شباب الألتراس: جدلية الاحتجاج والتوظيف


2024-07-18    |   

شباب الألتراس: جدلية الاحتجاج والتوظيف
رسم عثمان سالمي

منذ بداية حرب الإبادة على قطاع غزّة، برزت مدرّجات الملاعب في تونس كإحدى أهمّ ساحات التعبير عن مساندة الحقّ الفلسطيني، مقابل انكفاء دور طلبة الجامعات مثلا، على عكس ما رأيناه في جامعات غربيّة وما تعوّدت عليه الجامعات التونسية في العقود الماضية. استعملت جماهير مختلف الجمعيات الرياضية “الدخلة” كوسيلة مميّزة لإيصال رسالة التضامن مع الفلسطينيّين والالتزام بـ”القضيّة”، وصولا إلى “دخلة” ألتراس الترجي بمناسبة نهائي رابطة الأبطال الإفريقية الذي جمع فريقهم بالأهلي المصري في 18 ماي 2024. لم يكن الصدى العالمي الذي أحدثته دخلة “الألتراس المكشخين” يعود فقط لجمالها وإتقانها، ولكن بالأخصّ لأهمّية الرسالة السياسيّة التي حملتها. فقد احتفتْ في الوقت نفسه بالمقاومة وصمود أهل غزّة التاريخي، بتلك “الأرض الحرة في عالم محتلّ”، وكذلك بمن صدحوا بكلمة الحقّ فكانوا في “الجانب الصحيح من التاريخ”، من جماهير “سلتيك” وصولا إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، مرورا بالرئيس الكولومبي وطلاب الجامعات الغربية والمحامية عديلة هاشم التي ترافعت باسم جنوب إفريقيا ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية لوقف الإبادة.

أعاد انخراط الألتراس القويّ في نُصرة فلسطين، بالتوازي مع صراعهم المتواصل ضدّ إفلات أعوان البوليس من العقاب في قضيّة عمر العبيدي، وتواصل القمع والعنف داخل الملاعب مع انغلاق تدريجيّ للفضاءات السياسيّة والمدنية في البلاد، النقاش حول الألتراس والالتزام السياسي. وفي البال دور مدرّجات الملاعب المناهض لنظام بن علي الاستبدادي في سنواته الأخيرة، وبالأخصّ تجربة الألتراس وانخراطهم القويّ في الحراك الثوري في مصر في 2011 و2012. فكيف أثرت السياقات والرهانات الاجتماعية والسياسية في ممارسات مجموعات الألتراس في تونس؟ وما مدى قابلية تشكّل نواة حركة احتجاجية منظّمة تتوحّد خلفها مجموعات الألتراس رغم تشظّي هويّاتها الفردية والجماعية؟ وكيف يمكن مقاربة إشكالية تسيّس الألتراس من دون تحميلهم هواجس ومهامّ لا يطرحونها بالضرورة على أنفسهم؟ سنحاول في هذا المقال الإجابة على هذه الأسئلة.

ينقسم مسار هذه القراءة إلى محورين رئيسيين: في المحور الأول، نقدّم عرضا مقتضبا للسياقات التاريخية المؤسسة لظاهرة الألتراس في تونس وأهمّ التغيرات الطارئة على ممارساتهم، خصوصا من منظور انتقال تعبيراتهم من الفضاء الخاص “الفيراج” إلى الفضاء العام “الحومة”[1]، وتطوّر التجربة في سياق ثوري متعثّر وتواصل الصراع مع “دولة البوليس”. والمحور الثاني، سنخصّصه لمناقشة موقف هذه المجموعات من السلطة ومدى استعدادها للعب دور سياسيّ أكبر وأشمل، من خلال قضيّتيْ عمر العبيدي ورشاد طنبورة، إضافة إلى المقارنة مع التجربة المصرية.

بروز ثقافة الألتراس اقترن مع تطوّر تدفّق المعلومة

سرديّة الألتراس في تونس

لا يمكن تصنيف مجموعات الألتراس التونسيّة من دون أخذ الواقع الاجتماعي والإرث السياسي المحلي والمتغيّرات الدوليّة التي رافقت ظهورها بعين الاعتبار. محلّيا، تميّز سياق ظهور ثقافة الألتراس بإحكام هيمنة السلطة على الحقل الرياضي، بالأخصّ منذ أحداث العنف التي شهدها نهائي كأس تونس لكرة القدم بين الترجي الرياضي والنادي الصفاقسي سنة 1971[2]، وصولا إلى سيطرة النظام بل وحتى عائلة الرئيس بن علي (صهره سليم شيبوب ثمّ أصهاره “الطرابلسيّة”)، على كبريات الجمعيات الرياضيّة. فالاستخدامات السياسية للرياضة هو ما ميّز هذه المرحلة، إذ تحوّلت الى وسيلة دعائية في يد النظام ومجالًا تعبيريًا لسلطته[3]، وكانت الألتراس ردّة فعل مقاوِم لهذه السيطرة. على الصعيد الدولي، ميّز حدثان فارقان عالم الرياضة العالمية منذ ثمانينات القرن الماضي. الأول، إلغاء اللجنة الأولمبية الدولية التمييز بين الهواية والاحتراف، والثاني، ازدهار الإعلام الرياضي، ليدفع هذا التحوّل كرة القدم نحو العولمة. فالعولمة شرطٌ من شروط تطور وسائل الاتصال الجماعية. لهذا السبب، تغيّرت وتطوّرت المرجعيّات وتجاوزنا الدور الحصريّ لمؤسسات التنشئة الاجتماعيّة التقليديّة مثل الأسرة، بل أصبح هناك انتماء إلى شبكات جديدة تتداخل في بناء هوية الفرد مثل الانتماء لمجموعة ألتراس. ولئن بدأ تنظّم الجماهير تدريجيا في التسعينات، فإنّ بروز ثقافة الألتراس في تونس يعود إلى بداية سنوات الألفين، نتيجة تطوّر تدفّق المعلومة وتوجه فئات خاصّة منها الشبابيّة نحو متابعة القنوات الفضائية الرياضية ثمّ اتصالهم بشبكة الإنترنت، أمام عجز النظام السابق عن وضعها تحت الرقابة على عكس الإعلام المحلّي. هذا الفضاء المعلوماتي الموازي، مثّل انطلاقة تشكّل الألتراس في تونس، متأثّرة بالصورة المعولمة لمجموعات الألتراس خصوصًا منها الإيطالية وما تحمله ممارساتها من صراع ضدّ السلطة واللاعدالة الطبقية والمناطقية. فحالة القمع البوليسي التي كرّسها النظام الاستبدادي عبر سيطرته المطلقة على الفضاء العام وانسداد الأفق الاجتماعي أمام فئات واسعة من الشباب، دفعهم نحو البحث عن بديل تمثل في صورة الانعتاق والحرّية التي توفرها مدرجات “الفيراج” والانتماء “للكورفا” الوافدة عبر عروض شباب الألتراس في الملاعب الأجنبية.

هذه الخلفية المؤسسة لفكرة الألتراس في تونس، ارتبطت في بداية الألفية بمبدأيْن رئيسييْن شكّلا هوية أغلب المجموعات: الأول، الولاء للنّادي والمجموعة ‏من خلال استقلالية التنظيم ‏والدفاع عن مصالحهم ولو استدعى الأمر المواجهة. والثاني، معاداة تدخّل السّياسة والمال والإعلام في الرياضة، إذ أن التوظيف السياسي ولعبة المصالح المادية والسّلعَنة ‏كلّها عوامل أفقدتْ كرة القدم متعتها. ومن هنا، جاءتْ تسميات أغلب المجموعات بلغات غير العربية. بل حمل بعضها دلالة سياسيّة، تُحيل إلى جماعات مسلّحة أو منظّمات سرية وحتى حركات انفصالية (وجميعها مصنّفة خارجة عن القانون). فـمثلا تحيل تسمية Zapatista إلى مجموعة سياسية وعسكريّة تعود تسميتها لقائد جيش التحرير في جنوب المكسيك، في حين تُحيل تسمية Doodger’s 2007 على المراوغين الأفريقيين، حيث يرمز الإسم إلى المراوغة والحيلة والقدرة على البقاء خارج النظام من خلال الانتماء إلى النادي. أما Brigades rouges فقد أُشتِقّت تسميتها من منظمة يسارية عنيفة في إيطاليا نشطت إبان ما عرف بسنوات الرصاص ما بين 1970 و1980. وقد تكون هذه الدلالات السياسيّة، والانتشار السريع لثقافة الألتراس، قد ساهمت في اعتماد نظام بن علي في سنواته الأخيرة خيار القمع والتضييق على المجموعات وأعضائها.

قبل 14 جانفي 2011، كان أهمّ محدّد لممارسات مجموعات الألتراس داخل الملاعب التونسية هو الاحتجاج السياسي والتمرّد ضدّ قوّات الأمن، التي تطوّرت أشكاله في سياق صراعها مع السلطة ومراكمتها لتجارب وخبرات اكتسبها هؤلاء الشباب على امتداد عقد من الزمن. ففي سياق تميّز بتفاقم البطالة وانسداد الأفق السياسيّ والاجتماعيّ، تحوّل الشباب للبحث عن أشكال أخرى من الاعتراف والتقدير من بينها الانتماء إلى “مجموعة ألتراس”. فهذا الظلم أو غياب العدالة المُستَشعَر بقوّة لدى الشباب يتمثّل بالأخص في التّمييز الفِئوي والجهوي~ والمحسوبية. ويتحوّل بذلك الانتماء إلى “مجموعات الألتراس” بالنسبة لشرائح مختلفة من هذه الفئات الاجتماعية إلى نوع من الاعتراف الذي يُكسِب العضو التقدير من خلال ما يمنحه من نفوذ وغطاء شبه تنظيميّ “ضدّ النظام”، يرسم من خلاله حدود ممارساته وتعبيراته ويربطها بالفضاء الكروي والأحياء التي يسكنونها. فالأغنيّات والأهازيج التي يرددونها واللافتات التي يرفعونها، والرسومات والعلامات التي يخطّونها تحمل شحنة دلالية تعكس رفضا للواقع المعيشي لأعضائها. وهي كلها ترشح عن تجاوز للحدود الفاصلة بين الشغف الكروي والانخراط في الاحتجاج والمقاومة، عبر خيط ناظم تُغذيه انتفاضات شعبية وديناميات اجتماعية، عبّرت عنها صراحة أحداث الحوض المنجمي في 2008.

وعلى الرغم من القطيعة السياسية التي أحدثتها ثورة 2011 وما رافقها من ديناميات اجتماعية وسياسية، فإنّ السلطة المُستجدّة حافظت على الاستراتيجيّات القمعيّة نفسها في تعاملها مع مجموعات الألتراس. وقد مارستْ ذلك من خلال ربط وجودها في ملاعب كرة القدم بأحداث العنف والشّغب. فالحدث الثوري لم يحقق آمال الألتراس، ومن خلفهم الخزّان الشبابي في الخروج من دائرة الإقصاء، بل زاد من تهميشهم. وهو ما عبّروا عنه في الكثير من أغنياتهم. ساهم ذلك في تحوّل التجمّعات السكنيّة العفويّة حول المدن إلى “مجالات هامشيّة” تعاني الهشاشة والإقصاء الاجتماعي، يغذّيها “الاقتصاد الموازي” وحُلم الهجرة غير النظامية. كما حوّلها كذلك إلى “مجالات احتجاجية” تتخلّق في رحمها الهويّات الرافضة، مثل مجموعات موسيقى الرّاب ومشجّعي كرة القدم، والهَبّات الشعبية المناهِضة والثوريّة[4]. وقد اخترقتْ تعبيراتها الفضاءات العامّة، عبر انتشار الرّسومات والتّرميزات على الجدران من داخل الأحياء، والذي يُعدّ في حدّ ذاته تطوّرًا لممارساتها واختراقًا لقواعد الصراع مع السلطة فرضه تأزّم الواقع المعيشي لفئات واسعة من هؤلاء الشباب.

وقد شكّل صعود الانتماء “للحومة” لدى مجموعات الألتراس بعد الثورة ظاهرة لافتة للانتباه، حتى كاد ينافس الانتماء إلى النادي. فقد تحوّلت الرسومات الجدارية إلى طريقة لرسم الحدود الجغرافية الفاصلة بين الأحياء، وتقسيمها بين خاضعة لسيطرة المجموعة وأخرى لمجموعات منافسة حتى ولو كانت تشجع نفس الفريق. كما أصبح التضامن بين المجموعات في جلّ الأحيان يتمّ على قاعدة الانتماء لنفس الحيّ، أكثر من الانتماء إلى نفس الفريق. ولئن كان صعود “الحومة” معبّرا على انسداد الآفاق التي خلقتها الثورة في إحداث تغيير شامل، فإنّه قد يفسّر أيضا بالإجراءات الأمنية التي حكمت ملاعب الكرة ولا تزال سارية منذ الأشهر الأولى بعد الثورة. أهمّها التقليص من عدد الجماهير المسموح بدخولها،   وبالأخصّ إقصاء جماهير الفرق الزائرة، والذي اتخذ كإجراء مؤقّت على خلفيّة بعض أحداث العنف، ليعود ويتحوّل إلى إجراء دائم. وقد أضعف غياب الجماهير الزائرة التنافس بين “منعرجيْن” متقابليْن، لصالح التنافس وأحيانا الصراع بين مجموعات مشجّعة لنفس الفريق. كما ساهم منع القصّر من دخول الملاعب في تحويل نشاط الألتراس جزئيّا من الملاعب إلى الأحياء. هذه التحوّلات تدعو للانتباه إلى ما في التجارب الاجتماعية من رهانات، تتشكّل ويُعاد تشكيلها وفق ما يشهده الواقع الاجتماعي من ديناميّات.

السلطة والألتراس: لا جديد يذكر بل قديم يتجدّد

انحصرت المواجهة بين السلطة وشباب الألتراس قبل 2011 من داخل الملاعب ومحيطها، عبر ديناميّة حوّلت “الفيراج” إلى متنفّس وفضاء تعبيريّ موازٍ، ميزته الأساسية التمرّد والرّفض والصراع مع السلطة وكل من يُمثلها، نتيجة انسداد الأفق الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ الذي فرضتْه سيطرة السلطة على الفضاء العامّ.

واقعيا، يمكن قراءة تطوّر علاقة الألتراس بالسلطة في سياق تغيّر طبيعتها في 2011 ثمّ منذ 2021 من خلال حدثين فارقين. الحدث الأول، وفاة عمر العبيدي غرقا سنة 2018، وهو شاب ينتمي لإحدى مجموعات الألتراس المشجعة للنادي الإفريقي، بعد مطاردة أمنية فرض عليه الأمن خلالها السباحة داخل إحدى قنوات المياه العفنة القريبة من ملعب رادس، قائلين له “تعلّم عوم”. والحدث الثاني، يتعلق بقضية الشاب “رشاد طنبورة”، وهو عضو مجموعة ألتراس تشجّع الاتحاد الرياضي المنستيري. وقع إيقافه في جويلية 2023 ومن ثمّ الحكم عليه ابتدائيا واستئنافا بسنتيْ سجن، بتهمة إتيان أمر موحش ضدّ رئيس الدولة، على خلفية رسم غرافيتي على أحد جدران مدينة المنستير، ندّد بالخطاب الرئاسي العنصري ضدّ المهاجرين.

مثّل الحدث الثوري وما حمله من آمال لفئات واسعة من الشباب التونسي، فرصة للانعتاق من هيمنة السلطة واحتكارها للفضاء العامّ. لكنّ التعامل الأمنيّ لم يتغيّر كثيرا، إذ واجهت السّلطة مجموعات الألتراس بمقاربتها التقليديّة، التي تراوحت بين القمع المباشر في الملاعب وفرض اللعب من دون حضور الجمهور وملاحقة المنتمين للألتراس والتضييق عليهم. وقد بلغت المواجهة مداها مع حادثة مقتل “عمر العبيدي”، وتحوّل الحقل الرياضيّ إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين الألتراس وقوات البوليس امتدّت فصولها الى اليوم. فقد ساهم هذا الحدث في توحيد “الكورفا نور” وهى عبارة عن اتحاد لمجموعات الالتراس المشجعة للنادي الافريقي التي كان “عمر العبيدي” ينتمي إلى إحداها، وفي استمالة تعاطف جميع المجموعات الأخرى مع القضية. إلاّ أنّ تشظّي هويّات شباب الألتراس وتقابل قواعد الانتماء التي تتأسّس عليها المجموعات لم يسمح بتحويل هذا التعاطف العامّ إلى عمل جماعيّ منظّم ومستمرّ وعابر للمجموعات والنوادي، ضدّ إفلات البوليس من العقاب. وقد ظلّت جماهير الإفريقي بالخصوص تذكّر باستمرار بأزلية القضية عبر الرسوم الجدارية والأغنيات (من قبيل أغنية “يا حياتنا” التي تحيل إلى كل من يمثل السلطة و”السيستام” بما في ذلك السلطة القضائية التي لم تُنصِف صديقهم “عمر”) و”الدخلة” (كما في نوفمبر 2022 حين رُفع شعار “على وجه الخطأ” في إشارة إلى الأحكام القضائية الابتدائية الصادرة بسجن الأمنيّين المتورّطين في مقتل “عمر العبيدي” لسنتين بتهمة القتل “على وجه الخطأ”).

من ناحية أخرى، لم تخرج قضيّة الشابّ رشاد طنبورة عن سياق المواجهة المعلنة بين شباب الألتراس والسلطة بعد 25 جويلية 2021، حيث زاد احتكار السلطة في زخم الداعمين للمقاربات الأمنية في مواجهة ممارسات هذه الفئة الشبابية. ويتمّ تبرير ذلك، كالعادة، بما ترافقه ممارساتهم من عنف وشغب وإخلال بالأمن العام. كما جاءت في سياق سعي السلطة التنفيذية احتكار الفضاء العامّ وتراجع هامش الحريّات، ومن جهة أخرى تجريم التضامن مع المهاجرين، وتعدّد الملاحقات والمحاكمات بتُهم شتّى من بينها إتيان أمر موحش ضدّ رئيس الدولة، في ظلّ الحياد عن مبدئية الفصل بين السلطات، يعبّر عنه صراحة تسخير القضاء في خدمة الأجندات السياسيّة للسلطة. لكنّ قضيّة طنبورة لم تخلق زخما تضامنيّا كبيرًا داخل مجموعات الألتراس (باستثناء المجموعة التي ينتمي إليها)، ربما بسبب عدم حسم المجموعات موقفها في مسألة العنصريّة ضدّ المهاجرين، أو خوفا من “توظيف سياسيّ” للقضيّة في صراع المعارضات مع سلطة 25 جويلية.

حين وُصم الألتراس في مصر بالإرهاب

المثير في تجربة الألتراس المصري، ذلك الانخراط الجدّي في ممارسة الفعل الاحتجاجي خارج الملاعب، واختراق ممارساتها حاجز خصوصيّة المجموعة والولاء للفريق الرياضي والتعبير من داخل المدرّجات، وانتقالها إلى وضعيّة هجينة ذات مرجعيّة مزدوجة يمتزج فيها السياسيّ بالرياضيّ. ففي الحالة المصرية، كان لأعضاء الألتراس أدوارٌ تنظيميّة فيما يتعلّق بالمسيّرات والتحرّكات الاحتجاجية وكيفية التعامل مع قوّات الأمن، وصولا إلى مقتل عدد منهم في “موقعة الجمل” إبّان أحداث الثورة في ميدان التحرير سنة 2011[5]. ويمكن رصد علامتيْن فارقتيْن ساهمَتا في تعقيد المشهد الألتراسي المصري. الأولى، انخراط أعضاء وقادة مجموعات من الألتراس في الفعل الاحتجاجي والسياسي الميداني إبان أحداث الثورة. وهو ما أحدث شرخًا على مستوى بنيتها التنظيميّة وآليّات اشتغالها داخليّا من منظور حياد ممارساتها عن أهمّ المبادئ التي تأسّستْ عليها هذه المجموعات، والممثل في الولاء للمجموعة والفريق الرياضي ومعاداة التوظيف السياسي للرياضة من طرف السلطة. فالانخراط في الفعل السياسي أفقد هذه المجموعات هويّتها الألتراسية المرتبطة بالحقل الرياضي. ونتيجة لذلك، أثّر في قدرتها على التّنظم والتنسيق وانضباط الأعضاء كما هي الحال داخل المدرجات. الثانية، ردّة فعل السلطة المصرية المولودة من رحم النظام السابق، التي رأت في انخراط مجموعات الألتراس في الثورة تهديدا لها، فاستهدفتها بدرجة عالية من العنف المادّي والرمزي. فالمواجهات بين قوات الأمن والمنتمين لهذه المجموعات، والأحداث التي رافقت عديد المباريات وسقوط العديد من القتلى والجرحى، تحوّلت الى مناسبات لتسويق صورة إعلامية تربط شباب الألتراس بالانحراف والإرهاب. وقد بلغت الحملة أقصاها مع الأحداث التي شهدها ملعب بورسعيد عام 2012، والتي راح ضحيتها 72 مشجّعًا، أغلبهم أعضاء في “ألتراس أهلاوي”. وقد جاءت في خضمّ أحداث اعتقد فيها قادة الألتراس، أنّ مشاركتهم في الثورة وما تلاها من أحداث جعلت الداخلية تُجهّز للثأر منهم[6].

يمكن القول أنّ الدور الذي لعبه الألتراس في الثورة المصرية وانخراطهم في جولات الصراع مع السلطة، كان له الأثر البالغ في اعتماد الأخيرة استراتيجيات إعلامية تربط هذه الفئة الشبابية بالإرهاب، في سعي لشيطنتها وفرض الوصاية عليها ووضعها تحت المراقبة. فهذه الممارسات الزجرية ذات الصبغة القانونية، كانت نتيجة لعدم قدرة السلطة الإبقاء على استمراريّة توظيفها لممارسات هذه المجموعات داخل الملاعب. إضافة إلى ما أحدثته المحاكمات القضائيّة التي أعقبت العديد من المباريات من زخم توحّدت على أعقابه العديد من مجموعات الألتراس، ما مثّل تهديدًا جدّيًا لرأس النظام، خاصّة في ظلّ انتكاسة ثوريّة أعادت إلى الواجهة نفس المنظومة الاستبدادية السابقة.

مظاهر الانتماء إلى “الحومة” عزّزتها الإجراءات الأمنية التي حكمت الملاعب بعد الثورة

بين مطرقة الرقابة وسندان التوظيف

“عندما أدخل إلى ملعب كرة القدم أتحوّل”[7]، هكذا عبّر أحد المنتمين لمجموعة ألتراس تونسية عن الدوافع الكامنة وراء انتمائه للمجموعة. المثير في هذه الإجابة، ما يحمله التعبير من شحنة سيميولوجية تُحيل إلى معانٍ ودلالات تتجاوز تمثُّل أعضاء الألتراس لفريقهم ولُعبة كرة القدم. فـ”الفيراج” بالنسبة للألتراس، فضاء ومحدّد أساسي لاستمرارية المجموعة في الزمان والمكان، وفضاء حصري لتعبيراتهم الاحتجاجيّة المشحونة بدلالاتها السياسية والاجتماعية. وهو بذلك، فضاء موازٍ يحتكرُه شباب الألتراس، كتعويض عن انسداد الأفق الاجتماعي واحتجاج عن حرمانهم من التعبير في الفضاء العام.

لقد حاولت الأنظمة توظيف شغف الشباب بالكرة ليكون أداة لتوجيه الرأي العام ووسيلة إلهاء عن المشاكل الأخرى، عبر منحهم “متنفّسا” يبعدهم عن السياسة. إذ أنّ المسرحة المفرطة لمقابلات كرة القدم وخصوصا “الدربيات”، بين الترجي الرياضي التونسي والنادي الإفريقي في تونس (دربي العاصمة)، والأهلي المصري ونادي الزمالك في مصر (دربي القاهرة)، ونادي الرجاء البيضاوي ونادي الوداد البيضاوي في المغرب (دربي الدار البيضاء)، لم تكن بمعزل عن التوظيف السياسي للكرة وجماهيرها. لكنّ مجموعات الألتراس اكتسبتْ بشكل لافت القدرة على توظيف المدرّجات بشكل يناقض تطلّعات السلطة وغاياتها، عبر تحويل “الفيراج” إلى فضاء تعبيري لطرح قضايا اجتماعيّة سياسيّة مسكوت عنها ومثيرة لحفيظة السلطة، من قبيل مسألة إفلات البوليس من العقاب في تونس، وحكم العسكر في مصر، ورفض التطبيع مع الكيان الصهيوني في المغرب.

 لكنّ تحدّي الممنوعات السياسيّة بقوّة “الجمهور”، وتعديل موازين القوى في مواجهة الأجهزة القمعيّة في حيز زمني ومكانيّ ضيّق، واكتساب أدوات التعبئة والتّنظم، لا يعني بالضرورة الانخراط في لعبة المراكمة الثورية عبر وسيلة الاحتجاج. بقدر ما هو تعبير عن رفض لواقع “كروي” سيّسته أجهزة الدولة وحوّلته إلى وسيلة للدعاية الإعلامية وتوجيه للرأي العام. لتعبّر موجات الصراع بين قوّات البوليس وشباب الألتراس عن ملامح أزمة سياسية واجتماعية كامنة، رغم ما تكتسيه من أهمّية في مواجهة حالة الانغلاق السياسي.

هذا المقال نشر في الملف الخاص للعدد 30 المفكرة القانونية-تونس

لقراءة وتحميل العدد 30 بصيغة PDF
لقراءة وتحميل الملف بصيغة PDF


[1] قيس تريعة. مجموعات الألتراس في تونس: تقاطعات الرياضة والسياسة والدين، عمران للعلوم الاجتماعية، العدد 42، المجلد 11، خريف 2022. ص 45.

[2] Franck Moroy, “L’Espérance de Tunis : Genèse d’un mythe bourguibien,” Maghreb – Machrek, no. 157 (1997), p. 75.

[3] Driss Abbassi, “Sport et usages politiques du passé dans la Tunisie des débuts du XXIe siècle,” Les politiques publiques du risque, vol. 26, no. 2-3 (2007), p. 142.

[4] مركز دعم التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان، مسارات التّطرف الجهادي وتجارب الإقصاء اليومي عند شباب الأحياء الشعبية: محاولة في الفهم، جهاد حاج سالم (تونس: 2020)، ص 1.

[5] عمر حسن. ألتراس القاهرة: المقاومة والثورة في ثقافة كرة القدم المصرية [مراجعة كتاب]، عمران للعلوم الاجتماعية، العدد 42، المجلد 11، خريف 2022. ص 204.

[6] أكرم خميس، ثورة جيل التراس (القاهرة: المنظمة العربية لحقوق الإنسان، 2012)، ص 75.

[7] عضو بمجموعة ألتراس، مقابلة شخصية، تونس 03/06/2024. التعبير الأصلي باللهجة الدارجة “كيف ندخل للستاد نتحوّل”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني