تُصدِر مجلة المفكرة القانونية- تونس اليوم عددها 26 والذي نخصّصه لتوثيق أهم المستجدّات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الحاصلة خلال فترة إعداده وتحليلها، مع الإضاءة بشكل خاصّ على الحدث أو التحوّل الأكثر تأثيرا وأهمية في حياة تونس. وبذلك، تكون المفكّرة قد عدلتْ عن توجّهها ابتداء من 2018 في تخصيص أعدادها الدورية بأكملها للإحاطة بعنوان محدّد لتعود إلى روحية أعدادها التسعة الأولى الأكثر تنوّعا.
وانطلاقا من ذلك، نحَاول في هذا العدد الإحَاطة بعديد مَحاور الجدل التي أثيرَت طيلة السّداسية الأولى من سنة 2023. وفيما توقفنا فيه بشكل خاصّ على قضية الاعتقالات السياسية التي انطلقت منذ 11 فيفري 2023، واتخذت شَكل الحملة الواسعة التي طالتْ سياسيين معارضين ونقابيين ومحامين وقضاة، خضنا في مقالات أخرى متنوعة تطرح إشكالات راهنيّة متعلقة بالقضايا السياسية والحقوقية وقضية المهاجرين غير النظاميين. هذا بالإضافة إلى المسألة الاقتصادية التي يشكّل الاتّفاق المنتظر إبرامه مع صندوق النقد الدولي أبرز عناوينها.
من خلال هذه المضامين المتنوعة، يحاول هذا العدد إعادة تركيب صورة متعددة الأبعاد عن التجربة السياسية التونسية ومساراتها المستقبلية، بوصفها تجربة ما زالت تُشكّل وعدًا ببناء الديمقراطية وتحقيق العدالة والمساواة، رغم كل الهشاشة ومحاولات التصفية التي تمارسها سلطة الرئيس سعيد، تحت شعارات “المحاسبة” و”السيادة الوطنية” و”تحقيق الإرادة الشعبية”.
العدالة لا تُبنَى بالحيف السياسي
منذ الانقلاب الدستوري الذي تم تنفيذه مساء 25 جويلية 2021، سعى الرئيس سعيد إلى بناء سردية مُبشرة بميلاد “تونس الأخرى”، التي سيقودها الرئيس- المنقذ نحو أوضاع اجتماعية واقتصادية أقل بؤسا وأكثر ارتباطا بالديمقراطية والحقوق. استُعرضت هذه المرحلة الجديدة في الخطاب السياسي الرسمي بوصفها ثورة على “انحراف ديمقراطي” ومعالجة ضرورية لفساد قائم. أخذت هذه الإعلانات طريقها الدعائي على أرض خالية من التداول والعقلنة والجدل، وتمّ اختراع “كُتلة الشر” لتحمِل أوزار “العشرية السوداء”، التي لم تحظَ بعد -في تقديرنا الخاص- بجَرد حساب موضوعي، نُطلّ من خلاله على فرصها الضائعة واحتمالاتها المستقبلية ومكاسبها التي يجرى الآن طمسها أو تكييفها لصالح الحكام الجدد.
من داخل ثنائية الوعد والعقاب، هَيكَلت السّلطة الجديدة كل خططِها وخطاباتها، وباشَرت مشروع “هدم القديم” تحت هتافات الثأر للعدالة من الفاسدين وكل الذين أفلتوا من العقاب. ولكن ما الذي تحقق حتّى الآن؟ وكيف يجري تحقيق العدالة وإنصاف الضحايا؟ من الملاحظ حتّى الآن أن منوال إنفاذ العدالة المُتّبَع يتناسب إلى حدّ كبير مع هدَف إزاحة الخصوم السياسيين للرئيس، والتضييق على الحقوق والحريات باسم “محاسبة الفاسدين”. وتُشكل قضايا التآمر على أمن الدولة، وبخاصة القضية التي باتت تُعرف بقضية القهوة، ملمحًا عن هذا الاتجاه. كما تشهَد البلاد حملة واسعة من الملاحقات القضائية التي تَطَال صحافيين ونقابيين ومُدوّنين مُستقلين. وبالتوازي مع ذلك هناك سياسة إضعاف للمؤسسة المسؤولة في المقام الأول عن إنفاذ العدالة، أي القضاء. في هذا السياق، يجري ترهيب القضاة وعزلهم وتهديدهم برفع الحصانة والنقل تعسّفا. وهذه الاستراتيجية يُراد منها في نهاية المطاف وضع كل المناوئين والمعارضين تحت مطرقة قضاء خاضع لأوامر السلطة التنفيذية.
إن المضمون الجديد الذي يُراد إعطاؤه لفكرة العدالة يتطابق مع شعار تصفوي يُطلق عليه الرئيس: “تطهير البلاد من الخونَة”، وعلى مستوى الممارسة يترافق هذا الشعار مع كل مظاهر الإخلال بمبدأ تحقيق العدالة، من بينها: الاعتقالات التعسفية وعدم احترام إجراءات التقاضي، وفبركة التهم والملفات، انتهاك الحياة الخاصة، وإطلاق حملات الشيطنة والتشويه على وسائل التواصل الاجتماعي. وهنا لا تشكّل العدالة مشروعا للمستقبل يهدف إلى إنفاذ الحقوق ورفع المظالم واحترام الكرامة الإنسانية، وإنما يجري تعويمها داخل مقولة “التطهير” بوصفها أفقا سياسيا لإحلال مشروع الحكم الفردي. وعموما علّمتنا التجربة أن العدالة تأخذ شكلا كاريكاتوريا في أوضاع الاستبداد والقمع.
الماضي التّليد بصدد الانبعاث
على المستوى الخَطابي يَسعى الرئيس قيس سعيّد إلى تقديم سُلطته بوصفها استئنافا للحظة 17 ديسمبر 2010، هذه الزمنيّة “النقية” الذي لم تُلطّخها أوحال الديمقراطية التمثيلية وصراعات النخب وأنشطة المجتمع المدني. وهي على الأرجح مُحاولة لشرعنة تموقع سياسي مَا داخل مسار الثورة، التي لا يُعرَف للرئيس مساهمات صغيرة في التبشير بها أو النضال تحت سقفها، بالإضافة إلى أنها سلاح خطابي من أجل إدانة كل الفترة التي تَلت 14 جانفي 2011، وإعطاء الانقلاب قوّته العدائية وعدم إخراجه في الوقت نفسه من مرجعية الثورة. ولكن على مستوى إدارة الشأن العام، هل تُشكّل الثورة بالفعل إطارا ناظما للفعل الرئاسي؟ وهل تكتسي مُمارسة السّلطة بعدًا تغييريا أم أنها تتحرّك من داخل بِنية النصف قرن (نظامي بورقيبة وبن علي)؟
بغض النظر عن الجدل الذي لا ينتهي حول طبيعة الثورة التونسية ولحظاتها المفصليّة ومساراتها، فإنها شكّلت شرخًا داخل منظومة الدولة الاستبدادية وأطلقت العنان لشرائح اجتماعية واسعة من أجل اختراق الفضاء العام -الذي ظَلَّ مُغلقا لأكثر من خمسة عقود- والتعبير عن مطالبها وانتظاراتها. ورغم أن هذه الحالة الجديدة لم تتجذّر بما فيه الكفاية لتعطي المجال السياسي حصانة داخلية تُنجيه من قُوى العودة إلى الوراء، إلا أنها ما زالت تُشكّل أحد أكبر المعاني المحفزة لكلّ إرادات التحرّر في البلد. ومن داخل هذا المسار التاريخي انبثقت لحظة 25 جويلية 2021 التي رفعت شعار “لا عودة إلى الوراء”، ولكنها في الحقيقة تؤسّس لكل مظاهر العودة إلى “ما بعد الوراء”.
منذ الانقلاب الدستوري استعَادت السلطة الجديدة جزءًا لا بأس به من الملامح السّياسية القديمة: نظام رئاسوي، عداء لكل مظاهر التعددية الحزبية والسياسية، إخضاع للسلطة القضائية، انتهاكات لحرية الرأي والصحافة، شيطنة الخصوم وإزاحتهم، إلخ. ومن الملاحظ أن هذا النزوع نحو إعادة إنتاج الواحدية السياسية تقاطَع مع انتظارات كل القوى القديمة التي شكّلت الثورة بالنسبة إليها لحظة تاريخية قاسية. وبغض النظر عن المواقف السياسية والفكرية لهذه القوى من الرئيس سعيد، فإنه زوّدهم بأمل جديد في استعادة أمجاد النظام القديم، وإحياء روابط التسلّط والنفوذ السابقة. وفي هذا السياق شكّل البرلمان الجديد للكثير منهم فرصة لإعادة التّموقع داخل الحياة السياسية، فهو لا يخلو من مسؤولين محليين سابقين في الحزب الذي حكَم قبل الثورة.
يَجتمع هؤلاء “الحلفاء الموضوعيون” مع الرّئيس سعيّد حول فكرة استرجاع “الدولة الحازمة”، بمَعنى استعادة المكونات الرقابية والعقابية للدولة الاستقلالية، لأن الجَميع يُدرك أن كل المنظومات الاجتماعية لهذه الدولة (الصحة والتعليم والسكن والنقل) أخذت طريقها نحو الانهيار الكلّي، ولا أحد منهم يُفكّر في إعادة هيكلتها ضمن مشروع اجتماعي واقتصادي جديد. وفي هذا الاتجاه نفسه، يَسعى الرئيس سعيّد إلى ملاطفة رموز الماضي التليد، وفي مقدمتهم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. ولا يُخفي سعيّد شغفه بسيرة أول رئيس لتونس المستقلة، ويحاول توظيفه في كل مرة لتبرير بعض أفكاره السياسية. فعندمَا دافع عن تأسيس تركيبة وزارية خاضعة لرئيس الدولة، استشهد بنمط الحكم البورقيبي الرئاسوي. وعندما استشاط غضبًا من نسب المشاركة الهزيلة في الانتخابات التشريعية الأخيرة مقابل ارتفاع نسبة المقاطعة الانتخابية، أشار إلى أنه بالإمكان قراءة النتائج بطريقة معكُوسَة من خلال اعتبار نسبة العزوف تصويتا آخر ضدّ برلمَانات ما بعد الثورة. والمُلفت للانتباه أن الرئيس سعيّد برّر هذه القراءة المعكوسة من خلال استحضار واقعة تعود إلى أكتوبر 1971، عندما قام الرئيس بورقيبة بقلب نتائج المؤتمر الثامن للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم لأنه لم يكن راضيا عن صعود ما يعرف بالجناح “الديمقراطي” داخل الحزب بزعامة أحمد المستيري. وهي في الحقيقة عملية تزوير انتخابي دافع عنها بورقيبة بوضوح من أجل إضعاف فكرة جاهزية البلاد للممارسة الديمقراطية، حتى وإن كانت ديمقراطية داخل الحزب الحاكم. ولعل المشترك بين الرئيسين أنّ كلاهما يبرّر لوضع غير ديمقراطي من خلال ليّ ذراع المعطيات والوقائع والنتائج، وفرض الاتجاه الواحد بالغلبة والإكراه.
نشر هذا المقال في العدد 26 من مجلة المفكرة القانونية-تونس.
لقراءة العدد كاملا اضغط هنا