سكّان الجبال عُزّل أمام العاصفة و”الحرامات” غطاء أهل الساحل


2022-03-15    |   

سكّان الجبال عُزّل أمام العاصفة و”الحرامات” غطاء أهل الساحل
المصدر: زياد علوه فيسبوك منطقة الهرمل

حلّت العاصفة الثلجية التي تضرب البلاد منذ نهار الخميس الفائت، عبئاً ثقيلاً على كاهل اللبنانيين العاجزين عن تأمين وسائل للتدفئة، لتأتي العاصفة وتنخر بصقيعها عظام الصغار والكبار من المناطق الجبلية وصولاً إلى الساحل ولسان حال الجميع، “ما عنا غير الحرامات ندفّي ولادنا”.

فمعظم العائلات في المناطق الجبلية كانت لجأت منذ بداية فصل الشتاء، إلى شراء الحطب أو جمعه لوفرته أو لاعتدال أسعاره، مقارنة بمادة المازوت المرتفعة الثمن، إلّا أنّ مخزون الكثير من الأسر من الحطب نفذ قبل العاصفة ولم يعد بمقدورهم تأمين غيره. وفي ظلّ انقطاع التيار الكهربائي وتقنين المولّدات وارتفاع أسعار اشتراكاتها إلى حد يعجز معظم الناس عن تأمينها إضافة إلى غلاء سعر المازوت والغاز، تقف العديد من الأسر في المناطق كافة وحيدة في مواجهة البرد والثلج والعتمة.

وفيما يشتكي المواطنون من الضائقة الاقتصادية التي حالت دون تأمينهم لوسائل التدفئة، ترتفع صرخات المواطنين العالقين في وديان الهرمل وجرودها، العاجزين حتى عن استعمال الهاتف الخلوي بعد انقطاع الاتصالات نتيجة نفاذ مادة المازوت عن محطة الإرسال التابعة لشركة تاتش في الهرمل، ليصبحوا بذلك معزولين عن جوارهم.

المفكرة القانونية” تسلط الضوء على معاناة المواطنين في المناطق الجبلية والنائية خلال العاصفة، من عكار إلى الهرمل فشبعا في الجنوب.

عكار: لا غاز ولا حطب ولا مازوت

“أولادي رح يموتوا من البرد، ما عنّا لا مازوت ولا كهرباء ولا حطب، حتى ثياب ثقيلة ما عندهم”، هذا ما تقوله رقية من بلدة البزال العكارية، هي التي هجرت منزلها خلال الشتاء وانتقلت للعيش مع أقاربها حيث تشاركوا على شراء حفنة من الحطب، “قلنا منقعد مع بعض هيك منولّع صوبيا وحدة ومنوفّر حطب”، ومع نفاذ المخزون عادت رقية إلى منزلها البارد والرّطب، وجاءت العاصفة لتزيد الطين بلّة. تقول رقيّة، وهي أم لولدين لم يتجاوزا الخامسة من عمرهما، إنها ترسل أبناءها خلال النهار إلى منازل الجيران الذين يشعلون المدافئ، ويذهب زوجها خلال ساعات الصحو للبحث عن بعض أعواد الخشب والحطب، حيث يقومون بإشعالها مع حلول المساء في حاويةٍ صغيرةٍ تعينهم على تحمل البرد. ومع حلول الليل الطويل والبارد تحتار رقية بكيفية تأمين الدفء لأطفالها، وتقول إنها في الليلة الفائتة لم يغمض لها جفن لأنّها فضّلت الاستغناء عن أغطيتها لصالح أولادها، “الليلة الماضية نمت ونصفي مكشّف لأن ما في كثير حرامات فعطيت حراماتي لأولادي”. وينتاب رقية القلق من المستقبل، فأولادها يكبرون وسيحتاجون إلى ملابس جديدة ليس بمقدورهم شراءها، “هيديك السنة جبنا للكبير جاكيت سميكة، السنة صغرت عليه وما قدرنا جبنا غيرها، لو بعدها بتطلع قدّو ما كان برد هالقد”.

أما جاكلين، من منطقة القبيات في عكار، فتتمنى انقضاء العاصفة سريعاً، لعجزها عن توفير التدفئة في منزلها، جاكلين التي لا يتجاوز دخل عائلتها مليوناً وخمسمئة ألف ليرة لبنانية، يتوجّب عليها دفع 700 ألف ليرة كإيجار منزل، بالإضافة إلى اشتراك المولّد الكهربائي الذي يقنّن معظم اليوم، لم تتمكّن هذا الشتاء من شراء الحطب لارتفاع سعره، حيث تراوح سعر الطن أربعة ملايين ليرة لبنانية، كذلك مادة المازوت حيث تجاوز سعر الصفيحة 550 ألف ليرة. لذا اكتفت جاكلين طيلة الشتاء باستعمال مدفئة الغاز، وقبل العاصفة عجزت عن توفير ثمن إعادة تعبئة القارورة الذي تجاوز سعرها 340 ألف ليرة، “صرنا من أوّل العاصفة عم نتدبّح لنأمّن قنينة الغاز ومش قادرين نحصل عليها”.

يروي الدكتور أنطوان ضاهر من منطقة القبيات في عكار لـ”المفكرة القانونية”، أنّ العاصفة الثلجية زادت من معاناة السكان بشكلٍ عام والعائلات الفقيرة بشكلٍ خاص، وأشار إلى قيام بعض العائلات التي نفذ مخزونها من الحطب اليابس، بقطع الأشجار الخضراء والتي يضرّ إشعالها بالصحّة، مذكراً بـ “المجزرة البئية” التي ارتكبها تجّار الحطب هذا العام، والذين قاموا بتقطيع اشجار الأحراش بطريقةٍ عشوائية وغير مدروسة، ومنها أحراش عكار العتيقة وغابات الفنيدق وغابات أكروم.

من جهةٍ ثانية بات العدد الأكبر من أصحاب المولدات الكهربائية في المنطقة عاجزين عن تشغيل مولداتهم نظراً لغلاء مادة المازوت وعدم توافرها. ولكن ضاهر يلفت إلى حالة من التعاون برزت في البلدة حيث قامت بعض العائلات باستلام تشغيل المولّدات الكهربائية ودفع النفقات عن بعض الأحياء.

المحتجزون في وديان الهرمل: خوف من العزلة التامّة

وفي جرود الهرمل تبدو الحالة أشدّ وأقسى، فلا طرقات سالكة ولا شبكة اتصالات، ويشرح المدرّس زياد علوه الذي كان محتجزاً بفعل العاصفة في أحد أودية الهرمل، أنّ إدارة مدرسته التي أقفلت أبوابها خلال العاصفة، لم تتمكن من إعلامه بقرار الإقفال لانقطاع سبل الاتصال به. فغامر واستقلّ آلية الفلاحة للوصول إلى الهرمل للالتحاق بالمدرسة، ليفاجأ بها مقفلة، مفسّراً أنّ محطة تشغيل الاتصالات الخلوية في المنطقة مقطوعة من مادة المازوت منذ الأربعاء الفائت، وأنّ الشركة غالباً ما تبديّ المناطق ذات الكثافة السكانية عن المناطق الأقل كثافة، “نحن مقطوعين عن العالم صرلنا كذا يوم، والشركة بدل ما تسعى لتأمّن مازوت لدرء الخطر عنّا، بتبدّي علينا المناطق لي فيها كثافة سكانية أكثر”. ويضيف أنّ أكثر العائلات معاناةً هم مربّو المواشي فهؤلاء لا يمكنهم ترك مورد رزقهم والنزول إلى الهرمل، وانقطاع سبل الاتصال بهم يعرّضهم وعائلاتهم للخطر، “يعني إذا حدا صرلوا شي أو شي ولد مرض ما حدا بيقدر يعرف”.

مصطفى علوه المحاصر حالياً في منطقة وادي التركمان، استطاع أن يلتقط إشارة إرسال من على سطح منزله في وادي التركمان، حيث تمكنّا من التواصل معه عبر خط متقطّع. يشرح علوه الذي يعتاش من تربية الماشية أنه محجوز في منزله مع أطفاله منذ خمسة ايام، وقد نفذ مخزون العلف للماشية، هو اليوم يستعين بأغصان أشجار السنديان الخضراء التي يقتطعها لتأمين الطعام للمواشي، والتدفئة لمنزله بعد نفاذ مخزون الحطب، “كل الأشجار لحد البيت صرت مقطّعها”، مفسراً أنّ تكلفة سعر “نقلة” الحطب التي تستهلكها العائلة خلال شهرٍ واحدٍ تجاوزت عشرة ملايين ليرة. “من وين بدنا نجيب مصاري لنخزّن كمية كبيرة”، ويعاني علوه والقاطنون في الجرود من تجمّد المياه في الأنابيب ما يجعله يعود للاستعانة ببئر حفرها أجداده في المنطقة لنقل المياه إلى منزله.

شبعا: الثلج ثقيل على العائلات الفقيرة

ومن الهرمل إلى منطقة شبعا الجنوبية، حال المواطنين واحد، والحرمان يطال الجميع. في أحد المنازل الجبلية تقطن ردينة وأولادها الأربعة مع عمّها المريض (85 عاماً)، حيث الريح تعصف في المنزل غير مكتمل البناء، والمطبخ الصغير هو المكان الذي يلتمسون فيه الدفء. وبعد نفاذ مخزون الحطب قبل حوالي الشهر لم يبق لأفراد العائلة سوى الأغطية أداة للتدفئة، “منضلّ كل النهار قاعدين مغطايين”، ومع حلول العاصفة تبرّعت إحدى العائلات الميسورة لهم بغالون مازوت، “لولا غالون المازوت هيدا كنّا جلّدنا من البرد”.

وإذا كانت ردينة قد تدبرت أمر التدفئة فهي بانتظار تجميع ثمن قارورة غاز لكي تتمكّن من طبخ الطعام لعائلتها والذي يقتصر أصلاً على العدس والبرغل. فالأسرة تقتات اليوم من العجين الذي تخبزه على الصوبيا ويأكلونه لفافات فارغة، “اللحمة صرلنا أشهر مش ذايقينها”، وتؤمّن البلدية كهرباء من المولد التابع لها من الساعة السادسة مساء لغاية الساعة العاشرة ليلاً، بعدها يذهب الجميع للنوم حيث تستعين على البرد بالأغطية والملابس الثقيلة.

اليوم ينتظر الجميع حلول الربيع وعودة الدفء وحدها الطبيعة “الأم” من يملك مفتاح الخلاص.

الساحل ليس أفضل حالاً

أم خالد السبعينية التي تعيش في حي التنك في الميناء، نفذت كل الخردة التي لديها والتي أوقدتها لتتدفّأ بها. ومع انطفاء النار في بيتها المؤلّف من غرفة واحدة والذي يعلوه سقف من الإترنيت، لم يتحمّل جسدها الهزيل الهواء الذي كان يعصف في داخله فأصيبت بوعكة صحّية. وبعد اتصالها بأختها، حضرت الأخيرة ونقلتها إلى منزلها في أبي سمرا. المفارقة أنّ الأخت لا تملك وسيلة للتدفئة هي الأخرى غير الحرامات ولكن الفرق أنّ بيتها له سقف من الباطون يحميها من الرياح.

تقول شقيقة أم خالد إنّها لا تستطيع شراء قارورة الغاز لارتفاع سعرها لكي تشعل مدفئة الغاز كما أنّها تشترك بمولّد الكهرباء بأمبير ونصف لا يتيح لها سوى إضاءة لمبتين. لذلك لم يكن لديها سوى الحرامات للتدفئة.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، لبنان ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني