ هذا التسامح محصوراً في الأفلام التي لا تتناول المثلية الجنسية و”لا تروّج لها”، بحسب مفاهيم الأمن العام، إذ أنّ جميع الأفلام التي تتناول المثلية الجنسية تمنع من العرض في حال صوّرت العلاقة الجنسية.
يظهر مقدار الحساسية الموجودة لدى الجهاز الرقابي تجاه المثلية. من أشهرها مؤخّراً في السينما منع عرض فيلم “بيت البحر” لروي ديب العام الماضي لأنّه، بحسب ما صرّح به مصدر في الأمن العام لجريدة “النهار”، “يروّج للمثلية الجنسية ويسيء للبنان ويصوّر جميع اللبنانيين إما مثليي الجنس أو أنهم يوافقون عليها، وهذا خلاف للواقع وإساءة للبنان، ويسيء لصورة المرأة التي يظهرها تستجدي الجنس لرجل يرفضها”.
أما في المسرح، فيروي جنيد سري الدين ما جرى مطلع العام الحالي في ستوديو “زقاق”، يقول: “تضمّنت فعاليات بيروت برايد، المعنية بمناهضة رهاب المثلية، مطلع العام الحالي إقامة قراءة مسرحية لعملٍ يتناول موضوع المثلية الجنسية في ستوديو زقاق. قبيل انطلاق العرض اقتحم عناصر من الأمن العام الستوديو ومنعوا إقامته ومن ثمّ اقتادوا المنظّم إلى مخفر حبيش”. لم يعمد الأمن العام في هذه الحالة إلى إيقاف عرض فيلم أو منع عرض مسرحية، بل تجاوز كلّ الحدود إلى درجة منع الناس من التجمّع للإستماع إلى نص. يقول سريّ الدين ساخراً: “هل سمعت بقانون يمنع القراءة بصوتٍ عالٍ؟”
بين الحرب و”الدول الشقيقة”
تنقسم مهمّة الرقابة فيما يتعلّق بالمواضيع السياسية إلى قسمين، الأوّل مرتبط بالسياسة الخارجية والرغبة بعدم “التعرّض للدول الشقيقة”، والثاني مرتبط بالسياسة المحليّة، ولا سيما ما يتعلّق بالحرب الأهلية.
تحضر في القسم الأول نماذج عدّة، أهمها منع الفيلم الإيراني “الأيام الخضراء” الذي يتناول الاحتجاجات في الشارع الإيراني بعد إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيساً في العام 2009. الأمر نفسه بالنسبة لعرض “عن أهمية أن تكون عربياً” للمسرحي المصري أحمد العطار في العام 2012 لاعتراض الأمن العام على ما اعتبره تعرّضاً للرئيس المصري السابق حسني مبارك ورموزٍ من نظامه، رغم أنّ العرض قُدّم دون تعديل في مصر في العام 2010، أي خلال فترة حكم مبارك.
أما في القسم الثاني، فقد انخرط معظم الفنانين اللبنانيين، قبيل انتهاء الحرب الأهلية وحتّى اليوم، في إنتاج أعمالٍ سينمائية ومسرحية تعالج موضوعات الحرب والصراع الطائفي في لبنان. تعامل الجهاز الرقابي بصرامة مع هذه الأعمال وصانعيها. منعت أفلام عدة من العرض، مثل “متحضّرات” للمخرجة الراحلة رندة الشهال لأنّه “يسيء إلى صورة لبنان”، و”شو صار” لديغول عيد و”لي قبورٌ في هذه الأرض” لرين متري بحجّة “إثارة النعرات الطائفية”. فيما أجبرت سينمائيين آخرين على حذف مشاهد معيّنة من أفلامهم، كما جرى مع سيمون الهبر في فيلمه “سمعان بالضيعة” وأكرم زعتري في “اليوم” حيث أجبرهما الأمن العام على حذف مشاهد تتحدّث عن مشاركة “الحزب الاشتراكي” و”حركة أمل” في الحرب.
أما في المسرح فقد حضرت الرقابة قبل إنتهاء الحرب مع منع مسرحية “أمرك سيدنا” (1985) لزهراب يعقوبيان لكونها “تتعرّض لشخص رئيس الجمهورية (آنذاك) أمين الجميل، وتواصلت بعدها مع منع “أرانب وقديسين” لشكيب خوري لتناولها موضوع الحرب قبل أن يعود ويسمح بعرضها. الأمر نفسه تكرّر مع مسرحية “لكم تمنت نانسي لو أن كل ما حدث لم يكن سوى كذبة نيسان” لربيع مروّة التي تحكي عن مقاتلين مفترضين في الميليشيات خلال الحرب. منع الأمن العام عرضها في البداية، قبل أن تؤدّي تدخلات وزير الثقافة آنذاك طارق متري إلى إعطاء الإذن بإقامة العرض.
تركّزت حجج الأمن العام على عناوين عريضة كالقول إنّ هذه الأعمال تهدّد الأمن الوطني وتثير الغرائز والنعرات الطائفية وتسيء إلى لبنان. أمّا السبب الحقيقي فيكمن في أنّها تعالج وتنقد، وتسمّي الأشياء بمسمياتها، وهو أمرٌ من الصعب أن يقبل الرقيب به. ترى إليان الراهب أنّ الأمر مرتبط بحسابات القوّة والضعف في البلاد، لكن الأكيد أنّه لا يمكنك أن تقول لأمراء الحرب أنّهم أمراء حرب، تضيف: “لو تطرّقت في فيلم بالنقد إلى رئيس المجلس النيابي لن يمرّ. فيلم رين متري منع لأنّه يتحدّث عن حرب الجبل، الأمر نفسه حصل مع سيمون الهبر حين تتحدّث إحدى الشخصيات عن قصف الحزب الاشتراكي لقريتها”. يوافق سري الدين على ذلك ويشير إلى أنّه “من الممنوع في لبنان تسمية الأشياء بأسمائها، وتوضع عوائق أمام الفنان حول كلّ ما يتعلّق بالسياسة والدين، وهو أمرٌ غير موجودٍ في التلفزيون مثلاً”.
تناقضات
يظهر التناقض بوضوح في تعامل الجهاز الرقابي مع مسرحية “الديكتاتور” لعصام محفوظ، إذ أنّها حملت عند كتابتها في العام 1968 اسم “الجنرال” لكنّ المخرج أجبر على تغيير الاسم لكي لا يحدث ربط بينها وبين رئيس الجمهورية آنذاك فؤاد شهاب. لكن حين عرضتها سحر عساف في العام 2016، استنسب الأمن العام أن تعرض باسمها الأساسي “الجنرال” بدل “الديكتاتور”.
رغم ذلك، تظهر تناقضات الرقابة في السينما أكثر بكثير من المسرح بسبب عوامل مختلفة. يلعب مضمون الفيلم وكيفية معالجته للقصة دوراً رئيسياً في تشدّد الأمن العام مع عرضه. أتيح مثلاً عرض فيلم بهيج حجيج الروائي “شتّي يا دني” لأنّ الفيلم وإن كان يتحدّث عن عودة أحد مخطوفي الحرب الأهلية إلى أسرته، إلّا أنّه لا يسمّي الجهات الخاطفة ولا يتعرّض بالنقد المباشر لأحد. من جهة أخرى، اشترط الرقيب حذف قرابة 47 دقيقة من “متحضّرات” لرندة الشهال بحجّة “الألفاظ النابية والخروج عمّا يحتمله الذوق العام”، رغم أنّه سمح قبل أسابيع قليلة بعرض فيلم “كفرناحوم” كما هو رغم “الألفاظ النابية” الكثيرة. كذلك صوّرت لبكي جزءاً من فيلمها في سجن العدلية من دون مشاكل، على العكس من رنا عيد.
يعود ذلك بالدرجة الأولى إلى أنّ لبكي لا تقدّم في فيلمها موقفاً نقديّاً للدولة وأجهزتها كما في حالة عيد. وكذلك بالنسبة للشتائم فهي وإن قيلت على لسان فتى صغير فإنّها وردت في سياق مختلف تماماً عن “متحضّرات” الذي يقدّم نقداً عنيفاً للمجتمع خلال الحرب الأهلية.
تؤثّر علاقة المخرج بالأجهزة الأمنية أو بشخصية سياسية في كيفية تعامل الرقابة مع عمله، بحسب الراهب. كما تشكّل شهرة المخرج من عدمها في تخفيف الضغط عليه، وكذلك الجهات المموّلة للفيلم. في فيلمه الأخير “قضية 23″، قدّم المخرج زياد دويري قصّة شجار بين لاجئ فلسطيني ومواطن لبناني مؤيّد لـ”القوات اللبنانية” على خلفية تبادل شتائم عنصرية. وتمثّل في الفيلم عدّة شخصيات عامة مثل رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ورئيس الجمهورية. رغم الحساسية المفترضة للموضوع إلّا أنّ الفيلم عرض كما هو دون حذف، وذلك لكونه حظي بدعمٍ معنوي من حزب “القوات اللبنانية”، وتمويل من رئيس مجلس إدارة واحدٍ من المصارف الكبيرة في لبنان. يحيلنا ذلك إلى فيلم دويري السابق “الصدمة” الذي منعه الأمن العام في العام 2012.
ضعف الدولة: أهلاً بالتدخّلات
يمثّل ما جرى مع زياد دويري في فيلمه السابق “الصدمة” نموذجاً عن كيف يؤدّي ضعف سلطة الدولة في بعض الحالات إلى تشديد الرقابة. اختار دويري التصوير في إسرائيل، رغم كونها دولة عدوّة، وقضى هناك 11 شهراً تعامل خلالها مع فريق عملٍ إسرائيلي وممثّلين إسرائيليين وفلسطينيين. أبلغ دويري الجهات المعنية قبل سفره، ولم يكن هناك اعتراض. وقدّم الفيلم بعد انتهائه إلى الرقابة وحصل على إذن بالعرض. ثمّ، تمّ منع العرض وسحب الفيلم. تقول إليان الراهب: “أنا مع مقاطعة إسرائيل. لكن في هذه الحالة أنا مشكلتي مع الدولة التي لم تحدّد موقفها من مخرج صوّر في إسرائيل. هذه مسؤولية الدولة لا لجنة المقاطعة الذي صار عملها أشبه بعمل الغستابو”. تشدّد الراهب على أنّها ضد الرقابة بالمطلق، وإلى أنّها تعمل حالياً على فيلم تعرف جيّداً أنّه لن يحظى بموافقة الرقابة. لكن في حال وجودها فإنّه يجب أن تظل محصورة بالدولة، “صارت هذه اللجان تحلّ محلّ الدولة، وتكتسب قوّة لا حقّ لها بها، وتأخذ هي في تحديد ما هو مسموح وما هو غير مسموح لي”. أمّا سري الدين فيرى أنّ “البلد قائم على أجهزة مرتبطة بجهات سياسية، لذا يخاف الرقيب السماح بعملٍ يزعج هذه الجهات، إن كانت دينية وإن كانت سياسية”.
ما العمل؟
يرى جنيد سريّ الدين أنّه لتضمن حريّة التعبير عليك أن تلغي الرقابة المسبقة. لكن طالما أنّ ذلك ليس قابلاً للتحقّق فلا يجب التوقّف عن العمل. “نحن نسعى دائماً لإيجاد طرقٍ تتيح لنا عرض أعمالنا، لأنّنا إذا استسلمنا نكون نؤدّي بذلك خدمة لمن يكرهون الفن”. توافق الراهب على رأيّ سري الدين فيما يتعلّق بإلغاء الرقابة المسبقة. يكمن الحلّ بالنسبة لها عبر “إنشاء لجنة تقوم بتقييم الأفلام على أساس الفئات العمرية، ولا تقوم بالمنع والقطع”. تعتبر ما جرى بعد منع فيلم رنا عيد شكلاً من أشكال مواجهة الرقابة، تقول: “وضعنا رابطاً للفيلم على الإنترنت مع كلمة السرّ. بدل مئتين أو ثلاثمائة مشاهد، حصل الفيلم على 3000 مشاهدة، وإن كان ذلك لا يعوّض عن المنع”.
تعتبر الراهب فعل الرقابة ممارسة متخلّفة، تقول: “يمنعون ويحذفون لخوفهم من امتلاك السينمائي رؤية أوسع ومقدرة أكبر على النقد. بينما لا مشكلة لديهم مع التفاهة، وربّما يشجّعونها. قلّة منهم تفهم ما تشاهده وهو ما يسبّب مشاكل إضافية”. أما سريّ الدين فيرى “أنّهم يخافون المسرح لأنّه مساحة حيّة ومباشرة مع الناس، وأي تجمّع يتفاعل فيه الناس تخاف منه السلطات”. ويضيف: “أنا لا أرى أنّ هناك حرية. هناك مساحات صغيرة بسبب التعددية الواسعة والاختلافات والخلافات يكون فيها شيء من الحرية. لكن هذه الحرية ليست جزءاً من المنظومة الثقافية الخاصة بالسلطة ولا في العقلية التي تحكم المجتمع والمؤسسات، لأنّ علاقتك كمواطن بالدولة لا تمرّ إلّا من خلال الطائفة وهنا مكمن المشكلة الأساسي”.
نشر هذا المقال في العدد | 57 | تشرين الثاني 2018، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
القمع ليس حيث تنظر: نظام المقامات