في ساعة متأخرة من ليلة 01-06-2021 ومن دون سابق إعلام أو تمهيد، تحدث الرئيس التونسي قيس سعيد في كلمة موجهة للشعب عن امتناع المجلس المؤقت للقضاء عن تطهير القضاء رغم التحذيرات التي وجهت له وعن عزمه عرض مشروع تنقيح للمرسوم المحدث لتلك المؤسسة يخوّله إعفاء القضاة مباشرة. ومن دون انتظار قرار الوزراء المنعقد تحت رئاسته وفي مشهدية أكدت احتكاره الفعلي للسلطة، مضى يستعرض ما ينسبه من تجاوزات لمن قرّر إعفاءهم. ساعاتٍ بعد ذلك، صدر عدد خاصّ من الرائد الرسمي يخصص لنشر المرسوم عدد 35 لسنة 2021 الموعود به وقائمة إعفاءات لقضاة ضمّت 57 اسما منهم قاضيّتين من المحكمة الإدارية والبقية من القضاء العدلي. وبعد سنتين من ذلك الحدث، يتّضح أن المرسوم كان مفصليّا في رسم ملامح إدارة القضاء فيما يسمى الجمهورية الجديدة كما يتأكد أنه كان المدخل لإرساء قضاءها الوظيفة، وهما مسألتان تستحقّان الوقوف عندهما في مثل هذه الذكرى الأليمة تمسّكا بطلب رفع المظالم والمطبات التي تولدت عنها.
ما قبل الإعفاءات ليس كما بعدها: الإدارة المباشرة للقضاء
متى أعلن إجراءات 25 جويلية 2021 التي مكّنته من احتكار ممارسة السلطة السياسية، اصطدم الرئيس بمجلس أعلى للقضاء لا ولاية له عليه تمسّك القائمون عليه باحترام ضمانات استقلالية القضاء. ورفضوا ما سبق وأن أعلن من رئاسته للنيابة العمومية بما أجبره على أن يتراجع عن ذلك. كما وجد نظامه نفسه في أكثر من محطة في مواجهة نيابة عمومية عدلية نسب لها التقصير في التصدي لمن يوصمهم بالإرهاب وهم أساسا معارضون لنهج حكمه الجديد. في تلك الفترة، ما ظهر من مقاومة قضائية لنوازع الاستبداد استند إلى عاملين أساسيين: أولهما ما تحقق للقضاة خلال فترة الديموقراطية من ضمانات استقلالية تمثلت أساسا في رفع يد السلطة التنفيذية عن إدارة مساراتهم المهنية وإسناد ذلك لمجلس أعلى للقضاء مستقل وظيفيا وهيكليا منفتح على غير القضاة ومنتخب في الأغلبية المطلقة لأعضائه. وثانيهما ثقافة الاستقلالية التي انشرت في صفوف القضاة بفعل الثورة وقيمها. وفيما بدا تعاطيا مدروسا مع هذا الوضع، اتّجه الخطاب الرسميّ في مرحلة أولى نحو انتقاد القضاء وتحميله مسؤولية تفشّي الفساد قبل أن ينتهي لتحميل مجلسه مسؤولية العجز عن علاج علله ويصولا إلى إعلان حلّه وإرساء مجلس بديل عنه أعضاؤه معينون بالصفة في عدد منهم ومن الرئيس في عدد آخر من القضاة المتقاعدين.
كان ينتظر حينها أن يكون المجلس الجديد مطيعا وقادرا على تنفيذ ما يطلب من تغييرات في القضاء. خلافا لذلك، وبفعل التزام الأعضاء المعينين بالصفة بالمجلس العدلي تحديدا بمعايير تنقلات القضاة وتأديبهم التي سبق وأرست تقاليدها مجالس الانتقال الديموقراطي، لم يصدر عن البناء الجديد أي تدخل من شأنه تغيير توزيع المسؤوليات داخل المحاكم ويؤول لتحول في عقيدة القضاء الجزائي. وكان ذلك ما برر بداية الإدارة المباشرة للقضاء عبر بوابة الإعفاءات.
بوابة الإدارة المباشرة: الرئيس يقرر
يوم هندس الرئيس المجلس المؤقت للقضاء، توجّه اهتمامه لتنظيم إعفاء القضاة بواسطته. تاليا وعندما عدّل مرسومه، خصّ نفسه باتخاذ قرارات الإعفاءات متى أراد ذلك كما أوجب ان يتبع ذلك إثارة للتتبع الجزائي في حقّ من يتمّ “إعفاؤه”، علاوة على تحجير نظر القضاء الإداري في مشروعيّة مقرّره قبل صدور أحكام جزائية نهائية. وبهذا، مكنت الإعفاءات رئيس الدولة من منفذ يجعله قادرا من دون حاجة لمساعدة أيّ مؤسسة أخرى على معاقبة القضاة ممن لا يلائمون المعايير التي يرى أنها لازمة لمن يشغل وظيفهم في الجمهورية الجديدة.
الإعفاءات: المدخل لفرض ولاية التنفيذي على القضاء
أول الثورة، ولمّا كان شعار تطهير القضاء يغري جانبا من النخبة السياسية وجانبا من القضاة، عمدت السلطة السياسية لاستعمال آلية إعفاء القضاة بدعوى تحقيق تلك الغاية مرتين الأولى بتاريخ 10-02-2011 وشملت 06 قضاة والثانية بتاريخ 28 -05-2012 وشملت 82 قاضيا. في تلك الحقبة، برّر السياسيّ تدخّله في القضاء بغياب مجلس شرعيّ للقضاء وبالحاجة الثوريّة للإجراء. ورغم ذلك، سريعا ما تنبه القضاة وغيرهم لكون الشعار المغري يفسد ولا يصلح فتعددت المطالبات بجبر ضرر من شمله وهو ما انتهت إليه المحكمة الإدارية التي ألغت كل مقررات الاعفاء. في مذبحة القضاة الحاصلة في 2022، استعملت السلطة الحاكمة ذات خطاب التطهير؛ إلا أن شهادات القضاة ممن شملتهم والقضايا الجزائية التي أثيرت في حقهم أوضحت انها استهدفت في الجانب الأهمّ منها القضاة الذين لم ينخرطوا في مشروعها فرفضوا إيقافات كانت تريدها واتهامات حرصت عليها فكانت محاسبتهم لأجل ذلك. حينها لم ينتبه جانب من التونسيين لتلك الخلفية وظنّوا الأمر مجرّد خلاف بين قضاة يريدون إرساء جمهورية قضاة لا يمكن محاسبة من يخطئ منهم فيها وسلطة سياسية قرّرت مواجهتهم. فلم يكن الحدث سببا في حراك يتجاوز القضاة وجزءا من النخبة السياسية والحقوقية. ربما كان ذلك مما فرض نهاية معركتها بفرضها كأمر واقع رغم إيقاف القضاء الإداري لمقرراتها ليكون بذلك القضاء بعدها لا يشبه ما كان عليه من قبلها.
ما بعد الإعفاءات: إدارة مباشرة للقضاء دون واجهات
اعترف المجلس المؤقت للقضاء العدلي بنفاذ مقررات إيقاف تنفيذ الإعفاءات التي صدرت عن المحكمة الإدارية وعددها 49 من خلال اعترافه باستعادة من استفادوا منها صفتهم كقضاة وبالتالي تمتعهم بحصانة القضاة أولا وإعادة ادماجهم في مشروع الحركة القضائية التي اقترحها ثانيا. ويبدو أن الموقفين كشفا عن عدم فهم القائمين عليه المطلوب منهم. وفيما يبدو من ارتدادات الاختلاف، أحيت وزارة العدل أحكام القانون عدد 29 لسنة 1967 في أبوابه المتعلقة بإدارة المسارات المهنية للقضاة وتأديبهم رغم أنه كان تمّ نسخها بموجب قوانين ما بعد الثورة المحدثة لمجالس القضاء وبالمرسومين عددي 11 و35 اللذيْن أصدرهما رئيس الجمهورية وضبط فيهما ذات المسائل. وعليه، صدرت مذكّرات تسدّ الشّغورات التي تولّدت عن الإعفاءات وتقرر إيقافات قضاة عن العمل، قبل أن تصدر حركة قضائية للسنة القضائية 2023 -2024 مسّت بأعضاء مجلس القضاء المعينين بالصفة وصنعت شغورا في مناصبهم ومهدت تاليا لتعطيل النصاب في مؤسستهم.
وبعد تعطيل مجلس القضاء، أصدرت وزارة العدل طيلة السنة القضائية أكثر من مائة وعشرين مذكرة عمل نقلت بموجب عدد منها قضاة من مراكز عملهم مع الحط من درجة بعضهم وأسندتْ ترقيات لآخرين. كما أوقفت عددا من القضاة عن العمل مع حرمان بعضهم من الأجر وترك نصفه لعدد منهم.
ويستخلص مما سبق أن السلطة الحاكمة باشرت بعد الإعفاءات، إدارة مباشرة للقضاء تطورت بشكل أفضى لاستغنائها عن مجلس القضاء وصولا إلى تحويل القضاء الى وظيفة بالغة الهشاشة.
القضاء تحت السلطة: خوف.. وتخويف
لم تجد السلطة الحاكمة أي حرج في إيقاف قضاة عن العمل على خلفية قرارات قضائية صدرت عنهم في قضايا تتابعها ومباشرة بعد اتخاذهم إياها. كما لم تهتمّ بما تضمّنه الدستور النافذ من تكريس لمبدأ عدم نقلة القاضي من دون رضاه ولا بالضوابط التي تتعلق باستثناءاته. وكانت بذلك في ادارتها للقضاء فوق القانون. تلك الممارسة زرعت خوفا غير مسبوق وسط القضاة، مرده هشاشة وضعهم المهني. ولا يحتاج هنا الملاحظ لعمل المحاكم جهدا ليتبين أن من أثرها تعدّد إيقافات من ينتقدون السلطة السياسية أو يعارضونها، بما أدى لفرض الخوف من السجن في الفضاء العام وغيّب الثقة في قدرة القضاء في معارضة ما قد تطلبه هذه السلطة منه.
يستخلص من هذا أن مذبحة القضاة اندرجت في سياق سياسة ممنهجة هدفها صناعة قضاء يخاف السلطة الحاكمة ويخيف من يعارضها بما يفرض إحياء ذكراها. وهو ما دأبت عليه المفكرة منعا لتوظيف القضاء وتمسّكا بالحق في قضاء مستقل يحمي قيمة الدولة الديمقراطية.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.