على خلفية حديث إذاعي للمحامية سنية الدهماني قدرت فيه أن تونس بلد لا يستطاب فيه العيش وبالتالي لا يمكن أن تكون مقصدا لمهاجرين يريدون استيطانها كما تدعي ذلك السلطة، وجهت النيابة العمومية إليها تهمة تعمد استخدام شبكات وأنظمة معلومات بهدف الإضرار بالأمن العام، وفق الفصل عدد 24 من المرسوم عدد 54. وإذ طلب محاموها في أول جلسة استنطاق لها التأخير لإحضارها والترافع، رفض قاضي التحقيق ذلك وأصدر في حقها بطاقة جلب. و هو ما رأت فيه المعنية انحرافا بالإجراءات يبرر التجاءها لدار المحامي حيث اعتصمت لمدة يومين قبل أن تلقي عليها من داخله مجموعة امنية القبض مساء يوم 11-05-2024. أدانت هيئة المحامين ما اعتبرته اعتداء على حرمة مقراتها ودعت منظوريها لإضراب عام عن العمل يوم 13-05-2024. صبيحة يوم الاضراب، أصدر قاضي التحقيق بطاقة إيداع في حق سنية الدهماني.
واحتجاجا على ذلك، جاب عشرات من زملائها أروقة المحكمة رافعين شعارات تندد باستعمال القضاء وتوظيفه في قمع الحريّات. وكشف تسجيلٌ تمّ تداوله بصفحات التواصل الاجتماعي عن كونه وبمناسبة ذلك التحرك تولّى عدد من المحامين طرد عدد من الأمنيين قالوا أنهم يحاولن اختراق تجمّعهم. ومساء ذات اليوم وفي واقعة على صلة بذلك الحدث، اقتحمتْ وحدة أمنية دار المحامي لتلقي القبض هذه المرّة على المحامي مهدي زقروبة الذي نسب له الاعتداء على الأمنيين.
كان للمحامين اعتراضات على مجريات اعتقال زميليْهم وتمثلت أساسا في القبض عليهما من دون احترام للمقتضيات الإجرائية التي يفرضها مرسوم المحاماة ومنها إعلام الفرع الجهوي للهيئة الوطنية للمحامين الذي ينتميان له بتتبعهما. واقتحام الأمن لمقر تابع للهيئة الوطنية للمحامين من دون إعلام مسبق لها بذلك والاحتفاظ بكل واحد من المعنيين طيلة يومين من دون تقديمه لقاضي التحقيق وبالتالي من دون استنطاق[1]. والاحتفاظ بزقروبة قبل فتح تحقيق فيما تعلق به وفي ذلك أيضا خرق للقانون خصوصا وأنه لم يكن متلبسا بما ينسب له.
ذات الوقائع ساءت المدافعين عن حقوق الانسان لما كشفت عنه الصور والفيديوهات المتداولة وخصوصا منها ما بثته القناة الإخبارية فرنسا 24 من استعمال للقوة بمناسبتها ولكون ما ينسب للدهماني آراء لا ترقى حسبهم لأن تكون موضوع تجريم. وهذه الاعتراضات على أهميتها وكبير صداها خارج تونس وجدت فيها السلطة سبيلا للدعاية لها.
ما اعتبره المحامون والناشطون، استعادة لقيم دولة البوليس وسعيا لتكميم الأفواه وزرع الخوف، افتخرت به السلطة التي وجدتْ فيه صرامة منها في مواجهة من تعمّد المس بالسيادة الوطنية من خلال تحقير البلاد كما اعتبرت أنه يؤكد التزامها بعلوية القانون في مواجهة مختلف الحصانات ويثبت قدرتها على فرض هيبة الدولة التي كانت مفتقدة قبلها. وهي الرواية التي دحضتها آثار التعذيب على جسد المحامي زقروبة.
زقروبة “يعري” التعذيب وقاضي التحقيق “يعاين”: الصدمة
مساء يوم 15-05-2024، يُقتاد المحامي الشاب لمكتب قاضي التحقيق المتعهد بملفه، وبحضور محاميه يتمسك قبل كل جواب بطلب معاينة آثار تعذيب ادّعى أنه تعرض له ويطلب تسجيل تفاصيل المعاملة المسيئة التي سلطت عليه فترة اعتقاله. وحسب رواية المحامين ممن حضروا الجلسة، عاين قاضي التحقيق تمزيقا بملابسه وزرقة وجروحا بمواطن متعددة من جسده. وسجّل طلبهم عرضه على الخبرة الطبية لتوثيق ذلك قبل ان يقرر تعليق أعمال الاستنطاق لحين البت في الدفع. تاليا وبعد زمن قليل، أعلم قاضي التحقيق المحامين والمتهم بكونه قرر مواصلة الاستنطاق ولم يستجِب لطلبهم. حينها وبعد تقيؤ وصراخ وحديث عن ألم كبير على مستوى الضلوع، يغمى على مهدي، بما فرض استدعاء الإسعاف الطبي والذي وفي انتظار حضوره، أصدر القاضي بطاقة إيداع بالسجن في حق المغمى عليه. كانت مواكبة جانب من الاعلام الجمعياتي وناشطي صفحات التواصل الاجتماعي ل خبر “التعذيب ” من أثرها أن السؤال حول إثبات التهمة وماديات ملف القضية استحال تعاطفا مع الضحية وطلبا للتظاهر ضد التعذيب. وهو ما لم تكن تتوقعه السلطة وأعطى لحراك اليوم اللاحق مضامين جديدة.
عودة التعذيب: حدث صادم
فيما تعلق بما سبق من إيقافات شملت ناشطين سياسيين ونقابيين وصحافيين، كان الملاحظ حديث الجانب الأهم من المحامين ممّن نابوا فيها وأفراد أسر المعتقلين عن معاملة مهنية من الباحثين داخل محلات الاحتجاز للمتهمين. وقد اعتبر ذلك مؤشرا إيجابيا يؤكد أن ما تحقّق لتونس خلال فترة الانتقال الديموقراطي لا زال يوفّر قدرا ولو محدودا من الضمانات لمواطنيها. فكان ما تمّ الكشف عنه من ادّعاء زقروبة تعرّضه للتعذيب ومعاينة المحقق لذلك صادما للرأي العام والمتابعين و كان ما علموا من رفض القاضي عرضه على الفحص الطبي وما بلغهم من تهديد من الداخلية فيما تعلق بمن فضحوا التعذيب مخيفا لهم.
رفض العرض على الخبرة الطبية رغم جلاء آثار التعذيب
حسب محامي زقروبة، برر قاضي التحقيق رفضه طلب العرض على الخبرة الطبية فيما تعلق بالتعذيب “باعتبارات أمنية”. وهنا لا نعلم ماهية هذه الاعتبارات ولكن المؤكد أن الأخذ بها كان بمثابة رسالة قضائية بطمأنة الجهاز الأمني الذي أجرى التحقيقات وينسب إليه التعذيب. الطمأنة نفسها نقرأها في بيان وزارة الداخلية الذي لم يكتفِ بنفي حصول أيّ تعذيب بل ذهب إلى حدّ تهديد كلّ من يروّج لذلك بالملاحقة القضائية على خلفية التآمر على تشويه العمل الأمني. وعليه، استعاد القضاء برفضه طلب العرض على الفحص الطبي لمن يدعي التعرّض للتعذيب ممارسات ما قبل الثورة التي كان فيها يمتنع عن إثبات تلك الانتهاكات حماية لمرتكبيها. كما استعادتْ وزارة الداخلية بتمسّكها بالإنكار من دون بحث منها عن الحقيقة ذات الممارسات.
رفضا للتعذيب ..تمسكا بحقّ الدفاع: شباب في الشارع
كان من ضمن فعاليات التحركات الاحتجاجية التي أعلنتها هياكل المحاماة وقفة للمحامين يوم 16-05-2024 أمام قصر العدالة بالعاصمة. وكان من أثر الكشف عما تعرض له زقروبة من تعذيب أن كانت الأغلبية ممن حضروا من المحامين والناشطين الحقوقيين الشبان بحت حناجرهم وهم يصرخون معلنين رفض العودة لمربع الاستبداد و تمسكهم بدولة القانون وبحق زقروبة وكل ضحايا القمع في العدالة التي يبدو أن الطريق لها بات في ظل ما يتم من تراجعات عن ضماناتها وعرا .
[1] ينص الفصل 46 من مرسوم المحاماة على انه ” إذا وقعت تتبعات جزائية ضد محام، يتم إعلام رئيس الفرع الجهوي المختص بذلك حينا. ويحال المحامي وجوبا من طرف الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف على قاضي التحقيق الذي يتولى بحثه في موضوع التتبع بحضور رئيس الفرع المختص أو من ينيبه للغرض. ولا يجوز تفتيش مكتب المحامي إلا في حالة التلبس وبعد إعلام رئيس الفرع الجهوي المختص. ولا تباشر أعمال التفتيش إلا بحضور المحامي وقاضي التحقيق ورئيس الفرع أو من ينيبه للغرض. ولا يشترط حضور المحامي إذا كان بحالة فرار. وتسري هذه الأحكام على مكاتب الهيئة الوطنية للمحامين وفروعها….. وتبطل جميع الأعمال والإجراءات المخالفة لما سبق بيانه.”