“
في حين كانت منطقة الكورة شمال لبنان وخاصة ما يسمّى بلدات الطوق ما تزال تقبع تحت وطأة شركات الإسمنت والمقالع والكسارات التي تنهش جبالها ووديانها وتعرض صحة أهلها لانبعاثات سرطانية مميتة، مثل الناشط البيئي الكوراني جورج عيناتي أمام القاضية المنفردة الجزائية في بيروت نيبال محيو، بعدما ادّعت عليه شركة الإسمنت “السبع” بجرم القدح والذمّ بحقها, وقد ججرت الجلسة بتاريخ 20/2/2019.
الادّعاء استند على مادة نشرها عيناتي على صفحته الخاصة “الفايسبوك” وهي تستعيد الرسالة التي كان وجهها للشركة من خلال أحد العاملين فيها. وعليه، ومرة أخرى، شهدنا في قصر العدل هذا المشهد الذي لم يعد يُحتمل: الشركة التي أمعنت في تدمير البيئة وتعريض آلاف الناس للخطر تنتصب ك “مدعية” لتطالب بحق ضائع، فيما يقف أحد أبرز المدافعين عن حقوق الناس بالبيئة والصحة، لمواجهة التهم التي تسوقها الشركة ضده بانتهاك حقوقها، وبخاصة حقها بالسمعة. بالطبع، أن تكون الشركة مرتكبة، لا يعني تجريدها من الحقوق. لكن أن تبقى انتهاكات هذه الأخيرة بمنأى عن أي ملاحقة قضائية، وأن لا تجد بالمقابل حرجا في الادّعاء ضد الشخص الذي يسعى إلى فضح انتهاكاتها هذه ولفت النظر إليها، فهذا هو الأمر الذي لا يحتمل.
ومن هذه الزاوية، تبدو قضية عيناتي ليست مسألة فردية، ولا مسألة خاصة بل هي قضية مواطن يتولى الدفاع عن مجتمعه، بعدما باتت المؤسسات عاجزة عن حمايته، وهي تاليا قضية عامّة. فإذا انتزع عيناتي إعلانا بحقه بفضح مخالفات الشركة، تشجع أهالي الكورة وأي ناشط في مكان آخر في مواصلة دفاعهم عن أنفسهم وعن الآخرين. ومؤدى هذا الأمر هو تعزيز أسلحة الناس في الدفاع عن أنفسهم ضد الاعتداءات المرتكبة ضدهم، حتى ولو تقاعست المؤسسات الرسمية في حمايتهم.
أما إذا تمت إدانته، فيخشى أن تشكل هذه الإدانة عامل تخويف تثنيه أو تثني أي ناشط آخر في الكورة أو خارجها، عن المضي قدما في كفاحهم السلمي. ومؤدى ذلك طبعا تعزيز حظوظ الجهات المخالفة للقانون في توطيد نفوذها وإضعاف قدرات الناس في التصدي لها دفاعا عن حقوقهم والصالح العام.
في هذا السياق، مثل عيناتي بتاريخ 20/2/2019 أمام القاضية.
تفاصيل الاستجواب
في قاعة المحكمة، وقف أمام منصتها، عيناتي يرافقه وكيله المحامي نزار صاغية (وهو المدير التنفيذي للمفكرة القانونية)، يقابلهما محامي الشركة خليل غريّب عن الشركة المدعية.
استهلت المحكمة الاستجواب بأسئلة طرحتها بشأن دوافع عيناتي. وقد أجاب عيناتي أن كلامه لم يتضمن شتائم وقال: “حضرة الرئيسة طبعا لم يكن هناك شتم. ولكن أنا كناشط بيئي وكمواطن لبناني حرّ، أدير وأترأس عددا من الجمعيات البيئية والزراعية على مساحة الوطن، وقمت بزراعة وتوزيع أكثر من مليوني شجرة زيتون وقمت بحماية العديد من الغابات والدفاع عن أرض الوطن، لم يكن بإمكاني الوقوف غير هذا الموقف ولو كان غيري لوقف موقفا أشد من ذلك. بلدتي كفر حزير تُدمّر وتُزال من الوجود وتقام على طولها وعرضها مقالع غير مرخصة. وقد أردت إيصال رسالة بذلك”.
وبسؤال القاضية عما إذا تقدم بأي مراجعات قضائية، أجاب أنه تقدم بإخبار إلى النائب العام البيئي غسان باسيل “طالبنا فيه الشركات بإبراز التراخيص التي تحفر بموجبها بلدتنا وتدمر بيئتنا ولكنها لم تتقدم بأي تراخيص، كما طالبناه بتوقيف نشاط الشركات المدمر”. كما بين أنه تقدم إلى “النيابة العامة المالية بإخبار جديد بشأن مصانع الإسمنت بفعل اعتدائها المتواصل على الأملاك العامة، ولوقف اعتدائها على الوديان الكورانية وبخاصة المياه الجوفية”.
وبسؤاله إن قام بتسمية أحد في تصريحه على الفايسبوك، أكد أنه”يسمي هذه الشركات وإنما قال مصانع الإسمنت في شكا والهري”.
وتوجه المحامي غريب بسؤال لعيناتي عن مقصده من اتهام الشركة برشوة أقزام السياسة، فرد عيناتي: “نحن لم نسمّ أي شركة. الذي حصل أننا كنا نقف على اطراف بلدة المجيدل وجاء المقاول مارون نعمة وطلب مني على نحو ودي أن نسجل مطالبنا للشركات على هاتفه الخاص ثم نشرت المطالب على وسائل التواصل الاجتماعية مثل أي نشاط بيئي نقوم به”.
ومن أسئلة المحامي غريب أنه “ضمن التسجيل طلب جورج عيناتي تنفيذ حكم الإعدام بأعضاء الشركة فإلى من توجه بهذا الطلب”. وهنا تدخل وكيله صاغية معقباً بأن”هذا الكلام لم يرد في التسجيل موضوع الدعوى.
وأراد جورج الاستشهاد بمداخلة للنائب سليم سعادة أدلى بها في الجلسة الاخيرة للبرلمان. وإذ قاطعته القاضية طالبة أن يرفق كل هذا بالمرافعة الدفاعية، تدخل المحامي صاغية طالباً أن يتسع صدر المحكمة لعيناتي لأن في صدد شرح دوافعه التي تتمثل في معاناة آلاف الأشخاص في الكورة”.
وأكدت القاضية أنها تدون كل الأسئلة التي تطرح والأجوبة عليها. ثم سمحت لعيناتي بمتابعة كلامه فشدد عيناتي أن” الكلام هو على لسان كل أهالي الكورة وهو الذي أكده النائب سليم سعادة بأن لنا عدوّان: مصانع الإسمنت أولا وإسرائيل ثانيا. وهذا يعبر خير تعبير على وضع الكورة”.
ولفت محامي الشركة إلى أن عيناتي “اتهم الشركة برشوة البلديات”، فرد عيناتي قائلاً: “نحن ندعو النيابة العامة المالية إلى التحقيق في المبالغ التي تدفعها شركات الإسمنت للبلديات سواء عن طريق ترضية تدفع لبعض البلديات أو مبالغ مقطوعة. وهذا يخالف جميع القوانين البيئة وهذا تهرب ضريبي. بينما مفروض أن تدفع 10 دولار عن كل متر مربع”.
وإذ طلب المحامي صاغية من المحكمة سؤال المدعى عليه عن الضرر الذي تسببه شركات الإسمنت والمقالع والكسارات التابعة لها في منطقة الكورة عموماً وبلدة كفرحزير خصوصاً لأنه أساسي لفهم دوافع المدعى عليه،
إلاّ أن القاضية محيو اعتبرت أن بالإمكان تضمين هذه الأمور في المرافعة. إذ ذاك، علّق عيناتي قائلاً: “أدعوك حضرة القاضية لزيارة الكورة. هل سمعت ببلد أزيلت ودمرت كل مقومات حياته؟”
ثم طلب المحامي من المحكمة سؤال المدعى عليه:”ما هي القرارات التي صدرت عن بلدية كفرحزير أو اتحاد بلديات الكورة بخصوص هذه المقالع؟” وإذ عادت القاضية لتطلب تضمين هذه الأمور في المرافعة، علّق صاغية قائلا: “عفوا، حضرة الرئيسة، لكن هذه الاسئلة تشكل خلفية الدعوى، فنحن في صدد دعوى تأمل منها الشركة حرمان عيناتي من حرية التعبير دفاعا عن نفسه وبلدته وبيئته ومن خلاله حرمان جميع أهل الكورة من ذلك. يعني “منها قصة زغيرة هيدي قصة شعب عم بيموت من جراء أفعال الشركة. القصة مش قصة حدا قلل أدب مع الشركة، القصة قصة شركة عم تستبيح الطبيعة وحقوق الناس كلها. عندما يكون هنالك موجب بالتشهير بالمخالفة، اقتضى الاعتراف بالحق. فإذا كان هناك مناضل يناضل من أجل منطقته نأتي ونحاكمه بقضية قدح وذم أو نكافئه على خلفية دفاعه عن قضيته؟”
وهنا أوضح عيناتي: “لقد أصدرت بلدية كفرحزير واتحاد بلديات الكورة قرارين بوقف هذه المقالع ومنع إقامة مقالع في منطقة كفرحزير لأنها مصنفة أراضي زراعية”.لافتاً إلى أن “معظم أشغال هذه الشركات مخالفة للقانون”. وفي الختام، أردف:”هناك خطة ممنهجة لقتل من تبقى في الكورة من أجل الاستيلاء على ما تبقى من ترابها”. وفي موازاة ذلك، كانت وزيرة الداخلية ريا الحسن تحيل إلى وزارة البيئة زهاء 70 ملف كسارة كان أعطى وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق موافقته على عملها خلافا للقانون وبما بخرج تماما عن صلاحياته.
ثم أعلنت القاضية محيو انتهاء الاستجواب فاستمهل الطرفان للمرافعة التي حددت تاريخها في 8/5/2019. فلنتابع.
مقالات ذات صلة:
العدد الخاص من مجلة المفكرة القانونية: الكورة في فم التنين
قرار رائد لمطبوعات بيروت في قضية حماية الآثار: “لا يستقيم عدالة وقانونا إدانة من يصوّب على الفساد والخلل بشكل موضوعي”
4 قرارات للقاضية صفا بكفّ التعقبات بحق ناشطي الحراك اللبناني: الدفاع عن المجتمع يبرّر المسّ الظاهر بكرامة الحكومة ووزرائها
من يدافع عن الدولة، وكيف؟ حكم قضائي يكرس دور الناس في مكافحة الفساد ويفضح دور هيئة القضايا في منعها
نظام المقامات في لبنان