بمرور سنة عن انطلاق أشغاله في 13 مارس 2023 وإلى حدود نفس التاريخ من هذه السنة (2024)، أصدر مجلس نواب الشعب 36 قانونا. هذا العدد الذي يبدو لأول وهلة هامّا نظرا لانطلاق المجلس في عمله التشريعي الصرف في الأول من جوان 2023 إلى موفى جويلية من نفس السنة ثم كانت العطلة البرلمانية، وبعودته في شهر أكتوبر كان العمل على قانون الميزانية والذي استحوذ على قرابة الشهرين الأخيرين من سنة 2023. ولذا لم يتبنّ المجلس في سنة 2023 إلا 13 قانونا. ولكن مع انطلاق سنة 2024، كانت وتيرة المصادقة على القوانين أكثر تصاعدا حيث إلى يوم 11 مارس صادق المجلس على مجموع 23 قانونا في شهرين من العمل.
وهو على المستوى العددي إنتاج هام، إلا انّ هذا العدد من النصوص القانونية المصادق عليها خلال السنة الأولى من العمل البرلماني سيوجب منّا التوضيحات التالية:
– أولا إن 24 من أصل ال 36 قانونا التي صادق عليها مجلس نواب الشعب، لا تحتوي إلا على فصل واحد أو عدد قليل من الفصول وأهمها القوانين المتعلقة بالمصادقة على الاتفاقيات العقود المتعلقة بحقول النفط، ذات العلاقة بالقروض والهبات واتفاقيات دولية، أي أن 66,7% من القوانين لا تحتوي على مضمون تشريعي، بل اكتفى المجلس بالمصادقة عليها دونما تداول فيها،
– ثانيا إن كل القوانين التي تمّت المصادقة عليها كانت بمبادرة من رئاسة الجمهورية. إلّا أنّ ذلك لم يمنعْ النوّاب من تقديم مقترحات لنصوص قوانين، ذلك أنه في سنة 2023 تقدم النوّاب ب10 مقترحات قوانين وإلى حدود 13 مارس تقدموا ب15 مقترح قانون. هذا العدد الهام من مقترحات النواب وبقطع النظر عن مدى جدّية العديد منها، لم يؤدّ إلى إقرار أيّ قانون منها، باستثناء شروع النواب في مناقشة قانون تجريم التطبيع مع ” الكيان الصهيوني” ومباشرة التصويت على مواده قبلما يتوقفوا عن ذلك بتدخل مباشر من رئيس الجمهورية. وكانت هي المرة الأولى التي يغيب فيها الانسجام بين رئيس الجمهورية ومجلسه. وقد عاد هذا الأمر ليظهر عندما رفض النواب مشروع قانون تقدّم به رئيس الجمهورية ويتعلّق بفتح مكتب لصندوق قطر للتنميّة، حيث أسقط النواب هذا المشروع بعدم حصوله على الأغلبية المطلقة من الأصوات، وهي ردة فعل في تقديرنا على تدخل الرئيس الواضح والسلطوي لإيقاف التصويت على قانون تجريم التطبيع مع اسرائيل.
– ثالثا لقد لاحظنا وخاصّة في المرحلة التشريعية الأولى من مارس إلى ديسمبر 2023 السرعة غير المبرّرة في المصادقة على القوانين من قبل المجلس، ذلك أن عديد القوانين وخاصة تلك التي تمت المصادقة عليها بين جوان وجويلية 2023 كانت أودعتها رئاسة الجمهورية بمكتب الضبط لمجلس النواب وصادقت عليها الجلسة العامة في نفس اليوم وبعضها صادقت عليه بعد 24 ساعة فقط من إيداعها وهي في نظرنا مسألة غاية في الخطورة لأنها تتعارض مع الدور الرئيسيّ للمجالس النيابية وهو التداول في مشاريع القوانين. وبذلك، يحرم المجلس نفسه من فرصة التداول معلّلا ذلك بوجوب التعجيل في خدمة مصالح البلاد، بخاصّة عندما تتعلق مشاريع القوانين بالقروض.
هذه الملاحظات الأوليّة ستؤثّر حتمًا على تعامل مجلس نواب الشعب مع الحقوق والحريّات من خلال القوانين التي صادق عليها والتي تعكس أولا توجّه رئاسة الجمهورية وأولوياته ثم مدى اتفاق المجلس معها. وهو ما سنحاول التعرّض له من خلال نظرنا في القوانين ذات العلاقة بالحقوق المدنيّة والسياسيّة من ناحية (1) والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من ناحية ثانية (2) وأخيرا الحقوق البيئية والتنموية (3).
1. أولويّات مجلس الرئيس في الحقوق المدنية والسياسية:
صادق مجلس نواب الشعب على ثلاثة قوانين من جملة الـ 36 الصادرة من مارس 2023 إلى مارس 2024 أي بنسبة 8,3%. وهذه القوانين هي الآتيّة:
أولا، القانون المتعلّق بالموافقة على انضمام تونس إلى اتفاقيّة مجلس أوروبا المتعلّقة بالجريمة الإلكترونيّة المعتمدة ببودابست في 23 نوفمبر 2001 (القانون عدد 9 في 6 فيفري 2024). هذه المصادقة الهامّة على هذا النصّ تتعارض من حيث الأصل مع المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المؤرخ في 13 سبتمبر 2022، وخاصة المادة 24 منه والتي تجرّم أعمالا غير دقيقة وغير واضحة ممّا يوسّع نطاق التجريم بصفة غير مبرّرة وتؤدّي إلى إلغاء حريّة التعبير. ولذا قد يكون من المنطقي بعد المصادقة على اتّفاقية بودابست وملحقاتها، تنقيح المرسوم عدد 54 وخاصة الفصل 24 المتعلق بالإشاعة والأخبار الزائفة. وهو ما أدى بمجموعة من النواب إلى تقديم مبادرة تشريعية تتعلق بتنقيح المرسوم 54 وإلغاء الفصل 24 منه.
القانون الثاني عدد 22 لسنة 2024 المتعلق ببطاقة التعريف الوطنية والذي أقر البطاقة البيومتريّة وهو قانون تم انتقاده منذ كان مشروعا فيما يتعلّق بنوع المعطيات التي ستخزّن في الشركة من ناحية وكيفية الاطّلاع عليها ومراقبة مدى صحّتها وتطابقها مع حماية المعطيّات الشخصيّة من ناحية والانتقاد الثاني والأساسي والمتعلّق بقاعدة البيانات الوطنية لكل هذه المعطيات المخزنة إلكترونيا ومدى خطورة ذلك مع ما عرفته عديد الدول من سرقة واستغلال معطيات مواطنيها ومواطناتها الشخصية.
أما القانون الثالث فهو القانون عدد 23 لسنة 2024 والذي نقّح القانون المتعلّق بجواز السّفر ووثائق السّفر، والذي أقرّ أيضا جواز السفر البيومتري وهو إجراء طال انتظاره خاصة وإن لم تعدْ تقبل أغلب مطارات العالم الجوازات غير البيومترية ممّا قد يمنع التونسيين/التونسيات من السفر.
2. قوانين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فارغة من أي محتوى:
بلغ عدد القوانين ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 9 قوانين بمعدّل 2% من مجموع قوانين 2023-2024 إلا أنّ 5 منها تتعلّق بالموافقة على اتّفاقيات ذات صبغة مالية (قروض وهبات) وبينها اتفاقية الضمان الاجتماعي بين تونس وكييك. أما النصوص الأخرى فتعلّقت:
– بالحق في الشغل وذلك بالمصادقة على فصل هامّ في قانون ميزانية 2024 (القانون عدد 13 لسنة 2023) والمتعلق بتسوية وضعية عمال الحظائر والقانون عدد 6 لسنة 2023 والذي نقح فصلا واحد من قانون تنظيم القضاء العسكري والذي اشترط شهادة الماجستير للدخول إلى مناظرة الالتحاق بهذا السلك.
- الحق في الصحة بقانونين هامين في نظرنا، وهما نصّان كانت الإدارة السابقة لـ25 جويلية 2021 قد أعدتهما ولكنهما لم يعرضا على مصادقة مجلس نواب الشعب: الأول عدد 12 لسنة 2023 ويتعلق بوكالة الدّواء ومواد الصحة ( 15 فصلا) والثاني عدد 11 لسنة 2024 يتعلّق بمكافحة المنشطات في مجال الصحة ( 45 فصلا). القانون الأول جاء بناء على رغبة رئاسية في تنظيم قطاع الأدوية ( رغم وجود الصيدلية المركزية) من خلال إحداث مؤسسة عمومية جديدة تنضاف إلى العشرات الأخرى الموجودة والتي تعاني من نقص الموارد وغياب أساليب الحوكمة الناجعة. القانون الثاني جاء ليعوّض القانون عدد 54 لسنة 2007 والمتعلق أيضا بمكافحة تعاطي المنشطات في مجال الرّياضة والذي لم يعد يستجيب في كثير من أحكامه مع تطوّر التشريعات الدّولية في هذا المجال.
والملاحظ أن السنة الأولى تشريع لم تصادق على أي من القوانين ذات العلاقة بالمجال الثقافي (وهي تشرك في ذلك مع البرلمانات السابقة) والتي لم تجعل أبدا من المسألة الثقافية مسألة ذات أولوية أو حتى ذات أهمية. وذلك رغم مقترحيْ قانونين: يتعلق الأول بالصناعة السنيمائية في تونس (مقترح عدد 3/2024) والثاني يتعلّق بالفنان والمهن الفنية (عدد 55/ 2023) وهما مقترحان موروثان عن البرلمانات السابقة منذ 2014. ولم يتمّ الحسم في المصادقة عليهما لحدّ الآن رغم الحاجة الملحّة لهما وبخاصة فيما يتعلّق بالمنظومة القانونية للفنانين وللمهن الفنيّة.
3. الحقوق البيئة والتنموية: غياب الجديّة وحضور الاقتراض
بالنظر في القوانين الصادرة، نلاحظ أن 8 منها لها علاقة بهذه الحقوق. إلا أن أغلبها هي نصوص ذات علاقة بالاقتراض والتداين الخارجي، ( 6 من مجموع 9 نصوص)، تتعلق بالتطهير ودعم قطاع الحبوب بينما صدرت ثلاثة قوانين هي في تقديرنا هامة وخاصة القانون عدد 17 لسنة 2024 في 22 فيفري 2024 ويتعلق بتنظيم التجارة الدولية بأصناف الحيوانات والنيابات البرية، وهو قانون جاء لتطبيق اتفاقية واشنطن المؤرخة في مارس 1973، والتي صادقت عليها تونس في 11 ماي 1974 وأدرجت جزءا منها في مجلة الغابات لسنة 1988 إلا انه ومنذ المصادقة سنة 1974 لم تضع تونس تشريعات وطنية حول التجارة في الأصناف رغم وجود عديد الأصناف المهددة بالانقراض على التراب التونسي.
أما القانون الثاني، فجاء في شكل فصل واحد منقحا لقانون 11 جوان 1996 المتعلق بالنفايات وبمراقبة التصرّف فيها وإزالتها، حيث نقّح قانون عدد 2 مؤرخ في 4 جانفي 2024 الفصل 20، موضحّا تولي الجماعات المحلية والتجمعات البلدية التي تكوّن فيما بينها التصرف في النفايات المنزلية ولها إحالة ذلك إلى مؤسسات عمومية أو خاصة. وهو توضيح هام حسم الجدل حول المسؤولية فيما يتعلّق بالتصرّف في النفايات المنزلية لتصبح بوضوح راجعة للجماعات المحلية، ويكون دور الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات ناتجا عن إحالة الجماعات وليس دور أصليا يعوّض عمل الجماعات المحلية.
هذه الإضافات لا يجب أن تحجب عنّا غياب التشريعات الرئيسيّة والتي يطول انتظارها منذ ما يقرب من 15 سنة وبخاصّة مجلة المياه من ناحية ومجلة البيئة من ناحية أخرى. ذلك أن هذين النصيّن واللذين تمّ العمل عليهما لمدّة تجاوزت العشر سنوات ورغم الحاجة الملحة لهما إلا أنّه لم يتم لحدّ الآن مناقشتهما أمام المجلس وذلك رغم وجود مشروع قانون مجلة المياه منذ الدورة النيابية السابقة (2019-2021) وجود مشروع أمام الحكومة التونسية حول البيئة.
بالمحصلة تبقى السنة الأولى من العمل التشريعي لمجلس نواب الشعب ضعيفة مقارنة بمعدّل التشريع في السنوات السابقة (100 قانون كمعدّل في السنة). هذا الضعف الكمّي يصحبه أيضا ضعف على مستوى الكيف، ذلك أن كل النصوص المصادق عليها جاءت بمبادرة رئاسية ولم يستطع المجلس فرض أيّ من مقترحاته باستثناء مقترح قانون تجريم التطبيع والذي أجهض رئيس الجمهورية التصويت عليه. كما أن أغلب النصوص المصادق عليها جاءت محتوية على فصل واحد أو على عدد قليل جدّا من الفصول، ولم يناقش المجلس بصفة مستفيضة إلا قانون ميزانية الدولة لسنة 2024 بينما كانت مناقشاته ومداولاته لمختلف النصوص ضعيفة ومقتضبة مما يوحي بأنه (على الأقل في سنته الأولى) هو مجلس الرئيس ولا يرد له إرادة.
هذا الانطباع حاول النواب تجاوزه بإسقاط مشروع قانون الرئيس بفتح مكتب لصندوق قطر للتنمية وكذلك بإيداع مشروع لتعديل مرسوم الرئيس عدد 54 الذي ضرب به حرية التعبير وأحال بمقتضاه أكثر من 30 شخصا على القضاء.
كيف ستكون إذا الفترة القادمة وماهي أولويات المجلس؟
هذه الفترة الهامة والحساسة، بما أنها سنة انتخابية رئاسية يمكن أن تكون أيضا سنة التشريعات السياسية الكبرى. إذ كيف يمكن المضي في القيام بانتخابات كبرى دونما محكمة دستورية؟ ودونما دور للإعلام على ضوء المرسوم 54 المسلط على كل صاحب رأي حرّ؟ وفي غياب هيئة انتخابية عليا ومستقلة. نعتقد بأنه يمكن للمجلس النيابي إن أراد أن يقوم بدوره السياسي أن يؤدّيه في هذه الفترة وذلك بتمريره على الأقل قانونا للمحكمة الدستورية وفرض قانون انتخابي عادل، وإلغاء المرسوم 54 وتحديدا فصله 24.