بعدما نام مشروع “تفعيل العمل بمشروع مقدّمي خدمات توزيع الكهرباء وتفعيل استقلالية عمل هذه الشركات” الذي سبق أن أقرّه مجلس الوزراء منذ صيف 2019، يبدو أنه عاد بقوة ليتصدّر المشهد الكهربائيّ. يشير تقاطع المعلومات أن البنك الدولي اشترط تحسين الجباية وتخفيف الهدر لتمويل مشاريع الكهرباء، ولا سيّما مشروع استجرار الغاز المصريّ والكهرباء الأردنية. وهو يعتبر أن ذلك لن يتم إلا في حال تنفيذ أمرين: زيادة التعرفة وزيادة صلاحيات شركات تقديم الخدمات تمهيداً للخصخصة الكاملة للتوزيع.
في الشق الأول، يبدو أن الأمور صارت على خواتيمها، ويتركز النقاش على بدء هذه الزيادة بالتوازي مع استجرار الغاز المصري، المرجّح في بداية العام، ورفع التغذية إلى حدود 10 ساعات يومياً. لم تحسم نسبة الزيادة بعد. لكن الأكثر تداولاً هو رفع التعرفة إلى معدل 15 سنتاً للكيلو واط على سعر 20 ألف ليرة، بما يعني أن معدّل التعرفة سيصل إلى 3000 ليرة للكيلو واط (المعدّل الحالي 130 ليرة، أي أن الزيادة ستتخطى 2300%). وهذه التعرفة ستُوزّع على شرائح استهلاك يبدأ أولها ب9 سنتات وصولاً إلى 20 سنتاً. وفيما يُتوقع أن لا تكون التعرفة ثابتة، إلا أن ذلك لن ينعكس شهرياً على قيمتها، بل سيتم الاتفاق على تعديلها كل فترة، في حال استمرت الفروقات الكبيرة في سعر صرف الدولار. أما بشأن الشريحة الأدنى (أي حتى 100 كيلوواط)، فقد اتفق على أن تبقى مدعومة، من دون أن تُحدّد نسبة هذا الدعم بعد.
في الشق الثاني، صار تمديد عقد الشركات الأربع لتقديم خدمات التوزيع، أي Butec (نزار يونس) وKVA (تحالف بين “الإنشاءات العربية” و”خطيب وعلمي”) وMrad (مصطفى مراد) وn.e.u (آل دباس) محسوماً. لكن لا يزال النقاش مستمراً بشأن توسيع صلاحيات هذه الشركات. وزارة الطاقة متحمّسة لإحياء مذكرة التفاهم الثالثة التي أعدت بُعيد إقرار خطة الكهرباء في العام 2019 وتنصّ على صلاحيات أوسع للشركات مقابل تقليص دور كهرباء لبنان في ما يتعلق بقطاع التوزيع. ولهذا، فإن المعارضة الأساسية للمشروع تأتي من المؤسسة التي تُفضّل تجديد العقد كما هو، ريثما يتحدّد توجُّه واضح لمستقبل القطاع. وهي لذلك، تقدّمت بطلب رأي هيئة الاستشارات والتشريع في وزارة العدل، تسأل فيه عن إمكان تطبيق قانون تمديد المهل على عقد مقدّمي الخدمات. إذا حصل ذلك سيكون بالإمكان الانتظار لبضعة أشهر قد يظهر فيها أي خطط للقطاع بأكمله، بدلاً من الذهاب فوراً إلى نزع صلاحيات من المؤسسة.
المشكلة الأهم أن أي زيادة في صلاحيات الشركات ستعني مباشرة تهديد مستقبل الموظفين العاملين في قطاع التوزيع في المؤسسة والذين يشكّلون نحو ثلثيْ عدد موظفي المؤسسة وعمالها وأجرائها (1400 عامل). أمام هذا الوضع، تحرّكت نقابة عمال ومستخدمي كهرباء لبنان، وعقدت اجتماعاً في الرابع من الشهر الحالي، رفضتْ فيه توسيع صلاحيات شركات مقدمي الخدمات وسألت عن مصير العمّال في مديريتي التوزيع من جراء توسيع نفوذ وصلاحيات الشركات وتسليمها المراكز التي يشغلونها منذ دخولهم إلى المؤسسة. وطالبتْ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي تأليف لجنة وزارية للإطلاع والتحقّق من الإخفاقات والإنجازات التي قامت بها شركات مقدمي الخدمات، بدلاً من المسارعة إلى التمديد والتجديد لها.
لا يدخل البنك الدولي في تفاصيل التعديلات المطروحة لكنه يدفع باتجاه أي خطوة على طريق الخصخصة، وبالتالي كفّ يد كهرباء لبنان تدريجياً عن القطاع. وهو لذلك، يدعو إلى التمديد لمقدمي الخدمات سنتين بعقد يسمح بتقليص الهدر.
باختصار، خطة إنهاء المؤسسة ليست وليدة اللحظة، وليس أدلّ على ذلك من اللامبالاة بشأن الدمار الذي لحق بمبنى المؤسسة من جراء انفجار مرفأ بيروت. فحتى اليوم لا خطط لترميم المبنى، الذي يضم محطة رئيسية ومركز تحكم. المطلوب منذ العام 2000 خصخصة قطاعي الإنتاج والتوزيع وترك قطاع النقل بيد الدولة، مع تعيين هيئة ناظمة. ولما كانت المعارضة كبيرة لمشاريع الخصخصة، بدأت هذه المعارضة تخفت نتيجة الواقع الراهن. فالخيار اليوم صار بين الرضوخ لشروط البنك الدولي والعتمة، ولا أحد مستعدّ لاختيار العتمة أو إيجاد حلّ وسط بين تأمين التمويل وحماية مؤسسة كهرباء لبنان، التي سيتآكل دورها أكثر، كلما تعزّزت صلاحيات مقدمي الخدمات.
بالنتيجة، يشير التعديل المطروح في مذكّرة التفاهم الثالثة إلى نقل عدد كبير من المهامّ إلى الشركات ومنها:
- الفوترة: تعترض الشركات على استمرار العمل بالقيمة النقديّة لفاتورة الكهرباء. وهي تختلف بذلك عن فواتير الاتّصالات أو الميكانيك، على سبيل المثال، التي تُعتبر بمثابة إيصال يؤكد عملية الدفع، ولها قيمة نقدية متوجبة بمجرد إصدارها وحتى قبل أن تُدفع. وإذ يسمح التعديل بالتعامل مع الفواتير بوصفها إيصال قبض، فإن ذلك يحتاج إلى تعديل النظام الداخلي لمؤسسة كهرباء لبنان.
- نقل صناديق القبض من المؤسسة إلى الشركات، وتعديل آلية الجباية وإعطاء الحق للشركات لطبع الفواتير. ويتطلب ذلك تعديلاً في القانون. كما يتطلب آلية فعّالة لمراقبة عمل الشركات، والتأكد من حجم الإصدارات.
- نزع التعديات: حالياً، يقوم المُلاحظ (صفة تعود إلى فترة الانتداب، وتعني المفتش)، الذي ينتمي إلى ملاك مؤسسة كهرباء لبنان، بالتفتيش عن المخالفات وتسجيلها، على أن يعود لاحقاً برفقة ممثل عن الشركة مقدمة الخدمات، وبمؤازرة أمنية، لنزع التعدي.
لكن يتطلب نقل هذه المهمة إلى الشركات إصدار قانون جديد. فالمُلاحِظ هو موظف محلّف في الإدارة يحقّ له تسطير محضر ضبط، بخلاف موظفي الشركات. وهذا الموضوع كان محور استشارة لهيئة التشريع والاستشارات، خلصت إلى عدم جواز قيام موظفين في القطاع الخاص بهذه المهمة، إلا بموجب قانون. وإذ تعتبر الشركات أن المطلوب مساواتها بشركات “باركميتر” التي يقوم موظفوها بتسطير المخالفات وحجز السيارات، فإن ردّ الإدارة يكون إن ما يجري في قطاع الباركميتر مخالف للقانون، وبالتالي بدلاً من التمثّل بهم ينبغي منعهم من القيام بهذه المهمة.
- خدمة الزبائن: تتولى الشركات مهمة استقبال التبليغات عن الأعطال أو الأعمال المطلوبة وتنفيذها من دون العودة إلى كهرباء لبنان، التي سيقتصر دورها على الرقابة.
- استيراد العدّادات وفحصها (حالياً لا يمكن تركيب أي عداد إذا لم تسلّمه المؤسسة)، وبسبب الأزمة المالية وعدم قدرتها على إطلاق أي مناقصة لشراء العدادات بسبب اعتماد ال1500 ليرة سعراً للدولار، وعدم تحمّل مصرف لبنان مسؤوليته لناحية تأمين حاجة المؤسسة من الدولارات، تتراكم طلبات تركيب العدّادات من المواطنين، حتى وصل عددها إلى نحو 100 ألف عداد. وبمعدل 50 ألف ليرة شهرياً للفاتورة، فإن 5 مليار ليرة تخسرها المؤسسة شهرياً من جرّاء عدم تركيب العدادات وتاليا عدم فوترة الاستهلاك، أي نحو 5% من إجمالي الجباية الشهرية المقدرة ب100 مليار ليرة.
- تنفيذ الأشغال المعتادة، أي تركيب المحطات والأعمدة ومدّ الكابلات وتركيب العدّادات والخطوط بدون الحاجة إلى إذن مسبق من كهرباء لبنان. وبعدما كانت الشركات غير قادرة على تنفيذ أي أشغال من دون موافقة المؤسسة، ستكون وفق المقترح الجديد مخوّلة تنفيذ أي أشغال تريدها، بعد مرور 14 يوماً على إرسالها الطلب للمؤسسة من دون أن تلقى ردّاً من الأخيرة أو اعتراضاً معللاً.
وإن كان بعض هذه الصلاحيات لا يلقى اعتراضاً مثل إلغاء القيمة النقدية للفاتورة (تحتاج إلى قانون) أو طباعة الشركات للفواتير…، إلا أن التعديلات تمنح الشركات صلاحيات واسعة قد تضر بالمالية العامة، كأن تقرر تمديد خطوط غير ضرورية أو الاستنساب في التعامل مع طلبات المشتركين وفي قمع المخالفات، إن لم تقترن برقابة فاعلة من المؤسسة. وتعتبر الشّركات أن وضع مؤشّرات أداء مرتبطة بتخفيض العجز سترغمها على السعي إلى أفضل الممارسات لتقليص السرقة والهدر وضبط التعديات وتركيب العدادات. لكن في المقابل، فإن ثمّة من يشير إلى أن الاعتماد على الرقابة اللاحقة هو أشبه بالوهم، فكيف ستعرف المؤسسة أن محوّلاً، على سبيل المثال، استُبدل لأنه يجب استبداله فعلاً؟ وكيف يمكن أن تعرف أن كابلات مُدّدت بالمواصفات المطلوبة أو أن أي أعمال نفذت كما يجب؟ المشكلة أن ما تحذّر منه المؤسسة متهمة به أصلاً، من الشركات ومن غيرها. وبالتالي فإن المطلوب آلية تضمن الحد من الفساد من أي جهة أتى.
الأخطر بحسب مصادر في المؤسسة هو تضمين مذكرة التفاهم ذريعة تُبرّر للشركات عدم تحقيق مؤشرات الأداء من دون التعرّض للمساءلة أو الحسم في الإيرادات. فكما في مذكرة التفاهم الحالية، كذلك تشير مذكرة التفاهم الجديد (المادة 11) إلى أنه في حال واجهت الشركات عوامل داخلية وخارجية تعيق عملها، يحقّ لها طرح هذه العوامل المعيقة على المؤسسة التي يفترض أن تراعي تداعياتها على مؤشرات الأداء والأهداف والالتزامات الموضوعة. وهذا سيؤدّي في النهاية، في ظل عجز المؤسسة عن ممارسة رقابة فعلية، إلى تحرير الشركات من أي مسؤولية عن عدم تحقيق المؤشرات المطلوبة، وبالتالي عدم تحمل أي مسؤولية عن عدم تخفيض الهدر.
هنا يعود السؤال الأساسي ليطرح مجدداً: هل كان مشروع مقدّمي الخدمات ناجحاً ليصار إلى تطويره؟ مصادر المؤسسة تسارع إلى حسم النقاش: الشركات لم تتمكن من تحقيق بعض الأهداف على مستوى قطاع التوزيع، ولاسيما تقليص الفجوة الكبيرة بين كلفة الإنتاج وقيمة الجباية وبقي العجز بمعدل 36٪. وبالتالي بدلاً من محاسبتها أو استبدالها أو على الأقل إجراء عملية تقييم للمشروع، لا يُعقل أن يكون الحلّ في مزيد من الصلاحيات مع الإبقاء على ذريعة الأسباب الداخلية والخارجية التي تعيق الوصول إلى الأهداف المنشودة.
وعلى سبيل المثال، شركتان فقط تمكّنتا من الوصول إلى الجباية الآنية (Mrad وBus) في حين لا تزال شركة n.e.u تجبي فواتير متأخرة سنتين وKVA فواتير متأخرة 4 سنوات. وهذا يعني أن المشروع أدى إلى خسائر هائلة للمؤسسة. فإذا كانت التقديرات تشير إلى جباية 100 مليار ليرة سنوياً، فإن هذا المبلغ كان يساوي 66 مليون دولار قبل العام 2019، في حين لا يساوي اليوم 5 مليون دولار. واللافت أن لا أحد يتطرق إلى مناقصات جديدة، معتبرا أننا في خضم فترة انتقالية.
في المقابل، تعتبر مصادر الشركات أنه لا يمكن التعامل مع التجربة بوصفها كلها غير ناجحة، خاصة أن الأساس أن هذه الشركات لا تعمل فعلياً كمقدمة خدمات أسوة بهذا النموذج في دول أخرى، بل تعمل بوصفها أقرب إلى متعهدين لدى مؤسسة كهرباء لبنان ينفذون الأشغال التي تطلبها. وعليه، لتقييم القطاع فعلاً ينبغي إعطاء الشركات الصلاحيات اللازمة لتصبح إسماً على مسمى. إذ لا يمكن محاسبة الشركات مقدّمة خدمات لا تعمل إلا بمقدار ما تسمح لها المؤسسة، إن كان على صعيد القرار أو على الصعيد الإمكانات المتوفرة. وعلى سبيل المثال، لو أن العدّادات متوفّرة أو يمكن للشركات تأمينها، لكانت ركّبت العدّادات ال100 ألف المؤجلة، وساهمت في تخفيض نسبة العجز نحو 10% (أصحاب الطلبات المقدمة يحق لهم “تعليق” الكهرباء إلى حين الحصول على العدادات).
اللافت أنه في العام 2019 لم تكن للشركات الحماسة نفسها لزيادة الصلاحيات. كانت حينها مترددة لأسباب عديدة، منها: رفض الوزارة تعديل كلفة الأعمال، وعدم الرغبة في زيادة المسؤوليات، فالموافقات المسبقة من المؤسسة تؤدي عملياً إلى تخفيف المسؤولية عن كاهلها.
حينها تبيّن أن الشركات لا تريد أنصاف الحلول. إما الخصخصة الكاملة وبالتالي توليها مسؤولية التوزيع، من خلال إقرار قانون شبيه بالقانون الذي كرّس حق كهرباء زحلة بتوزيع الطاقة. أي إن المطلوب عندها أن تحاسب المؤسسة الشركات على أساس الكيلوواط / ساعة، مع وضع مؤشرات أداء واضحة، بدلاً من تحميل المسؤولية للشركات من دون قواعد واضحة، خاصة في ظل التعقيدات الموجودة حالياً.
اليوم يبدو أن هذه الملاحظات سقطت تباعاً. أولاً أبدت الوزارة استعدادها للنظر بالأسعار (لا تزال المؤسسة ترفض أي تعديل)، وثانياً صارت الشركات تعتبر أنه لا بد من فترة انتقالية بين العمل بالفاتورة وبين تولّي مسؤولية القطاع. وهي بذلك تريد أن تنتظر مآل الوضع في البلد. فزيادة الصلاحيات بحسب ما هو مطروح حالياً لا يتطلب منها استثمارات كبيرة، بخلاف الخصخصة، التي تلزمها على الاستثمار في كل ما يسمح بتخفيض الهدر، لأن العائدات تذهب مباشرة إلى خزائنها.
أمام هذا الواقع، تعتبر مصادر المؤسسة أنه يفترض إعادة النظر بالمشروع برمّته وبالتالي التمديد للشركات سنة على السبيل المثال، ريثما يتم تحضير عقود جديدة تبنى على ما تحقق وما لم يتحقق في العقود السابقة، بدلاً من الذهاب مباشرة إلى مذكرة تفاهم أشبع بعقد امتياز ينهي أي فرصة لقيام مؤسسة كهرباء لبنان.