مُنذُ تَولّيه السلطة، في أكتوبر 2019، كرّرَ رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيّد في جلّ خطاباته الإشارة إلى عدم الخضوع لإملاءات السياسات الهجرية لدول شمال المتوسط، مؤكدا أنّ تونس لن تُصبحَ حارسَ حدود الاتحاد الأوروبي. وفي هذا السياق، وتقييمًا لفترة حكم قيس سعيّد في قضايا الهجرة (2019- 2024) يعالج هذا المقال مدى ترجمة البنية الخطابية لقيس سعيّد إلى ممارسات فعلية وسياسية، وأي آثار وعواقب للسّياسات الأوروبية التونسية في قضايا الهجرة؟
التّعاون الأوروبي التونسي في مجال الهجرة قبل سنة 2019: قراءة مختصرة
تَرتكز العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتونس اليوم على اتفاقية الشراكة لسنة 1995، والتي دَخلَت حيّز التنفيذ سنة 1998، وتنصّ على مكافحة الهجرة غير النظامية وتوسِيع إجراءات إعادة المواطنين التونسيين إلى وطنهم.
في أعقاب التحولات السياسية في تونس وباقي الدول العربية سنة 2011، وفي أعقاب وصول أكثر من 25.000 تونسي إلى إيطاليا بشكل غير نظامي سنة 2011، كثّفَت الحكومة الإيطالية جهودها بشكل كبير لتوسيع نطاق التعاون مع تونس في قضايا الهجرة[1]. وفي السّياق نفسه، تَبنىَّ الاتحاد الأوروبي المزيد من الإجراءات التقييدية.[2] وهكذا لم يُنظَر إلى تونس كبلد عبور ومحطة انطلاق إلا بعد ثورة 2011. في العام 2012، وقَّعَت تونس اتفاقية “شراكة مميزة” مع الاتحاد الأوروبي، مدعومة بخطّة عمل للفترة 2013-2017. وكان الطّموح واضحًا: تمهيد الطريق لتصدير سياسات اللجوء والعودة للاتحاد الأوروبي في تونس.[3] وفي سنة 2018، وبمقترح من المفوضية الأوروبية، حاولَ الاتحاد الأوروبي إنشاء “منصات إنزال وإيواء” في تونس، إلا أن النتيجة كانت فشلا ذريعا.[4]
ولكن في الوقت الذي كان فيه واضحا -حتى سنة 2018- أن الخطة الأوروبية لن تُنفّذ، إلا أن قوى النفوذ الأوروبي كانت تَميل بالفعل إلى تطوير خطتها بفرض سياسة الأمر الواقع في شمال أفريقيا لعدة سنوات. ويبدو أن تونس تَبرز كمُرشّح مفضّل لتصبح منطقة “تخزين” المهاجرين غير المرغوب فيهم، على الرغم من أنها ليست بأي حال من الأحوال بلداً “آمناً” للمهاجرين،[5]وليست المتسبب الرئيسي في مشكلة الحدود. وهكذا مع بداية حكم قيس سعيّد في سنة 2019 وتواصل انفراده بالسلطة منذ 25 جويلية 2021، يبدو السؤال مُلحَّا: هل قبلَ الرئيس التونسي بأجندات السياسة والمخططات الأوروبية في مسألة الهجرة؟ أم تَرجم خطاباته عن السيادة إلى مُمارسة سياسية حقيقيّة؟
استمرار تعزيز القوات الأمنية بتمويلات أوروبية
تقريبا، في كلّ خطَاباته المتعلّقة بقضايا الهجرة والسيادة الوطنية يؤكد الرئيس سعيّد عدم قبول دور حارس حدود الاتحاد الأوروبي، في حين أن البيانات المتاحة تؤكد نقيض هذه السردية، وهنا نذكر -مثالا لا حصرا- بعض المعطيات المنشورة في موقع شبكة معلومات مراقبة الهجرة:
-إعلان وزير الداخلية الفرنسي جيرالد درامانان على مساعدة تونس بقيمة مالية تُقدّر بـ 25 مليون يورو وذلك بهدف شراء مستلزمات حرس الحدود وتدريبه. وفي أوت 2023 وعدَت السلطات الإيطالية أيضًا بتسريع توفير زوارق الدورية والمركَبات الأخرى بهدف منع المغادرة البحرية.
-تَعهّد الاتحاد الأوروبي بتَقديم مبلغ لتونس قيمته 150 مليون يورو وذلك في أعقاب مذكّرة التفاهم يوم 16 جويلية 2023. وتلقّت تونس في سبتمبر 2023 تحويلاً أوّلًا قيمته 67 مليون يورو.
-بمُوجب مذكرة التّفاهم، سلّم الاتحاد الاوروبي قطع الغيار لخفر السواحل التونسي الذي يحتفظ بـ 6 قوارب قيد التشغيل.
-إعلان المفوضية الأوروبية في سنة 2021 إنشاء “أكاديمية تدريب لخفر السواحل”. بدأ المشروع الذي نفّذَته الشرطة الفيدرالية الألمانية والمركز الدولي لتطوير سياسات الهجرة في جانفي 2023 ومن المفترض أن يستمرّ حتى جوان 2026، بمبلغ 13.5 مليون يورو.
-أعلن المركز الدولي لتطوير سياسات الهجرة، في 17 نوفمبر 2023، تدشين مركز التكوين المشترك بين الوكالات لإدارة الحدود (نفطة).
-في سبتمبر 2023، زارَ وفد تونسي مقر فرونتكس في بولندا، بمشاركة وزارات الداخلية والخارجية والدفاع. خلال هذه الزيارة، تمَّ عَقد جَلسات إحاطة حول نظام المراقبة عبر الحدود.
-في سبتمبر 2023، أكّدَت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، على الحاجة إلى “ترتيب عمل بين تونس وفرونتكس” و”تعزيز مراقبة الحدود في البحر والمراقبة الجوية”.
-في جويلية 2023، اعترفَ الاتحاد الأوروبي علنًا بأن معدات تكنولوجيا المعلومات لغرف العمليات وأنظمة الرادار المتنقّلة وكاميرات التصوير الحراري ورادارات الملاحة وأجهزة السونار قد تم تسليمها إلى تونس حتى الآن، ومن المتوقّع أن يأتي المزيد من معدات المراقبة.
بالإضافة إلى المعطيات المذكورة، وفي وثيقة رسمية لوزارة الداخلية الإيطالية[6]، يتبيّن أنه في 12 ديسمبر 2023 وافقت الداخلية الإيطالية على إقرار مبلغ إجمالي قيمته 4.8 مليون يورو، وذلك بهدف تدريب الحرس الوطني التونسي وتوريد المركَبَات والمواد إلى الحرس الوطني ولا سيما 6 وحدات بحرية مستخدمة بطول 17 متراً، إضافة إلى توفير خدمات الصيانة البحرية والدعم التقني واللوجستي. وبموجب هذه الاتفاقية نشَرَت وزارة الداخلية الإيطالية على موقعها الرسمي X يوم 28 أوت 2024 خبرا مفاده: “تسليم ثلاثة زوارق دورية إلى السلطات التونسية وذلك في إطار التعاون الإيطالي التونسي في قضايا الهجرة ومراقبة الحدود“.
وفي إطار تعزيز سياسة الحدود التقييدية، صدر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية، بتاريخ الجمعة 5 أفريل 2024 أمر عدد 181 لسنة 2024، يتعلّق بتنظيم البَحث والإنقاذ البحريين، حيث يهدف هذا الأمر إلى تنظيم البحث والإنقاذ للأشخاص المكرُوبين بالبحر، ولكن هذا الأمر يُخفي انتهاكات إنسانية وسيُعزّز سياسة “الحدود الرّدعية”. حيث نشرت المنظمة البحرية الدولية خريطة منطقة البحث والإنقاذ التونسية، وهي مساحة جغرافية-بحرية ضخمة تسمَح للبحرية التونسية بعمليات اعتراض وإعادة المهاجرين.
وبحَسب البلاغ الرّسمي الأمريكي، قرّرَت وزارة الخارجية الأمريكية يوم 20 أوت 2024 الموافقة على صفقة عسكرية أجنبية مُحتمَلَة مع حكومة تونس متكوّنة من قوارب بحرية مقاسها 65 مترا بتكلفة تقديرية تبلغ 110 مليون دولار. ويؤكّد المصدر نفسه على أنّ “هذا البيع المقترح سوف يدعم السياسة الخارجية الأميركية وأهداف الأمن القومي من خلال المساعدة في تحسين أمن حليف رئيسي غير عضو في حلف شمال الأطلسي والذي لا يزال يلعب دوراً مهماً في الأمن الإقليمي وعمليات حفظ السلام في مختلف أنحاء أفريقيا”.
جدير بالذكر أنّ المساعدات التنموية هي أداة ضغط وابتزاز في قضايا الهجرة، مثلمَا وردَ ذلك في بيان الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي يوم 11 جوان 2023، أين تمّ التطرق إلى الهجرة في النقطة الثالثة بعد تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية وبعث شراكة في مجال الطاقة المستدامة والتنافسية. وتقوم السياسات الأوروبية الهجرية على منطق توجيه السياسات المحلية عبر المقايضة بالمساعدات، إذ تُجبَر البلدان الواقعة على الحدود الجنوبية للاتحاد الأوروبي على لعب دور الحارس المتقدّم، مقابل الحصول على مساعدات بوصفها “بلدانا تُظهِر استعداداً حقيقياً للوفاء بالتزاماتها”.[7]
الهجرة في زمن انهيار الديمقراطية
في سياق تفرّد قيس سعيّد بالحكم، وفي ظرفية عزّزت فيها المساعدات الأوروبية قوّة وزارة الداخلية التونسية، يتضّح الخطر الواضح. حيث “أنّ شرط الهجرة لا يضيف شيئا إلى الشرط الديمقراطي، فالأول ينزل بالثاني إلى مستوى ثانوي إلى أن يُنسى، وخاصة في حالات الطوارئ المتعلقة بالهجرة. وبالتالي فإن النتيجة المباشرة ستكون المزيد من التدهور في النظام الديمقراطي وحماية حقوق الإنسان، وهو أمر من شأنه أن يعزز الزيادة في المرشحين للهجرة نحو أوروبا.”[8] وهكذا وعلى مرّ السنين، فإنّ “الأنظمة المغاربية ترى في دورها المكمل للقمع وسيلة للمساومة مع الدول الأوروبية.. وبعد أن أنكرت ذلك، فإنها تسلط الضوء على الوجود القوي للمهاجرين على أراضيها. وبالتالي تصبح حماية أوروبا بمثابة نوع من الإيجار الجغرافي.”[9]
في الحالة التونسية، وخلال حكم قيس سعيّد، تُعتبر مذكرة التفاهم أحد الوسائل التي تساهم في استمرارية العلاقات غير المتكافئة وتعزيز قوّة وزارة الداخلية من خلال دعمها بالمعدات اللوجستية والتدريبية والفنيّة، فهي الوسيلة التي أضفت الشرعية على استبداد قيس سعيّد، وقوّضت دعوة الاتحاد الأوروبي لإرساء الديمقراطية في تونس، وأظهرت أن مخاوف أوروبا بشأن الهجرة تفوق اعتبارات حقوق الإنسان.
وفي نفس الاتجاه أصبح الاستخدام “السيادَوي” لمسألة الهجرة أداةً بيد النظام السياسي الحالي لتشويه المعارضات المدنية والسياسية التي تُطالب بسياسات هجرية مختلفة، ورميها بتهم “العمالة” و”التواطؤ مع الخارج”. والتضييق على حرية الناشطات والناشطين في مجال الهجرة من خلال فتح ملاحقات جزائية في حقهم، واعتقال البعض منهم. وهنا تُستخدَم سياسَات الهجرة المتواطئة مع سياسات الاتحاد الأوروبي كمدخل لإضعاف الديمقراطية الداخلية، التي تمرّ بأشدّ أزمَاتها على الإطلاق تزامنا مع الانتخابات الرئاسية المزمَع إجراؤها في 6 أكتوبر 2024.
سياسة قيس سعيّد في مجال الهجرة: من هم المستفيدون؟ ومن هم الخاسرون؟
المستفيدون الرئيسيون والمباشرون من سياسة تصدير الحدود التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي في تونس هم الشركات التي تزوّد تونس بمعدات وتكنولوجيا المراقبة.
ومن بين المستفيدين من هذه السياسات أيضاً المنظمات والوكالات التي تُنفّذ مشاريع وبرامج تدريبية وأنشطة أخرى في تونس في مجالات التنمية والتعاون وإدارة الهجرة أو مراقبة الحدود، والتي تُوظّف اليوم عددا مُهما من الموظفين في تونس. وبشكل عام يستفيد الاتحاد الأوروبي ودولِه الأعضاء بشكل مباشر من اندماج تونس المتزايد في النظام الحدودي الأوروبي، ليس فقط في الجانب المتعلّق بسياسة الهجرة ولكن أيضاً في الجانب المتعلّق بالأمن والتجارة. إذ أن السيطرة المتزايدة على الحدود البرية التونسية، تجعَل من الممكن إبقائها مغلقَة بشكل متزايد، وهو تطوّر له أيضًا عواقب وخيمة على التجارة النظامية وغير النظامية بين تونس والجزائر وليبيا المجاورتين.
أما كتلة المتضررين، فهي تضم الجماعات المحلية التي تعيش بالقرب من الحدود مع الجزائر وليبيا والتي تتأثر تأثرا شديدا، إذ أنه في مناطق مثل بن قردان أو القصرين نعثر على عائلات بأكملها تعيش على التجارة الحدودية، بصرف النظر إن كانت نظامية أو غير نظامية، ولكن الغلق المتزايد للحدود بتمويلات أوروبية يهدّد أرزاق هذه الأسر في ظرفية تخلّت فيها الدولة التونسية عن توفير الكرامة والشغل لهذه الجماعات السكانية. ويتأثّر أيضا المجتمع الصيدي التونسي بسياسة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الحدود، حيث أنّ دعم الخوافر الليبية قد عززّت من قوّة خفر السواحل الليبي الذي يَمنع صيادي قابس وجرجيس من الإبحار في خليج سرت الغني بالأسماك وفي المناطق الصيدية المشتركة وذلك في سياق أصبح فيه المتوسط مرتعا للميليشيات. كما أنّ الرقابة البحرية والأمنية المتزايدَة تمنع أحيانا العديد من الصيادين -وبخاصة بحارة الصيد الساحلي- من الإبحار لمسافات طويلة حيث تتواجد الثروة البحرية، وذلك لأن السياسة الأوروبية جَرّمَتهم وتعتبرهم الأيادي الخفية في رحلات الهجرة غير النظامية.
بشكل عام، إن إضفاء الطابع الأمني على البلاد وعسكَرتها وإخضاعها للسيطرة المشددة من قبل القوات الأمنية والتي يتم تمويلها وتجهيزها من قبل دول الاتحاد الأوروبي بخاصة في المناطق الساحلية أو الحدودية البرية مع ليبيا والجزائر، تمثل تهديدا حقيقيا لأرزاق التجار والصيادين. وفي السياق نفسه، تتعرضّ معظم الشرائح الاجتماعية التونسية إلى مصادرة حقّها في التنقّل بسبب نظام التأشيرات الذي تَفرضه حكومات الاتحاد الأوروبي بشكل متزايد، وبالتالي تضييق مسارات التنقل الآمنة على التونسيين وسجنهم.
كما أنّ الخاسرين المباشرين أيضا هم المهاجرون والمجتمع التونسي ككل، حيث أنّ هذه السياسات الهجرية لن تنجح في تحقيق العدالة والمساواة، وستفشل في إيجاد مسارات تنقّل آمنة، وستُعزّز المقاربة الاستبدادية. ويتضح هذا من خلال الإيقافات التي يتعرّض لها النشطاء التونسيون في قضايا الهجرة، ومن خلال المآسي التي عاشَهَا المهاجرون العالقون في تونس بعد انعقاد المجلس الأمن القومي في 21 فيفري 2023، حيث نُقل مئات المهاجرين إلى المناطق الحدودية والعازلة ليُتركوا للموت.
بالإضافة إلى هذا تلعب سياسَة الحدود التقييدية دورًا بارزا في تدمير الموارد البشرية والمالية لعائلات المهاجرين غير النظاميين. حيث يتطلب المشروع الهجري استثمار مبالغ كبيرة من المال من جانب الأسر، ويستند هذا الاستثمار على المدخرات أو يؤدي إلى ممارسات مثل بيع الأراضي أو الممتلكات أو الماشية أو التداين من مؤسسات اقتراض صغرى. وهكذا فإن “فقدان المهاجر هو مرادف لفقدان ثروة بشرية مُحتملة وخلل في توازن الأسرة….وأخيرا ومن خلال صور الموت والاختفاء المأساوي بسبب الحدود المغلقة تتعرض عائلات المفقودين إلى الفجيعة والمعاناة النفسية”.[10] ولعل الصور الدراماتيكية التي خلفتها حركة 18/ 18 بجرجيس[11] هي مثال بارز على صور الألم ودولة الاحتقار. وحول المفقودين على الشواطئ التونسية، تفيد بيانات المُنتَدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تسجيل 440 فقيد ومفقودة سنة 2021، و581 سنة 2022، و1300 سنة 2023. كما تطوّرت عدد عمليات الاجتياز المحبطَة من 273 عملية سنة 2019، إلى 1069 سنة 2020، و1748 سنة 2021. كما اعترض الحرس البحري على الشواطئ التونسية حوالي 38372 مجتازا في سنة 2022 و48074 مجتازا سنة 2023.
وتكشف أرقام الإدارة العامة للحرس الوطني بتونس أنّ عدد المهاجرين الذين تَمَّ اعتراضهم برّا وبحرا يبلغ حوالي 302821 مهاجرا خلال الفترة الممتدة من 1 جانفي 2024 إلى 31 ماي 2024، مقابل 21652 عملية إحباط في الفترة نفسها من سنة 2023. وبحسب بيانات السلطات الايطالية فقد انخفض عدد الواصلين إلى إيطاليا بطريقة غير نظامية بنسبة 60.8% منذ بداية العام حتى شهر ماي 2024 مقارنة بنفس الفترة من سنة 2023.
تحويل تونس إلى سلّة للمهاجرين وإخضاع الحياة لسياسة الموت
لئن فشلَ الاتحاد الأوروبي في إنشاء “منصات إنزال وإيواء” في سنوات 2018 و2019، إلاّ أنّ نظام الحكم الحالي (بخاصة بعد 25 جويلية 2021) قد نجح في إنشاء منصات اعتقال وذلك من خلال منعَ المهاجرين العالقين في تونس من خوض غمار المتوسط وسجنهم على الحدود البرية وفي الحقول أو “معتقلات الزيتون” وذلك بدعم أوروبي. فعلى سبيل المثال يبيّن تحقيق أجرته صحيفة لوموند وتم نشره في 16 أكتوبر 2023 بأنّ حوالي 3700 مهاجرا تم ترحيلهم من ليبيا منذ جويلية 2023، مع العلم أنه لا تزال حتى اليوم عمليات الترحيل الجماعي مستمرة. ووفقا لتصريح مسؤول من منظمة حكومية دولية كبرى لصحيفة الغارديان نقَلَت السلطات التونسية أكثر من 4000 مهاجر في جويلية 2023 إلى مناطق عازلة وعسكرية على الحدود مع ليبيا والجزائر.
وفي دراسة ميدانية تُعالج وضع المهاجرين في تونس صدرت سنة 2024، يؤكد 77% من العيّنة المستجوبَة من المهاجرين العالقين في تونس إنهم قد تعرضوا لواحد أو أكثر من أشكال العنف في تونس، ويصرّح 52.5% بأنّ إحساسهم بعدم الأمان هو الذي يدفعهم إلى مغادرة تونس، ويُقر 40.1% بـأنهم لا يجدون مياه صالحة للشرب، و70% تقريبا يعرفون مهاجرين ليس لديهم ما يأكلون. وفي هذا السياق كثّفت السلطات التونسية من عمليات الترحيل الجماعي للمهاجرين، فعن طريق الإدارة العامة للحرس الوطني والمنظمة الدولية للهجرة، طردَت السلطات التونسية قرابة 2500 مهاجرا من إفريقيا جنوب الصحراء نحو بلدانهم الأصلية منذ مطلع جانفي إلى ماي 2024، وذلك تحت عنوان “العودة الطوعية”. وهكذا فإن الاتفاقات الأوروبية التونسية وممارسات السلطة المحليّة قد انتهكت حقوق المهاجرين وحوّلت تونس إلى “سلّة للمهاجرين”. ومن ثمة نفهم تنفيذ السياسة الميتة وعمليات إبادة الإنسانية.
إن الإدارة الاقتصادية والسياسية للشعوب من خلال عرضها للموت هي ظاهرة عالمية، حيث أن الحروب والإبادات الجماعية وأزمات اللاجئين والعمليات المعاصرة للتفقير والهجرة تكشف تزايد أعداد الجماعات الهشة المعرّضة بشكل مباشر وغير مباشر للموت. وللتعبير عن هذه المشهدية القاتلة، صاغ أشيل مبيمبي فكرة النيكرو بوليتيك، أو سياسية الموت التي تعتَمد على حبس مجموعات سكّانية بأكملها في أماكن جغرافية مسيجَة شبيهة بالمعسكرات. ويرى مبيمبي أن شكل المعسكر (مثل معسكر اللاجئين) أصبح وسيلة سائدة لحكم السكان غير المرغوب فيهم. ويتمّ عزل هؤلاء في أماكن محفوفة بالمخاطر وعسكرية حتى يُمكن السيطرة عليهم ومضايقتهم واحتمال قتلهم. إنها “حالة دائمة من العيش في الألم”. ومن خلال هذا المثال يمكن القول أن المهاجرين العالقين في صحراء تونس وحدودها وحقول زيتونها أصبحوا عرضة للموت الدائم.
[1] Senato della Repubblica, « Legislatura 16 Risposta ad interrogazione scritta n° 4-06711 ». https://www.senato.it/japp/bgt/showdoc/frame.jsp?tipodoc=Sindispr&leg=16&id=667145
[2] COMMUNICATION CONJOINTE AU CONSEIL EUROPÉEN, AU PARLEMENT EUROPÉEN, AU CONSEIL, AU COMITÉ ÉCONOMIQUE ET SOCIAL EUROPÉEN ET AU COMITÉ DES RÉGIONS: UN PARTENARIAT POUR LA DÉMOCRATIE ET UNE PROSPÉRITÉ PARTAGÉEAVEC LE SUD DE LA MÉDITERRANÉE. Bruxelles, le 8.3.2011
[3] Sophie-Anne Bisiaux, « La Tunisie, terre d’accueil… des politiques européennes », Dans Plein droit 2020/2 n° 125, pp 27 – 30, p 28.
[4] Ibid. P 27.
[5] Ibid.
[6] Ministero dell Interno : DIPARTIMENTO DELLA PUBBLICA SICUREZZA DIREZIONE CENTRALE DELL’IMMIGRAZIONE E DELLA POLIZIA DELLE FRONTIERE.
[7] Lorenzo Gabrielli « Les enjeux de la sécurisation de la question migratoire dans les relations de l’Union européenne avec l’Afrique. Un essai d’analyse ». Dans Politique européenne, vol 2, n° 22, 2007, pp 149 – 173, p 166.
[8] Ibid.
[9] Ibid. P 168.
[10] Wael Garnaoui, « Externalisation des frontières européennes et politiques migratoires tunisiennes : une psychologie des impacts socio- politiques », Confluences Méditerranée, Vol 2, N0 125, 2023, pp 107- 122, p113.
[11]خالد طبابي، جثث عائمة وأرواح هائمة: عبث الدفن ودولة الاحتقار، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، 2022.