أصدر سعيّد، مساء الخميس 15 سبتمبر 2022، المرسوم المنقّح للقانون الانتخابي، الذي ستجرى وفقه الانتخابات التشريعيّة في 17 ديسمبر المقبل. كالعادة، لم يلبّ الرئيس طلبات “التشريك” و”الحوار المدمج”، واكتفى بطلب مقترحات بعض الأحزاب التي “انخرطت في التأسيس الجديد”. بل لم ينتظر أصلاً رأي هيئة الانتخابات، التي تحصّلت على المشروع في اليوم ذاته، فلم يتسنّ لمجلسها دراسته والتعليق عليه. حمل المرسوم، من دون مفاجأة، خيارات سعيّد التي نجدها في مشروع البناء القاعدي، ومن بينها نظام الاقتراع على الأفراد على دورتين، واشتراط تزكيات للترشح، كما نظّم آلية سحب الوكالة من النوّاب. لكنّ التنازل الأبرز بالمقارنة مع مشروعه، كان في مجال تقسيم الدوائر الانتخابيّة، حيث وقع الانطلاق من المعتمديات، مع دمج الأقلّ سكانا منها بعضها البعض، وتقسيم الكبريات منها إلى دائرتيْن. تنازلٌ لا يقلّل من مخاطر خيارات نظام الاقتراع الجديد، ومنها الأسبقيّة التي يمنحها لأصحاب الأموال المنتصبين لحسابهم الخاصّ، والتي سيعمّقها حذف التمويل العمومي للانتخابات الذي كان يضمن في السابق حدّا أدنى من العدالة بين المترشّحين.
تقسيم الدوائر: التوفيق المستحيل بين المتناقضات
بما أنّ اعتماد نظام الاقتراع على الأفراد كان محسوما منذ الاستشارةالتينظّمهاالرئيس، انتظر الجميع التقسيم الجديد للدوائر، كأبرز رهانات القانون الانتخابي. فعلى عكس النظام النسبي المعتمد منذ 2011، والذي يسمح باعتماد الولايات كدوائر انتخابيّة مع إسناد عدد من المقاعد لكلّ منها حسب معيار ديمغرافيّ، يفرض الاقتراع على الأفراد اعتماد تقسيم جديد، بدوائر ترابيّة أصغر بما أنّها ذات مقعد وحيد.
كان سعيّد يدافع في الأشهر الأولى بعد الثورة على خيار المعتمديّة، وهي الدرجة الترابيّة التي تأتي مباشرة تحت الولاية، كدائرة انتخابيّة. تطوّرت الفكرة بعد ذلك في مشروع البناء القاعدي، إلى نظام انتخابي بدرجتين، حيث تجري الترشحات والانتخابات على مستوى العمادة، وهي أصغر الدوائر الترابيّة، في حين يكون التمثيل النيابي على مستوى المعتمديّة، عبر أحد أعضاء المجلس المحلّي الذي يشكّله نواب العمادات[1]. لكنّ التراجع عن خيار الانتخاب غير المباشر لأعضاء مجلس نواب الشعب، بالتوازي مع إقرار غرفة برلمانيّة ثانية تخضع لمنطق التصعيد، أعاد الحديث عن المعتمديّة كدائرة انتخابيّة. لكنّ هذا الخيار يصطدم بعقبة أساسيّة، وهو اختلال التوازن الديمغرافي الفادح بين المعتمديات، حيث يتراوح عدد سكانها بين 4 آلاف و150 ألفا. يؤدي ذلك إلى خرق مبدأ المساواة أمام الاقتراع، على قاعدة صوت لكلّ مواطن. كانت إجابة سعيّد في 2011، التي تحوّلت إلى مكوّن أساسي في فلسفة البناء القاعدي، هي أنّ اعتماد القاعدة الديمغرافيّة منافٍ لأهداف الثورة، إذ يخدم الجهات الساحلية، ويفاقم ظلم الجهات الداخلية التي انطلقت منها الثورة. لكنّ هذه النظرة لم تصمد أمام إكراهات الواقع.
لم يكتفِ الرئيس، في مرسوم 15 سبتمبر 2022، بالتخلي عن العمادات بما تمثّله من “قُرب”، لصالح مشروعه الأصلي في 2011 وهو المعتمديات، وإنما تأثّر بالمنطق الذي كان يرفضه في السابق، عبر البحث عن التوازن الديمغرافي بينها. فمع انطلاقه من المعتمديات كقاعدة لتقسيم الدوائر، ذهب الرئيس في خيار دمج المعتمديات المتجاورة ترابيّا والصغرى ديمغرافيّا، و بالمقابل، تقسيم كبرياتها إلى دائرتين. انعكس ذلك في تقسيم التراب الوطني إلى 151 دائرة، تقابل 277 معتمديّة، إضافة إلى 10 مقاعد تمثّل التونسيين بالخارج. فكان معدّل عدد السكان لكلّ مقعد، داخل التراب الوطني، 78 ألفا. لكنّ هذا المعدّل يخفي تفاوتا كبيرا في وزن الدوائر، الذي يتراوح بين 14 ألفا في دائرة ذهيبة-رمادة، و131 ألفا في دائرة صفاقس الجنوبية[2]. أي أنّ قيمة الصوت في ذهيبة- رمادة، تساوي نظريا أكثر من 9 مرات قيمة الصوت في صفاقس الجنوبية. لا يتعلّق الأمر باستثناءات نادرة، فحين نقارن بين الدوائر داخل كلّ ولاية، نجد أنّ الصوت في قرقنة يساوي 7 مرات قيمة الصوت في صفاقس الغربيّة وفي ساقية الدائر. كما نجد في ولايات عديدة، دائرة انتخابية تزن 4 أضعاف دائرة أخرى، كالفرق بين دائرتي “سيدي حسين” و”المدينة- باب سويقة” في العاصمة، أو بين دائرتي “بني خداش” و”جربة ميدون-جربة أجيم” في ولاية مدنين، أو بين “فوار-رجيم معتوق” و”قبلي-سوق الأحد”، الخ. هذا من دون أن نأتي على الأمثلة الكثيرة التي تزن فيها دائرة ضعف دائرة مجاورة لها. بصفة عامّة، نستنتج من الدراسة الاحصائيّة لأوزان الدوائر الانتخابيّة انحرافا معياريّا (écart-type) يقارب 22 ألف ساكن، مما يعني أنّ معامل الاختلاف (coefficient de variance) يفوق 28%. عمليا، إذا اعتبرنا أنّ فارق 20% عن المعدّل هو هامش أقصى يضمن حدّا أدنى من المساواة، فإنّ تقسيم سعيّد تجاوزه في 64 دائرة من 151.
أمّا إذا بحثنا عن التوازن بين الولايات، فسنجد أنّ عدد السكان لكلّ مقعد يتراوح في معظم الولايات، بين 74 و88 ألفا، مع أربعة استثناءات، وهي زغوان وقبلي وتطاوين وتوزر، التي تتراوح معدّلاتها بين مقعد لكلّ 63 ألف ساكن، ومقعد لكلّ 38 ألف ساكن. هذه الاستثناءات هي نتيجة لإكراه آخر خضع له التقسيم على ما يبدو، وهو الشرط الضمني الذي يفرض أن لا يقلّ عدد المقاعد في كلّ ولاية عن ثلاثة، وذلك تحسّبا لأيّ احتجاجات فيها. حيث كان من الأفضل، لحفظ التوازن الديمغرافي، تقسيم كل واحدة من هذه الولايات الأربع إلى دائرتين فقط، لولا الحسابات السياسيّة وربّما الأمنيّة. حسابات قد تكون أثّرت أيضا في تقسيم بعض الدوائر، كمعتمديّة بني خداش من ولاية مدنين، التي نالت مقعدا لها وحدها بعدد سكان لا يتجاوز 25 ألفًا، ربّما تحسّبا لتكرار المعارك الأهلية الدامية التي خاضها أهاليها منذ سنتين ضدّ عشيرة المرازيق على خلفية نزاع عقاري.
في المحصّلة، حاول سعيّد إيجاد نوع من التوازن الديمغرافي بين الدوائر، فضحّى بأفكار أساسيّة في مشروعه، ومنها “قرب” الناخب من المنتخب، الذي تسمح به الانتخابات في أضيق الدوائر، وكذلك إعادة الاعتبار للجهات الداخلية باستعمال المعيار الجغرا-إداري (المعتمديات) بديلا عن المعيار الديمغرافي. لكنّ هذه التنازلات لم تكن كافية لتحقيق حدّ أدنى من المساواة بين الناخبين، كما تبيّنه الأمثلة التي سقناها أعلاه. فلو كانت هناك رقابة ممكنة على دستوريّة مراسيم سعيّد، لسقط هذا التقسيم في اختبار الدستوريّة لخرقه مبدأ المساواة في دستور سعيّد نفسه. في فرنسا، ذكّر المجلس الدستوري في أكثر من قرار بضرورة احترام تقسيم الدوائر لمبدأ المساواة أمام الاقتراع. هذا المبدأ يقتضي أن يكون تقسيم الدوائر الانتخابيّة على “قاعدة ديمغرافيّة بالأساس”[3]. فحتّى هامش 20% من المعدّل داخل الإقليم، المسموح به في القانون، يجب أن يقتصر اللجوء إليه على حالات استثنائيّة ومبرّرة بمقتضيات واضحة للمصلحة العامّة[4]. فكيف إذا كان الفرق بالأضعاف في عدد هامّ من الدوائر؟
الاقتراع على الأفراد: الأولوية للرجال من أصحاب الوجاهة والثراء
لا تقتصر خطورة نظام الاقتراع المعتمد في اللامساواة الناتجة عن تقسيم الدوائر[5]. فالحجّة التي يردّدها سعيّد منذ 2011، وهي أنّ الاقتراع على الأفراد معمول به في الديمقراطيات، تحتاج أن نتوقّف عندها. فخلافا لما قد يوحي به مثال الديمقراطيات الثلاث العريقة التي تعتمد الاقتراع على الأفراد، أي بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، غالبية الديمقراطيات اليوم تعتمد التمثيل النسبي أو المختلط[6]، لأنّهما يترجمان بطريقة أفضل بكثير أصوات الناخبين عند توزيع المقاعد النيابيّة. فمن بين 21 ديمقراطية كاملة وفق مؤشر “ذي أكونوميست”، 4 فقط تعتمد الاقتراع على الأفراد. نجد النسبة ذاتها تقريبا (⅕) إذا ما وسّعنا البحث إلى “الديمقراطيات المعيبة”. تقريبا كلّ هذه الدول تعتمد الاقتراع على الأفراد في دورة واحدة أسوة بالنموذج البريطاني، وهو ما يمكن أن يفسّر بأنها كانت مستعمرات للمملكة العظمى وتنتمي إلى الكومنولث، بالإضافة إلى وجود ثنائيّة حزبيّة فيها تقلّص كثيرًا من سلبيات هذا النظام. أمّا الاقتراع على الأفراد في دورتين، فيكاد يكون استثناء فرنسيا[7]، لأن معظم الدول التي اعتمدته في القرن 19 تخلّت عنه تدريجيّا لصالح الأنظمة النسبيّة أو المختلطة[8]. حتى فرنسا نفسها تتوجه إلى التخلي عنه، بعد إجماع أبرز القوى السياسيّة فيها على عدم صلوحيّته.
لكنّ سلبيّات الاقتراع على الأفراد تتفاقم في المجتمعات التي ليست لها تقاليد انتخابيّة وسياسيّة ومنظومات حزبيّة قويّة. فإذا كان التنافس السياسي في الديمقراطيات يجري بين الأحزاب، فإنّ الاقتراع على الأفراد في السياق التونسي من شأنه تشجيع المستقلّين المنتصبين لحسابهم الخاصّ، وخصوصا أصحاب الأموال منهم. ليس هذا القول من قبيل التنجيم، إذ يكفي العودة إلى تجارب شبيهة نسبيّا، كمصر والأردن، كي نفهم أنّ المستفيد الأكبر من الاقتراع على الأفراد، هو البارونات المحلّية والأثرياء. فقد كان نموذج النائب في مصر قبل الثورة، هو صاحب الأعمال المنتصب في منطقة معيّنة، أو الإقطاعي مالك الأراضي، الذي يغدق الأموال والخدمات والاستثمارات في أماكن العبادة والمدارس قبل الانتخابات كي يضمن مقعده[9]. بعد انقلاب السيسي، أعاد القانون الانتخابي إنتاج الظاهرة ذاتها، عبر تخصيص ثلثي مقاعد البرلمان للترشحات الفرديّة[10]. كان هدف السيسي، الذي لم يبعث حزبا سياسيّا مركزيّا كسابقيه، هو إنتاج برلمان ضعيف، غير مسيّس، يكتفي أعضاؤه بالبحث عن مصالح فرديّة لهم عبر الانخراط مع سلطة الجيش في علاقات زبائنيّة.
كما يطرح الاقتراع على الأفراد خطر إذكاء النعرات القبائليّة، خصوصا في فرضيّة دور ثان يجمع مرشّحين من عشيرتين متصارعتين. في الأردن، حيث حصلت تغييرات متكررة في نظام الاقتراع، أدّى حصر حقّ الناخب في التصويت لمرشّح واحد إلى “تعزيز العصبيّة القبليّة وتحوّل المنافسة في الانتخابات من منافسة سياسيّة إلى منافسة عشائرية أو مناطقيّة”، وهو ما أدّى في كثير من الأحيان إلى أحداث عنف سواء في الحملة الانتخابيّة أو عند إعلان النتائج، وصلت إلى حدّ إطلاق النار[11]. أمام هذه المخاوف، وجد عقل سعيّد القانوني الحلّ، في إضافة عبارة “على أسس دينية أو فئوية أو عائليّة أو جهوية”، إلى الفصول التي تمنع “الدعوة إلى الكراهية والعنف والتعصب والتمييز”. كالعادّة، يتوهّم سعيّد حلّ جميع المشاكل، مهما كانت جذورها عميقة، بجرّة قلم في مرسوم.
فالافتراض الذي يستند إليه المدافعون على الاقتراع على الأفراد في دوائر صغرى، بأنّ المعرفة الشخصيّة بالمرشحين تؤدّي إلى انتخاب الأكثر كفاءة ونزاهة، يعكس محدوديّة إلمامهم بالمعطى السوسيولوجي وبالتجارب المقارنة. فالروابط الأولية، أي العائلة والعشيرة، والمصالح المادّية الآنيّة المبنية على العلاقات الزبائنية، يكون دورها محدّدا كلما ضاقت الدائرة الجغرافيّة وكلّما ضعُف البُعد السياسي للعمليّة. لا يتعلّق الأمر بالضرورة بشراء أصوات، بالمعنى الضيّق للكلمة، وإنما بقدرة المال والنفوذ الشخصي على شراء الولاء وزيادة الحظوظ الانتخابية، سواء عبر تقديم الخدمات أو التدخّل لدى الإدارات أو إغداق المساعدات أو حتى الاستثمار في البنية التحتية والمرافق العامّة. فالمال الانتخابي بمعناه الواسع يصبح أكثر نجاعة عندما يتركّز في منطقة جغرافيّة ضيّقة، وحين تكون المنافسة الانتخابيّة ذات طابع محلّي، وهو ما تؤكدّه العديد من الدراسات الامبريقيّة[12].
لكنّ تغاضي سعيّد التامّ عن هذا الخطر، جعله يفاقم في مرسومه الأسبقيّة التي يمنحها الاقتراع على الأفراد لأصحاب الأموال. فقد حذف المرسوم التمويل العمومي للحملات الانتخابية، الذي كان في الانتخابات السابقة يأخذ شكل استرجاع مصاريف، في حدود سقف معيّن، لصالح القائمات التي تجاوزت نتائجها العتبة المحدّدة بـ3%. فالتمويل العمومي كان يسمح بحدّ أدنى من العدالة بين المترشحين، إذ يمكّن الأحزاب والقائمات الفقيرة من منافسة أصحاب الأموال الطائلة. أمّا حصر موارد الحملة في التمويل الذاتي والتمويل الخاصّ، فهو هديّة للمترشحين الأثرياء لكي يفرضوا سيطرتهم على المشهد. يبدو هنا سعيّد متأثرا بنموذج انتخابه لرئاسة الجمهورية، حين رفض التمتّع بالتمويل العمومي، وقدّم ذلك على أنّه دليل نزاهة، في حين أنّه، نظريا، عكس ذلك تماما. أمّا منع النواب بنصّ الدستور من ممارسة أيّ نشاط آخر، فلن يقصي، على عكس ما يدّعي أنصار الرئيس، أصحاب الثروات من الطموح للترشح، فهم الأقدر على تفويض نشاطاتهم لأقاربهم.
كما يدفع شرط التزكيات في الاتجاه ذاته. فاشتراط 400 تزكية لقبول الترشح يتجاوز هدف ترشيد الترشحات، ليصبح عائقا أمام كلّ مرشّح ليست له وجاهة عائليّة كبيرة ولا أموال لشراء الإمضاءات. أمّا اشتراط التناصف بين النساء والرجال في التزكيات، ونسبة 25% من الشباب، المأخوذة من مشروع البناء القاعدي، فهي تكشف جهلا تامّا بالمغزى من هذه الآليات. فإذا كان التناصف والحصّة (الكوتا) يهدفان إلى تشجيع أو ضمان تمثيلية فئات معيّنة في المجالس المنتخبة، سواء عبر القواعد المنظمة للترشح (التناصف) أو في توزيع المقاعد (الحصّة)، فإنّ اعتمادها في التزكيات لا يخدم بالمرّة هذا الهدف. إذ يمكن أن يكون جميع المرشحين رجالا ومتقدّمين في السنّ، دون أن يمنعهم ذلك من الحصول على تزكيات من نساء وشباب. فاشتراط تزكية النساء والشباب لا يضمن لهذه الفئات، بغضّ النظر عن جدوى تخصيصها، أيّ تمثيلية. ولكنّه يعقّد العمليّة الانتخابيّة بشكل كبير، ويعسّر مهمّة الهيئة المشرفة عليها، التي سيكون عليها التثبّت من مئات (وربما آلاف) قائمات التزكيات. هنا أيضا، يبدو نظام الاقتراع متعارضا مع واجب السعي إلى تحقيق التناصف بين النساء والرجال في المجالس المنتخبة، الذي وضعه سعيّد في دستوره أسوة بدستور 2014. وبما أنّ سعيّد لم يضع دستورًا ليحترمهُ، فقد أضاف في مرسومه الانتخابي شرطا لادستوريّا آخر، يقصي حاملي الجنسيّة المزدوجة من الحقّ في الترشح إلى الانتخابات التشريعيّة، باستثناء دوائر الخارج.
سحب الوكالة: خطرٌ تلاشى ليبقى خطرٌ أكبر
لم يكتفِ سعيّد في مرسومه الانتخابي بنظام الاقتراع، وإنّما نظّم كذلك آلية سحب الوكالة التي يقوم عليها مشروع البناء القاعدي وينصّ عليها دستوره. تفاعل الرئيس مع الانتقادات التي وُجِّهت لهذه الآلية، من جهة عدم الاستقرار الذي قد تولّده، إذ تحوّل المدّة النيابيّة إلى فترة انتخابيّة متواصلة، بكلّ ما ينجرّ عن ذلك من استقطاب وحدّية. وضع المرسوم حدودًا معقولة لاستعمال هذه الآليّة، حيث منع تقديمها خلال السنة الأولى والأشهر الستة الأخيرة من المدّة النيابيّة، كما حصرَ إمكانيّة استعمالها ضدّ نائب معيّن، بمرّة واحدة طيلة المدّة النيابيّة. واشترط المرسوم تقديم عريضة معلّلة وممضاة بطريقة معرّف بها، من قبل عُشر الناخبين على الأقلّ، وإذا قبلت هيئة الانتخابات العريضة واستيفاء طرق الطعن، يُجرى تصويت عليها، بالموافقة أو الرفض، في أجل 60 يوما. لا شكّ أنّ هذه الشروط تقلّص من خطر عدم الاستقرار الذي تخلقه آلية سحب الوكالة، لكنّها لا تعالج الخطر الأكبر الذي تمثّله، وهو تحوّلها إلى سيف دمقليص على رقاب النواب المعارضين للرئيس. فالطرف الأقدر على تحريك أنصاره لسحب الوكالة من نائب معيّن، هو الرئيس بما يمتلكه من شعبيّة ونفوذ. إذ لا يمكن مناقشة آلية سحب الوكالة من دون النظر في آثارها على التوازن بين السلطات، خصوصا في نظامدستوريكرّسبالنصّ قبلالممارسة، هيمنةالسلطةالتنفيذيّة وإضعاف كلّ السلط المضادّة، وعلى رأسها البرلمان والقضاء. فما يسعى الرئيس لإظهاره كضمانة ديمقراطيّة لصالح الشعب، يمكن أن يتحوّل بسهولة إلى وسيلة بين يدي السلطة التنفيذيّة لإحكام استبدادها.
خلاصة:
رغم بعض التنازلات في تقسيم الدوائر أو تنظيم سحب الوكالة، جاء مرسوم سعيّد، الذي صيغ “في الغرف المظلمة” و”على مقاس” صاحبه، شأنه في ذلك شأن الدستور، كخطوة جديدة في مسار تنزيل مشروعه. مشروع يحملُ شعار الديمقراطيّة القاعديّة، في حين أنّ مضمونه حكم فرديّ بكلّ ما للكلمة من معنى. فإضعاف الأحزاب لن يحرّر الطاقات الديمقراطيّة للشعب، بل الأيادي الاستبداديّة للرئيس. ولن يطهّر الديمقراطيّة من فساد الأحزاب، وإنما سيكون على الأرجح، أكبر هديّة للفاسدين وأصحاب الأموال والعلاقات الزبائنيّة. كما لن يؤدّي إلى إعادة تسييس الديمقراطيّة التي أفرغها النقاش القانوني من روحها، بل على العكس، هو إلغاء للديمقراطية والسياسة على حدّ سواء. ليس مفاجئا إذًا أن تقاطع جلّ القوى السياسيّة الوازنة الاستحقاق الانتخابي الذي رسمه الرئيس على مقاسه. فالنتيجة، ستكون برلمانا يتكوّن من بعض الأحزاب الموالية، وعدد كبير من المنتصبين لحسابهم الخاصّ، الباحثين عن امتيازات شخصيّة. ربّما ندرك حينها، أنّ أسوأ البرلمانات المتكوّنة من قوى سياسيّة أفرزتها انتخابات ديمقراطيّة، يبقى أفضل بسنوات ضوئيّة، من مجالس الأعيان والأثرياء اللا-مسيّسين، وأنّ التوازن بين أسوأ السلط، يبقى أفضل من استبداد سلطة واحدة مهما بدت لنا “نزيهة”.
[1] لمزيد من التفاصيل حول مشروع البناء القاعدي، أنظر الورقة البحثية التي أصدرتها المفكرة القانونية في جويلية 2022، “الرئيس يريد”، تناقضات نظام البناء القاعدي ومخاطره، متوفّرة عبر هذاالرابط.
[2] المعهد الوطني للإحصاء، التقديرات السكانية حسب المعتمديات والبلديات، جانفي 2022.
[3] Catherine Castor, “L’égalité devant le suffrage”, Revue française de droit constitutionnel 2012/2 (n° 90), pp 1-34.
[4] Conseil constitutionnel, Décision 86-208 DC – 02 juillet 1986 – Loi relative à l’élection des députés et autorisant le Gouvernement à délimiter par ordonnance les circonscriptions électorales.
[5] أنظر الباب الثاني من الورقة البحثية، “الرئيس يريد”…، سبق ذكرها.
[6] الأنظمة المختلطة هي التي تمزج الاقتراع الأغلبي بالاقتراع النسبي، إمّا في مستويين مختلفين للاقتراع لكلّ منهما عدد مقاعد محدّد لا يرتبط بنتائج المستوى الآخر، كما في اليابان، أو لاعتماد نتائج الاقتراع النسبي كطريقة لاصلاح خلل نتائج الاقتراع على الأفراد كما في ألمانيا، حيث يكون التوزيع النهائي للمقاعد مطابقا لنتائج الاقتراع النسبي. هنالك أيضا نظام الصوت الواحد القابل للتحويل، الذي يشكل يهدف إلى تمثيل نسبي لكنه ليس قائما على القائمات، ولكنّه يصنّف عادة ضمن عائلة الأنظمة النسبيّة.
[7] بقيّة الدول التي تعتمد الاقتراع على الأفراد على دورتين في انتخابات تشريعيّة هي أنظمة اوتوقراطية، كالبحرين وكوبا والكونغو، باستثناء تشيكيا التي تعتمده فقط لانتخاب مجلس الشيوخ (الغرفة العليا من البرلمان)، وتعتمد النظام النسبي في انتخابات مجلس النواب.
[8] موريس ديفرجيه، الأحزاب السياسية، ترجمة علي مقلد وعبد المحسن سعد، الهيئة العامّة لقصور الثقافة، القاهرة، 2011، ص. 249.
[9] Tewfic Albert Aclimandos, “Comment les législatives se négocient : quelques réflexions sur les élections égyptiennes”, in Confluences méditerranéennes, 2012/3, N°82, p. 73.
[10] Sahar F. Aziz, “Military Electoral Authoritarianism in Egypt”, Election law Journal, Volume 16, Number 2, 2017, p. 293.
[11] محمد الحسيني، الأثر الاجتماعي للنظام الانتخابي الأردني، ورقة سياسات، مؤسسة فريدريش ابرت، عمّان، 2014، ص. 8.
[12] V. Verardi, “Electoral systems and corruption”, Revista Latinoamericana de Desarrollo Económico, La Paz, 2004, pp.117-150.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.