تواصل المفكرة حضور المحاكمات المتصلة بتلويث نهر الليطاني أمام محكمتي بعلبك وزحلة. أحد أكبر هذه الملفات ملف شركة ألبان لبنان (ليبان ليه). في آخر جلسة انعقدت بتاريخ 1 تشرين الأول 2019، عادت الشركة لتطلب مهلا إضافية لإنجاز أعمال التكرير في موازاة إدلائها دفوعا شكلية لا تصمد أمام أي نقاش جدي، من باب المماطلة والتسويف، كالادعاء بأنه ليس لمصلحة الليطاني صفة في الادعاء ضدها على خلفية تلويث الليطاني (!!). بعد الجلسة، تواصلنا مع رئيس المصلحة د. سامي علوية طالبين منه التعليق على طلب الشركة مهلا إضافية. جواب علوية جاء حازما ومفاده: “انتهت المهل في ٢٨ ايلول ولا زال يلوث. استنفذت كل المهل القضائية ولا زال يلوث. راجعنا كل المراجع الادارية والقضائية ولا زال يلوث. اليوم رفضنا التعاون في مشروع يتعلق بالبنك الأوروبي يتعلق بتشجيع الالتزام البيئي للمؤسسات الصناعية كونه بمشاركة بنك عودة (مالك أسهم معمل ألبان لبنان)، ومجموعة عودة تلوث نهر الليطاني في ليبان لي وفاقد الشيء لا يعطيه. السرطان مستمر والأرباح مستمرة والأخلاق منهارة” (المحرر).
قلة من المصانع المدعى عليها بجرم تلويث نهر الليطاني اعترفوا صراحة أمام المحكمة بتلويث نهر الليطاني، وكُثر الذين تذرعوا بالحجج لتبرير ممارساتهم تجاه رمي النفايات الصناعية والصرف الصحي في مجرى النهر. الحجج التي تُليت على مسمع القاضية المنفردة الجزائية في بعلبك لميس الحاج دياب منذ أن بدأت تنظر في قضايا تلوث الليطاني في أيار 2019، تدل على استهتار كامل من المصانع تجاه أهمية حماية النهر. سمعنا إحدى الشركات تتذرع بأنه “لم يطلب منا أحد تركيب محطة تكرير للمياه الصناعية”، أو “نرمي المياه الأقل تلويثاً في النهر بعد ترسيبها في برك ترسيب”. والأخير هو تبرير “تفخر” شركة ألبان لبنان باستخدامه، فيما الذريعة المساقة أمام المحكمة في غالبية الملفات هي رمي كل المسؤولية على تراجع الدور الرقابي للوزارات في السابق، أي أن الكشوفات التي كانت تحصل لم تدل على أهمية تكرير المياه الصناعية، عدا عن تفاخرهم بحصولهم على التراخيص دون أية عوائق.
وهؤلاء الذين يعيشون أو يعملون على مقربة من النهر، ويروون المزروعات من مياهه الملوثة، ويستهلكها أهل البقاع ومعهم معظم اللبنانيين، ذهبوا بعيداً في هذا الاستهتار على شاكلة عبارة “شو وقفت عليي؟” التي اعتمدها غالبية من اللبنانيين لتبرير عدم التزامهم بالقوانين.
نهار الثلاثاء 1 تشرين الأول 2019، كانت ست شركات على موعد للمثول أمام المحكمة في جلسة جديدة أمام القاضية الحاج دياب وهي: “ألبان لبنان – كانديا”، “الخيرات للصناعات الغذائية”، “سليمان غروب” (مجبل باطون)، و “تندر بول (مسلخ فروج)”، “الريف التجارية (كبيس ومخللات)” و”تبارك وصدارة غروب والديراني” (وهي ثلاث شركات لصناعة المربيات والمخللات في ملف واحد كونها تعود للمالكين أنفسهم، وتقع على عقار مشترك).
ألبان لبنان: ندفع التعويضات لصندوق البيئة (غير المنشأ) وليس لمصلحة الليطاني
كان لـ “ألبان لبنان” الحصة الأكبر من الوقت نظراً لمذكرة دفوع شكلية تقدمت بها الشركة حالما بدأت الجلسة. وبحسب ما أدلى به وكيل الشركة المحامي رامز حمود، فإن المذكرة تتعلق بصفة المدعية، المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، علماً أن الشركة كانت قد تقدمت في أول جلساتها بمذكرة دفوع مشابهة وحينها اتخذت القاضية الحاج دياب قراراً بضمها إلى أساس الدعوى.
وحيث أن هذه المذكرة لا تشكل عائقاً قانونياً أمام المحكمة لاستجواب المدعى عليه المفوض بالتوقيع عن الشركة مارك واكد، كون المذكرة تتصل بالمدعية وليس بدعوى الحق العام، باشرت القاضية باستجواب واكد. الأخير شرح للمحكمة أن الشركة انتهت من تركيب محطة التكرير نهار الخميس الفائت ودخلت المحطة في المرحلة التجريبية. وفيما كانت الشركة قد طلبت مهلة ثلاثة أسابيع سابقاً لتجريب المحطة، عاد واكد وطلب من المحكمة تمديد المهلة لشهرين لإنهاء بعض الإجراءات التقنية لناحية تبيان فعالية المحطة عند رفع كمية المياه الداخلة إليها. هذا مع العلم أن الشركة قد استنفذت المهل المعطاة لها في شهر أيلول، وكانت القاضية الحاج دياب قد أكدت في جلسة انعقدت بتاريخ 20 حزيران 2019 انتهاء إعطاء المهل بعد العطلة القضائية في كافة الملفات.
وشدد على أنه تم توصيل جميع الشبكات إلى المحطة ويتم تحويل المياه الصناعية والزراعية، ومعها الصرف الصحي، الخارجة من المعمل إليها، ويتم فتح المياه إليها بشكل تدريجي في الوقت الراهن بمعدل يومين في الأسبوع. في المقابل، أقرّ واكد أن الشركة لا تزال ترمي المياه الصناعية في مجرى نهر الليطاني بعد ترسيبها في برك الترسيب، وذلك مؤقتاً ريثما تنتهي من المرحلة التجريبية للمحطة. وشرح بأن هذا الأمر يدخل ضمن الآلية المتبعة لبيان فعالية المحطة.
من جهتها، أكدت القاضية الحاج دياب أنها ستبتّ بطلب الشركة لناحية تمديد المهلة في الجلسة القادمة في 5 تشرين الثاني، شارحة أنها لن تكتفي بتقرير وزارة الصناعة بل ستعيّن خبيرين للكشف على المعمل. وبحسب القاضية الحاج دياب فإنه يتطلب من الخبيرين أن يكشفا على المعمل التابع للشركة للتأكد من تحويل شبكات مياه الصرف الصحي والصناعي والزراعي إلى المحطة، والترخيص لهما بالاطلاع على الخرائط اللازمة بهذا الخصوص وعلى أوراق الملف الراهن والاستماع إلى من يرونه مناسباً دون تحليفهم اليمين القانونية، كما وأخذ العينات وبيان كل ما من شأنه إنارة المحكمة. وعلى أن يشمل الكشف بيان وتحديد النقاط الحالية التي تخرج منها المياه من المصنع باتجاه حفر الترسيب ثم إلى مجرى نهر الليطاني. وفي هذا الإطار تعهد واكد أمام المحكمة تسليم الخرائط إلى الخبيرين لتبيان هذه النقاط.
في إطار مذكرة الدفوع الشكلية التي تقدم بها وكيل الشركة المحامي حمود، عدد الأخير عدة أمور يعتبرها دليلاً قانونياً على عدم حيازة المصلحة الوطنية لنهر الليطاني صفة الادعاء في هذا المجال معتبراً: أولاً أن المصلحة تقدمت بإخبار أمام النيابة العامة عوضاً عن التوجه مباشرة إلى المحكمة. ومن ناحية ثانية، لفت حمود إلى أن المطالب المادية التي تُطالب فيها المصلحة وهي عبارة عن 400 مليون ليرة مقابل العطل والضرر، فإن لا صلاحية للمصلحة بذلك لأن الأموال تذهب إلى الصندوق البيئي، قاصداً “الصندوق الوطني للبيئة الذي أُقر في قانون البيئة رقم 444 عام 2002، في المادة الثامنة، وهو صندوق لم يتم إنشاؤه بعد. ولفت أيضاً إلى أن المصلحة الوطنية لم تسدد نفقات الدعوى.
من جهته، اعتبر وكيل المصلحة الوطنية لنهر الليطاني المحامي علي عطايا أنه لا يجوز في الشكل التقدم في الدفع بعد مرحلة الاستجواب، خاصة وأن الشركة كانت قد تقدمت بدفع مشابه في بداية مثولها أمام المحكمة وتم ضمه إلى أساس الدعوى. وعلى سبيل الاستطراد، أدلى عطايا أن المصلحة الوطنية لنهر الليطاني صاحبة صفة ومصلحة أكيدتين وثابتين باعتبارها متضررة جراء التلوث الذي أصاب مياه الليطاني مما أوقف مشاريع الري في البقاع، ولفت إلى أن حقها باللجوء إلى القضاء مكرس في قانون المياه رقم 77 الذي يخص مؤسسات المياه بمهام السهر على حماية المياه والنظم البيئية. وشرح عطايا أن المصلحة الوطنية لنهر الليطاني معفاة من نفقات التقاضي بموجب قانون الرسوم القضائية، عدا عن أنها ذات مصلحة في تحصيل التعويضات. ولجهة آلية تقديم الدعوى، أكد أن المصلحة اتبعت استراتيجية عامة في طريقة الادعاء على الشركات الملوثة، بحيث تقدمت بإخبار يشمل جميع الشركات المشتبه فيها إلى النيابة العامة. وبالتوازي، تقدمت المصلحة بدعوى مباشرة أمام المحكمة، ويحصل ذلك أيضاً في حال لم تدع النيابة العامة على الشركة المشتبه فيها، وذلك يعتمد على الأدلة التي بحوزة المصلحة من فيديوهات وصور، والتي تشكل قناعة كافية لديها للادعاء. وطلب عطايا بالنتيجة رد كل ما جاء في مذكرة الجهة المدعى عليها، مكرراً مآل الشكوى.
من جهته اعتبر حمود أنه سنداً لأصول المحاكمات الجزائية لقاضي التحقيق أو القاضي المنفرد حرية التحقق من صفة المتداعين في كل مرحلة من مراحل المحاكمة. ورد على تبرير عطايا عن الاستراتيجية المتبعة أنها تُخالف القرار رقم 1/12 الصادر عن وزارة الصناعة تاريخ 20 شباط 2019، والذي يقضي بإنشاء لجنة مشتركة بين الوزارة والمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، وهذه اللجنة لها صلاحية فرض الالتزام البيئي على المؤسسات الصناعية عبر المسح وليس عبر الإخبارات، بحسب تعبيره. وهذا الأمر نفاه عطايا مستبعداً الربط بين عمل اللجنة التي تم تشكيلها حديثاً والمسار القضائي.
بعد هذا الأخذ والرد في مسألة الدفوع الشكلية، أكدت القاضية الحاج دياب أنها ستبت في الدفوع الشكلية في الجلسة القادمة بتاريخ 5 تشرين الثاني 2019. كما على ضوء الكشف الذي سيقوم به الخبيران ستنظر المحكمة في الجلسة المقبلة في طلب الشركة الحصول على مهلة إضافية للانتهاء من الإجراءات اللازمة لإيقاف تلويث النهر.
المحكمة تصدر ثلاثة أحكام بعد شهر
تتجه القاضية الحاج دياب إلى إصدار حكم في ملف شركة سليمان غروب (مجبل باطون)، وشركة الريف التجارية (كبيس ومخللات)، وشركة الخيرات للصناعات الغذائية، ومرتضى للأحجار والصخور، بعدما جرت المرافعة في ثلاثة من هذه الملفات في جلسة 1 تشرين الأول، بينما جرت مرافعة شركة مرتضى للأحجار في جلسة سابقة. وفي الملفات كافة، طلب عطايا إدانة المدعى عليهم عن الفترة السابقة، أي قبل إقدامهم على تركيب محطة تكرير للمياه الصناعية. وطالب بإدانتهم بالمواد 95 من قانون المياه رقم 77، والمواد 58 و59 من قانون البيئة رقم 444، والمواد 9 و10 من قانون حماية البيئة رقم 64 الصادر عام 1988. وطلب عطايا من المحكمة إلزام المدعى عليهم بالكشف الدوري سنداً للمادة 102 من قانون المياه، وبتأهيل الوسط المائي الذي يقرب جغرافياً من المعامل المذكورة.
وأشار عطايا في المرافعة في ملف شركة الريف التجارية لصناعة الكبيس والمخللات، في بلدة حوش سنيد في بعلبك، إلى أن المعمل التابع للشركة كان في الفترة السابقة لتركيب محطة التكرير يسلط مياهه الصناعية إلى شبكة الصرف الصحي التابعة لبلدية حوش سنيد، ومن الثابت أن البلدية لا تقوم بتكرير المياه قبل تحويلها إلى نهر الليطاني. واعتبر أن ذلك يُثبت بالأدلة القاطعة أن المعمل ارتكب فعلاً جرم تلويث النهر مما يفترض إدانته. ومن جهته أفاد المدعى عليه المفوض بالتوقيع عن الشركة عبد الحسن شحادة بأن إمدادات شبكة الصرف الصحي تم إنشائها منذ سنة في حوش سنيد، وفي الفترة السابقة كان يرمي المياه الصناعية في عقار يملكه بمحاذاة معمله. وشرح أنه في السابق لم يطلب منه أحد معالجة المياه، إلا أنه بادر إلى تركيب محطة تكرير مؤخراً بطلب من وزارة الصناعة والمصلحة الوطنية لنهر الليطاني. من جهته أكد عطايا أن رمي المياه الصناعية في العقار المحاذي لمعمله من شأنه أن يلحق ضرراً بالمياه الجوفية التي يتغذى منها نهر الليطاني. وما يُثبت ذلك أن الدولة اللبنانية تمتنع عن إعطاء تراخيص آبار جوفية في منطقة حوض الليطاني.
ومثلت أيضاً شركة “تندر بول” للصناعات الغذائية، وأشار المفوض بالتوقيع عنها فاضل الضيقة إلى أنه تم تركيب محطة تكرير بشكل كامل منذ أيام معدودة، ولتبيان نتائج فعالية المحطة تحتاج لحوالي الشهر. وخلال هذه المرحلة فإنه يقوم بنقل المخلفات الصناعية من المعمل، فطلبت منه القاضية تقديم الأدلة ليثبت عملية نقلها. ومن المفترض ورود تقرير من وزارة الصناعة بعد كشف جديد قامت به على المعمل في الآونة المقبلة.
وفي ملف شركات تبارك وصدارة غروب والديراني، فقد أدلى ممثل الشركات بأنه طلب معدات من الخارج لإجراء التعديلات على محطة التكرير التابعة للمعامل الثلاثة، وهذه البضائع تحتاج لما يُقارب شهرا ونصف الشهر للوصول إلى لبنان. وكانت المحكمة قد عينت خبيرين للكشف على المعامل إلا أن تقريرهما لم يرد بعد.
مقالات ذات صلة:
بعد 6 أشهر ونصف على نيله مليوني دولار لمعالجة النفايات الصناعية: معمل “ليبان ليه” يرمي 200 ألف متر مكعب من الملوثات العادمة في الليطاني
محكمة بعلبك تنذر ألبان لبنان بوجوب معالجة التلوث من دون تأخير: “علينا أن نراعي المصلحة العامة وألا نعطي مهلاً إلى ما لا نهاية“
السيانوبكتيريا عادت بعد غياب ثلاثة أشهر: سخاء الطبيعة ومصلحة الليطاني تُحييان بحيرة القرعون…والدولة تقتلها