صدر القانون الرامي إلى الترخيص بزراعة القنّب للاستخدام الطبّي والصناعي في تاريخ 28/05/2020، بعدما كانت قد مهّدت لصدوره تغييرات على مستوى الخطاب العام الذي انتقل من خطاب حول مكافحة زراعة القنّب وإيجاد زراعات بديلة، وبخاصّة في منطقة الهرمل، إلى خطاب حول الفوائد التي يمكن جنيها من تشريعه. وهذا ما سنحاول تفنيده في هذه المقالة، من خلال التوقّف عند أهمّ السرديّات في هذا الشأن، والتي تكلّلت بإقرار القانون المذكور في جلسة عقدها مجلس النوّاب في 21 نيسان 2020.
تكمن أهمّية رصد المواقف حول هذه المسألة في إيضاح تطوّر سرديّة التشريع لأغراض طبّية، وإبراز التبدّل في الرأي العام -بخّاصة بين عامَي 2013 و2018- حيال زراعة النبتة من النواحي القيمية والصحّية والاقتصادية. ويؤمل في أن يسهم هذا التفنيد في تطوير النقاشات المقبلة حول تطبيقات تشريع عام 2020 ورصد مدى جدّيته في معالجة الإشكاليّات القائمة.
التجّار إلى واجهة الجدل قبل المسؤولين
تزايد الظهور العلني للتجّار على وسائل الإعلام في سنوات 2010، وقدّم هؤلاء أنفسهم كمدافعين عن المزارعين وناطقين باسمهم، إذ كانوا أوّل من نادى بتشريع الزراعة، مع العلم أنّ نداءهم هذا أتى في معرض تبرير تجارتهم للمخدّرات على أنواعها، والتي تهدّد حياة الناس. ولا يسعنا إلّا أن نذكر، على سبيل المثال، نوح زعيتر، الذي أصبح نجمًا إعلاميًّا، في تصريحٍ له: “إذا شرّعتم القنّب الهندي لمدّة ستّة أشهر، فسأسدّد كلّ ديون الحكومة”. من المؤكّد أنّ زعيتر لم يطلق تصريحه هذا بناءً على دراسة جدوى أعدّها، إنّما ما قاله يعكس رأيًا عامًّا ساد حينها. في العام 2012، أعلن تحالف عشائري عدم التزامه الصمت إزاء عمليّات التلف، محذّرًا من اشتباكات قد تقع مع الجيش[1]. وقد بدا في السرديّة أنّ ظهور هؤلاء العلني آتى ثماره، بحيث شهد ذلك العام آخر حملات وعمليّات إتلاف “الحشيشة”.
وزاد الظهور العلني المسلّح للتجّار من تنميط أهل البقاع ومزارعيه، في مقابل حالات قليلة من كسر التنميط تجلّت في البرنامج الكوميدي “شي أن أن” عام 2013، الذي قدّم “سكيتشًا” ساخرًا عن هؤلاء التجّار[2]. وكان لتحسّن خدمة الإنترنت دوره في إتاحة مجال أوسع للاطّلاع، من خلال مواقع علمية أو غير علمية، على معلومات عن نبتة “الحشيشة” وزراعتها وتجارتها واستهلاكها. ولعلّ التأثير الأكبر على الرأي العام ناجم من متابعة أفلام درامية وأخرى وثائقية، بالإضافة إلى “يوتيوبرز” يعالجون الإشكاليّات المتعلّقة بالقنّب من زوايا مختلفة، ليكسروا بذلك أحادية الجدل السائد.
في آب 2013، استبق “بعض الفاعلين المؤثّرين” في منطقة البقاع وبعلبك إمكانيّة حدوث مواجهات عنفيّة مع الدولة[3]، فتوجّه وفد منهم إلى كلّ من وزير الداخلية مروان شربل، ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، ورئيس مجلس النواب نبيه برّي، حاملًا رسالة مفادها أنّ أيًّا من وعود المسؤولين لم تتحقّق في تنمية المنطقة وأنّه “لا تلف للمزروعات” من دون حلول بديلة لأهلها. وفي أيلول من العام نفسه، تحدّث شربل في مقابلة مع جريدة “الأخبار“[4] مؤكّدًا وجهة نظر الوفد، إذ رأى أنّ الحكومة كانت قد أقرّت 35 مليار ليرة سنويًّا لمساعدة المزارعين في إطار مشروع الزراعات البديلة عن حشيشة الكيف، إلّا أنّ شيئًا لم يتحقّق؛ وأضاف أنّ الزراعات البديلة أثبتت قلّة جدواها، مشيرًا إلى تشريع بعض الدول، كالمغرب وتركيا، الزراعة، طارحًا إمكانية زراعة النبتة تحت إشراف الدولة التي تتولّى عملية شراء المحصول. كذلك أكّد شربل وجود خطط قديمة حالت “المنظومة التي ترعى الإتجار بحشيشة الكيف” دون تنفيذها. وكانت لافتةً حينها واجهةُ جريدة “الأخبار” التي صوّرت رجلًا يحمل نبتة القنّب، وقد عَنونت الغلاف “شرّعوها”. هذا بالإضافة إلى مقال آخر ورد فيها تحت عنوان “الحشّاش ليست شتيمة”، وهو واحد من مجموعة مقالات وتقارير قاربت الموضوع في تلك المرحلة.
بدءُ الجدل الجدّي مع جنبلاط عام 2014
حتّى العام 2014، اقتصر الكلام العلني المتعلّق بتشريع الزراعة على الوزير شربل (وهو الوزير الذي لُقّب في تلك الفترة بـ”أبو ملحم” بسبب أسلوبه في التعاطي مع ملفّات تتعلّق بالجماعات الأصوليّة المسلّحة)، وعلى كلام التجّار الذين جعلهم الإعلام نجومًا، وعلى قلّة غيرهم مثل الممثّل الكوميدي عبّاس جعفر[5]…؛ لكنّ كلام هؤلاء لم ينجح في إثارة جدلٍ واسعٍ كالذي أثاره تصريح زعيم التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط[6] في أوّل أيّار، مشيرًا فيه إلى أنّ حكومات الحريري منعت، في التسعينيات، زراعة “الحشيشة” تحت عنوان إيجاد زراعات بديلة تحلّ محلّها؛ أضاف: “فشلنا في الزراعات البديلة، لم نفعل أيّ شيء، وهذا شكّل نزوحًا هائلًا للمواطنين من البقاع إلى ضواحي بيروت، وأحدث اكتظاظًا هائلًا، إذ إنّهم فقدوا وسيلةً للعيش كان بالإمكان تشريعها وتنظيمها والاستفادة منها لأسباب طبِّية”. وأردف قائلًا إنّه “لا خوف من تشريعها”، مؤكّدًا أنّه تبيّن أنّ لا خطر لها على الصحّة، ملمّحًا إلى أنّ استهلاكها أفضل من استهلاك الكبتاغون المضرّ بالصحّة.
غير أنّ الجدل الأوسع أثارته تغريدة لجنبلاط نفسه في كانون الأوّل قال فيها: “حان الوقت لتشريع زراعة الحشيش وإلغاء مذكّرات التوقيف في حقّ الأشخاص الذين يجري البحث عنهم في هذا الصدد”. انتشر على إثرها هاشتاغ “#شرعوا_الحشيش”، واختار بعضهم نبتة الحشيشة لتتوسّط العلم اللبناني بدلًا من الأرزة. بالرغم من الضجّة المثارة، لم يوضح موقفه هذا ما يعنيه على المستوى التطبيقي، إلى أن تولّى وزير الزراعة حينذاك، أكرم شهيب، مسألة إيضاحه في حديث تلفزيوني[7] خلال شهر كانون الأوّل، قائلًا: “نحن نجري دراساتنا لإتمام شكل من أشكال التأميم، إذا صحّ التعبير، على غرار مؤسّسة التبغ والتنباك، بحيث يكون إشراف الدولة على زرع وشراء المحصول وتسويقه وتوزيعه بأسعار تضاهي أسعار حشيشة الكيف اليوم كمخدّر”. ونقلت “سكاي نيوز” وقتذاك عن خبراء لم تسمِّهم، أنّ المدخول السنوي للتشريع لأغراض طبّية يتجاوز 3 مليارات دولار أميركي، من دون الإشارة إلى أي دراسة جدوى شكّلت ركيزةً لهذا الرقم.
بصرف النظر عن الأرقام المتداولة حول مردود الزراعة، لم نقع على دراسات وخطط حول أوضاع المزارعين وأهالي البقاع، أو حول مدى استفادة الدولة في حال كان لها عائد استثمار (يفترض ألّا يكون على حساب المزارعين)، وحول مدى واقعية “أحلام التمويل” للخزانة. كذلك، بقيت العصا الأمنيّة معلّقة على رؤوس المستهلكين والمزارعين بالرغم من مبدأ “العلاج كبديل من الملاحقة” وفق القانون. وممّا لا شكّ فيه أنّ تطوّر وسائل التواصل وطرح مسائل “التشريع” في الخطاب السياسي، كسرا أحادية الجدل، وخير تجلٍّ لذلك تقرير كوميدي على “شي أن أن” عام 2016 تحدّث عن “فوائد الحشيش“[8].
تطوّران إيجابيّان في عامَي 2013 و2015
كان قانون المخدّرات الصادر عام 1998 قد اعتمد مبدأ “العلاج كبديل من الملاحقة” بالنسبة إلى المدمنين، إلّا أنّه بقي حبرًا على ورق؛ ذلك أنّ وزارة الصحّة لم تنشئ أو تعتمد مراكز للعلاج المجّاني طوال هذه المدّة. في تاريخ 17/1/2013، تمّ الإعلان عن تفعيل “لجنة الإدمان” بعدما أعلنت إدارة مستشفى ضهر الباشق جهوزيّتها لاستقبال مدمنين[9].
كانت تجربة التعاون بين القاضية نازك الخطيب ومركز “سكون” محوريّة في هذا الصدد[10]. وقد كتبت القاضية الخطيب حول هاتَين “المبادرتَين الشخصيّتَين”[11] موضحةً أنّ المحكمة سعت، من خلال هذه التجربة، إلى اعتماد إجراءات بديلة لتأمين العلاج للمدمن على المخدّرات، وذلك لمساعدته ومساندته على الصعيدَين الصحّي والقانوني.
أمّا التطوّر الإيجابي الثاني في مقاربة الإشكاليّات المطروحة، فقد تمثّل في بدء التفكير على المستوى الإستراتيجي، انطلاقًا من وزارة الصحّة، وبمشاركة وزارات أخرى وعدد من الجمعيّات غير الحكومية الفاعلة، بهدف وضع تصوّرات شاملة في مقاربة مسألة مكافحة المخدّرات والإدمان على وجه التحديد. يعني هذا الأمر عمليًّا التوسّع في ثنائيّة العقاب/العلاج والتطرّق إلى لائحة موضوعات في دورة “سلعة القنّب”، لم تكن مطروحة سابقًا على هذا المستوى الرسمي.
وتُوِّج هذا التوجّه بإطلاق “الإستراتيجية المشتركة بين الوزارات لمكافحة المخدّرات والإدمان في لبنان 2016-2021“، وقد أعلنت عنها وزارة الصحّة في مؤتمر صحافي أواخر عام 2016[12]. وهدفت الإستراتيجية إلى الاستجابة لاستخدام الموادّ المسبّبة للإدمان (الكحول والمخدّرات والتبغ)، من خلال ثمانية أشكال من الاستجابة: الوقاية- العلاج- إعادة التأهيل- إعادة الدمج الاجتماعي- الحدّ من المخاطر- تخفيض العرض- الأبحاث- المناصرة. (يفصّل الجدول المُدرَج ص 26 من الإستراتيجية، الوزارة أو المنظّمة غير الحكومية المعنيّة بأيّ شكل/ أشكال من الاستجابة).
وبصرف النظر عن أهمّية الإستراتيجية كمرجع في مقاربة الإشكالية ببُعدَيها الصحّي والثقافي، كان أبرزَ ما أحرزته من تقدّم أمران: الأوّل أنّها ثبّتت مبدأ التعاون بين عدّة وزارات ومع الجمعيّات والمؤسّسات المعنيّة بمعالجة الإدمان بكلّ أبعاده؛ والثاني هو ما أشارت إليه في خانة “الأهداف الإستراتيجية” 2.3.1 (ص 40) ما حرفيّته “مراجعـة القوانيـن بحيـث يتـمّ إلغـاء تجريـم اسـتخدام المـوادّ غيـر المشـروعة بما يتماشـى مـع المعاهـدات الدوليـة ومبـادئ الصحّـة العامـة”. وتبقى العبرة في تنفيذ هذه الإستراتيجية، حيث لم يتحقّق منها شيء بالرغم من مضيّ 7 سنوات على وضعها. ومن ناحية أخرى، تبقى الإستراتيجية غير كافية بحدّ ذاتها لمعالجة سائر الإشكاليّات القانونية والمعيشية والاقتصادية المرتبطة بزراعة القنّب.
استثمار الخطاب السياسي في “اقتراح العفو” وفي “أحلام التمويل” قبل إقرار التشريع
كان الحديث عن عفوٍ عام، خلال فترة التحضير لانتخابات المجلس النيابي عام 2018، مدخلًا إلى مناقشة مسألة التشريع، بدءًا بقضية الموقوفين الإسلاميين؛ إذ سرعان ما أُثيرت قضية العفو عمَّن سُمِّي “المبعدون قسرًا” ثمّ العفو عن العدد الكبير من المطلوبين في قضايا المخدّرات والجنح غير الخطِرة. وكان يفترض من تكوين رزمة المشمولين بالعفو تسهيل إقرار العفو تبعًا لنهج التوافقية السائد، لكنّ الاعتراض الواسع من الرأي العام حول من يشمله العفو أدّى إلى تأجّل البحث فيه. وأُثير الموضوع مجدّدًا في ورقة الحريري الإصلاحية بُعَيد انتفاضة “17 تشرين”[13]، كما في إحدى الجلسات النيابية عام 2019، وشكّل حينها نوعًا من العفو الذاتي الذي جوبِهَ بموجة رفض شعبي[14]. ومن جديد، سقطت اقتراحات العفو العام المُعدّة عام 2020[15] في صيغها المختلفة.
ويُذكر أنّ رئيس تيّار المردة سليمان فرنجية كان الزعيم الثاني بعد جنبلاط الذي دعا إلى تشريع الحشيش[16]، وذلك في نيسان عام 2018، وما لبثت أن كرّت بعده سبحة المناصرين للتشريع. كان لافتًا قُبَيل الانتخابات النيابية في أيّار عام 2018، وضع الحكومة خطّة أمنية، قبل دخولها فترة تصريف الأعمال، قُبِض خلالها على ثلاثة مراهقين بحوزتهم سيكارة حشيش وقطعة من المادّة المكيّفة، فتحوّل الأمر إلى مادّة للسخرية على وسائل التواصل الاجتماعي[17]. لكنّ الأمر بدا مُتعمّدًا؛ فبعد تلك الحادثة بفترة وجيزة، صرّح رئيس المجلس النيابي نبيه برّي بأنّ لبنان “باشر جدّيًّا دراسة مشروع قانون لتشريع زراعة الحشيشة لأغراض طبّية”[18]. في اليوم نفسه، نشرت صحيفة الغارديان البريطانية مقالًا[19] ورد فيه أنّ “الحكومة اللبنانية تدرس قريبًا مقترحات لتشريع زراعة القنّب لتصديره للأغراض الطبّية”. وتابعت الصحيفة أنّ الخطّة جزء من حزمة إصلاحات اقترحتها شركة McKinsey & Company – وهي الشركة التي وظّفتها الحكومة اللبنانية لوضع خطّة خماسية “لإنقاذ الاقتصاد المتعثّر”. ولفتت الصحيفة إلى أنّه يمكن أن تشهد بلدة بريتال ومنطقة البقاع بأكملها تغيّرًا في أوضاعها “من خلال إنشاء صناعة قنّب شرعية تبلغ قيمتها مليار دولار”. ولدى مطالعتنا الدراسة المطوّلة، نجد أنّها تشير في إحدى أوراقها إلى صعوبة تقدير حجم عائدات إنتاج القنّب، بحيث أضافت أنّ “تقارير” تشير إلى أرقام تصل إلى حدود 4 مليارات دولار أميركي، وهو على ما يبدو الرقم الأعلى المذكور في تقارير عدّة مختلفة.
إلّا أنّ معظم وسائل الإعلام توقّفت عند رقم المليار دولار أميركي، ونسبَته إلى دراسة “ماكينزي”، في حين أنّ جريدة الغارديان أوضحت أنّ وزير الاقتصاد (آنذاك) رائد خوري كان قد صرّح لوكالة “بلومبرغ” بأنّ “نوعيّة القنّب التي لدينا هي من الأفضل في العالم”؛ وأضاف أنّه “يمكن لقيمة الصناعة في لبنان أن تبلغ مليار دولار”. لكن، وبعد أقلّ من أسبوعٍ، أطلقت وزارة الاقتصاد تصريحًا لـ”فرانس 24” يناقض ما جاء في تصريح وزيرها، قالت فيه إنّ “تشريع هذه الزراعة قد يدرّ أكثر من 500 مليون دولار سنويًّا”[20] -أي نصف المبلغ المصرّح به لـ”بلومبرغ”-. ولم تبرز بوضوح مصادر الدراسات التي استند إليها كلا الرقمَين، وإن أتى طرحهما في خانة “الممكن”، علمًا أنّ هذه الزراعة، وفق مقال “الغارديان” ذاته، قدّرت صادراتها -غير الشرعية- بقيمة تتراوح بين 175 و200 ألف دولار سنويًّا؛ وإذا ما سلّمنا بالرقم الثاني، فإنّ التشريع سيعود بضعفَي إلى ثلاثة أضعاف مردود الصادرات في غياب التشريع.
أمّا في ما يخصّ تقرير “ماكنزي”، فقد كان لافتًا رأي رئيس “التقدّمي” وليد جنبلاط الذي سخَّف مضمونه (ما حرفيّته “I’m not going to read this bullshit report”) وأكّد أنّه اقترح الفكرة منذ سنوات. وقد سبق أن أشار إلى الأمر نفسه النائب وائل أبو فاعور بقوله: “الكنيسة القريبة لا تشفي، على أمل أن يستجيب المسؤولون هذه المرّة للتوصية الرفيعة الشأن والكلفة”[21].
من جهتها، شاركت النائبة بولا يعقوبيان على صفحتها رابط مقال “الغارديان” وغرّدت أنّها ستصوّت لصالح اقتراح قانون تشريع الحشيشة الذي ستتقدّم به كتلة التنمية والتحرير، وقالت: “لم نكن نحتاج إلى ماكنزي لندرك أهمّية زراعة الحشيشة”. بدوره دعا نائب التقدّمي فيصل الصايغ جميع الأطراف إلى التوافق التام على إقرار التشريع، فيما اعتبر وزير الصحّة الأسبق ماريو عون أنّه “ينبغي حصر المشروع بين وزارة الزراعة والمزارع وبإشراف وزارة الصحّة المعنيّة بموضوع زراعة الحشيشة لأغراض طبّية”.
أمّا نائب القوّات اللبنانية أنطوان حبشي، وبعد إشارته إلى أنّ 15 نائبًا من القوّات سيصوّتون بـ”نعم” على التشريع، فقد عقد في 23 تمّوز مؤتمرًا صحافيًّا[22] قال فيه إنّه تقدّم باقتراح قانون يقضي بأن يتمّ إخضاع زراعة القنّب لمراقبة صارمة، وبأن توفّر شركاتُ الأدوية البذورَ والشتلات للمزارعين، وأن يُحتسَب الإنتاج للتأكّد من عدم استعمال أيّ قسم منه من دون مراقبة. من ناحيته، علّق النائب ياسين جابر في حديث إلى الجزيرة[23] مشيرًا إلى ضرورة خلق هيكلية إدارية شبيهة بإدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية، مبيّنًا إمكانية ضبط الزراعة باعتماد الأسلوب المتّبع في تنظيم زراعة التبغ، من وضع آليّة للتقدّم بطلبات ترخيص، “يعقبها تصوير جوّي للتدقيق وتحديد كمّيات الإنتاج وتسليمه كاملًا إلى الجهات الرسمية”. فيما صرّح وزير العمل اللبناني محمّد كبّارة لصحيفة “النهار” أنّ “تشريع زراعة الحشيش لأغراض صحّية ينفع المجتمع ويعود بمداخيل مالية”، ورأى أن تقتصر الزراعة على أغراض العلاج.
في المقابل، لم يسهم حزب الله في الجدل القائم[24]، لكن كان بالإمكان استشفاف موقفه من خطاب أمينه العام حسن نصر الله حول استحالة استخدام الحزب المخدّرات في حربه أو كمصدر للدخل، لأسباب شرعية وأخلاقية. وقد التقى موقف المطارنة الموارنة مع هذا المنحى في رفض تشريع الزراعة، إذ عَدّوه “خطيرًا لعدّة أسباب أخلاقية واجتماعية”[25]، وقالوا في بيان إنّ التشريع يتطلّب دراسة أكثر موضوعية وعلمية تثبت ما “إذا كانت السلطات اللبنانية قادرة حقًّا على إدارتها والإفادة من إنتاجها من دون إلحاق الضرر الصحّي بالمواطنين”.
لكنّ شبه الإجماع دفع ببرّي إلى إحالة اقتراح قانون تنظيم زراعة القنّب الهندي للاستخدام الطبّي والصناعي المُقدَّم من عضو تكتل “الجمهورية القوية” النائب أنطوان حبشي إلى اللجان النيابية المشتركة لدراسته في أيلول عام 2018[26]. وفي تشرين الأول عام 2018، قدّمت كتلة “التنمية والتحرير” اقتراح قانون آخر[27]، وقّع عليه عشرة نوّاب (من كتل أمل والاشتراكي والوطني الحرّ، ومستقلّون)، وكانت المفكّرة القانونية قد أبدت ملاحظاتها على الاقتراح الذي شابَهُ العديد من مكامن الخلل[28].
يُذكر أنّه في أيّار عام 2019، عادت مصادر داخل حزب الله لتشير إلى أنّ موقفه الرافض للتشريع نابعٌ من عدم وجود جدوى اقتصادية منه[29].
كذلك، قدّم نوّاب من تكتّل لبنان القوي اقتراح قانون آخر في أيّار 2019، لتنكبّ اللجان المشتركة على دراسة الاقتراحات الثلاثة والعمل على توحيدها[30]. وفي تاريخ 26/02/2020، أقرّت اللجان اقتراح القانون الرامي إلى الترخيص بزراعة نبتة القنّب في اقتراح موحّد[31]؛ وقد لفتت المفكّرة آنذاك إلى أنّ الاقتراح الجديد أزال بعض شوائب الاقتراح السابق، لا سيّما لجهة العقوبات المُدرجة فيه (كان تضمّن عقوبتَيْ الإعدام والأشغال الشاقّة)، لكنّ الاقتراح المعدّل أغفل مصلحة المزارعين وخلا من أيّ إشارة إلى وضعية مُستهلكي القنّب، فضلًا عن تضمّنه إشكاليات عدّة متعلّقة بمن يستفيد من التراخيص للزراعة، وأخرى متعلّقة بالهيئة الإدارية الناظمة لزراعة القنّب التي أوجب القانون إنشاءها، أي إنّه، بشكل عامٍّ، لم يضع ضوابط للمحاصصة والاستنسابية، وأهمل المصلحة العامة.
تمّ إقرار القانون في دورة البرلمان المنعقدة في 21 نيسان 2020. ودارت المناقشات[32] بين من استعجل إقرار القانون مثل النوّاب إيلي الفرزلي الذي اقترح إقراره بمادّة وحيدة، وطوني حبشي وبلال عبد الله اللذَين اعتبرا القانون “يحاكي المعايير الدولية”، وبين من طالب بمناقشة القانون مادّة بمادّة مثل النائب ميشال معوّض، أو من رفض إقراره بالمطلق مثل النائب أغوب بقرادونيان معتبرًا باسم كتلته أنّ هذا القانون شرعنة للمحظور وتعبير عن “قبول الفشل بتطبيق القانون وحماية صحّة الشباب وأخلاقهم”. فيما وضع النائب سمير الجسر الأمر في سياق “موبقات تأتي علينا بالمال”، ليردّ عليه النائب علي حسن خليل بقوله إنّنا “لسنا الدولة الأولى التي تُقدِم على هذه الخطوة”. في المقابل، تحدّث النائب ماريو عون عن ثغرات في القانون، ومنها ما يتعلّق بمنح التراخيص، ورأى أنّه يجب على الهيئة الناظمة أن تقدّم جوابًا حول هذه النقطة، سلبًا أو إيجابًا، خلال ستّين يومًا. من جهته، تناول الياس بو صعب المادّة 22 المتعلّقة بالاحتكار، وسأل النائب محمّد الحجّار عن مهامّ الهيئة الواردة في الاقتراح مشيرًا إلى أنّ “مدير الهيئة الناظمة يتمّ تعيينه بناء على سلطة الوصاية بينما يخضع أعضاء الهيئة لموضوع التخصّص”، وأضاف متسائلًا: “لماذا لا تكون كلّ التعيينات خاضعة للكفاءة؟”
وبالرغم ممّا بدا من تباينات في المواقف، صُدِّق الاقتراح خلال الجلسة. ويُذكَر أنّه في الجلسة نفسها تمّت محاولة تمرير اقتراحَيْ قانون عفو عام[33]، إلّا أنّهما سقطا مجدّدًا، كما الاقتراحات السابقة، تبعًا لإسقاط صفة العجلة عنهما.
كيفيّة تلقّي خبر إقرار قانون تشريع القنّب في بعلبك الهرمل
ولكن كيف تلقّى مزارعو بعلبك-الهرمل خبر إقرار القانون؟ لا بدّ من أن نلحظ هنا أنّ مواقفهم[34] تراوحتْ بين اللامبالاة والاعتقاد بإمكانيّة زراعة القنّب قانونيًّا، وقد بدا جليًّا أنّ المزارعين لا يعلمون أنّ البرلمان شرّع نوعًا محدّدًا من القنّب. كما استشفّ بعضهم من إقرار هذا القانون تحقُّق وعود الأحزاب بالعفو العام والكفّ عن الملاحقات، فيما ذهب بعضهم الآخر إلى التشكيك في مشروع إنمائي يقوم على زراعة الحشيشة. في المحصّلة، بدا أنّ أيًّا من الوزارات المعنيّة أو المبادرين إلى تقديم القانون لم يلحظ ضرورة مصارحة أهالي المنطقة حول حقيقة هذا القانون وانعكاساته على واقعهم الاقتصادي والمجتمعي.
وكان لافتًا تصريح وزير الزراعة في حكومة تصريف الأعمال عبّاس مرتضى[35] في آذار عام 2021، وقد جاء فيه أنّ التأخير في الانطلاق بالخطّة المتعلّقة بتنظيم زراعة القنّب حرم الخزينة اللبنانية من عائداتٍ مالية ضخمة، لكنّ الرقم المُقدّر هذه المرّة تراجع من 3 مليارات دولار أميركي (وفقًا لما أفاده خبراء في العام 2014) إلى 300 مليون دولار أميركي، على أن يزداد الرقم سنويًّا ليصل إلى المليار دولار أميركي المزعوم “في السنة الخامسة”.
نشر هذا المقال ضمن دراسة “تشريع زراعة القنّب الطبّي في لبنان وآثاره على الأوضاع المعيشية لمزارعي الهرمل” للباحث نزار حريري نشرها بالتعاون مع المفكرة القانونية وهي دراسة استكشافية للآثار الاجتماعية والاقتصادية لقانون تشريع زراعة نبتة القنّب الطبّي في لبنان، الصادر في نيسان عام 2020، في سبيل إجراء تقييم استباقي لتداعياته على الأوضاع المعيشية لمزارعي الهرمل.
[1] دلال بزي، مزارعو الحشيشة يشتبكون مع الجيش في اليمّونة، تقرير في نشرة أخبار قناة الجديد، 3/8/2012.
[2] البرنامج الكوميدي “شي أن أن”، عبد وعبّاس في حقل الحشيش، قناة الجديد، 25/9/2013.
[3] مزارعو الحشيش في لبنان يتحدّون الدولة، موقع قناة دويتشه فيله الألمانية الإلكتروني، 13/8/2013.
[4] جريدة الأخبار، 2013/9/14، العدد 2104.
[5] البرنامج الكوميدي “شي أن أن”، #شرعوا الحشيشة، قناة الجديد، 24/4/2014.
[6] يمنى فوّاز، جنبلاط: شرّعوا الحشيشة، تقرير في نشرة أخبار قناة الجديد، 1/5/2014.
[7] دارين الحلوة، جدل بشأن تشريع زراعة الحشيش بلبنان، تقرير في نشرة أخبار سكاي نيوز العربية، 27/12/2014.
[8] البرنامج الكوميدي “شي أن أن”، عباس يقدّم دراسة عن فوائد الحشيش، قناة الجديد، 12/1/2016.
[9] عن هذا الأمر، راجع: ناديا مكداشي، لجنة الإدمان فُعِّلت… لم تُفعّل: المحالون إلى العلاج قلة والقضاة آخر من يعلم بها، نُشر في العدد 8 من مجلّة المفكّرة القانونية – لبنان في تاريخ 3/4/2013.
[10] عن هذا الأمر، راجع: ناديا مكداشي، المرجع نفسه.
[11] القاضية نازك الخطيب، هل أصبح “حقّ المدمن بالعلاج كبديل عن الملاحقة” نافذًا؟، نُشر في العدد 8 من مجلّة المفكّرة القانونية – لبنان في تاريخ 3/4/2013.
[12] الإستراتيجية المشتركة بين الوزارات لمكافحة المخدّرات والإدمان في لبنان 2021-2016، موقع وزارة الصحّة اللبنانية الإلكتروني، 18/1/2017.
[13] عن هذا الأمر، راجع: نزار صاغية، أوّل الإصلاحات قانون عفو عامّ؟ مشروع شراء الذمم والتطييف والعفو الذاتي غير المعلن، نُشر على موقع المفكّرة القانونية في تاريخ 28/10/2019.
[14] عن هذا الأمر، راجع: جلسة تشريعية غير دستورية بطعم البروباغندا، نُشر على موقع المفكّرة القانونية في تاريخ 8/11/2019.
وقانون عفو عام بطعم الرشوة والعفو والذاتي، نُشر على موقع المفكّرة القانونية في تاريخ 11/11/2019.
[15] عن هذا الأمر، راجع: كامل نتائج الجلسة التشريعية أيار 2020، المفكّرة القانونية، 30/5/2020.
[16] تصريحات رئيس تيّار المردة النائب سليمان فرنجية أثناء حلقة حوارية خاصّة على قناة الجديد في تاريخ 15/4/2018 مع عدد من إعلاميي القناة.
[17] ضحى شمس، ضوء أخضر أميركي لزراعة الحشيش في لبنان؟، موقع “أوريون 21” الإلكتروني، 21/8/2018.
[18] لبنان يدرس تقنين زراعة “الحشيش”، موقع قناة الجزيرة مباشر الإلكتروني، 18/7/2018.
[19] Richard Hall, Budding business: how cannabis could transform Lebanon, The Guardian, 18/7/2018.
[20] الحشيش في لبنان: من العثمانيّين إلى الميليشيات المسلّحة…ونحو التشريع؟، موقع “فرانس 24” الإلكتروني، 23/7/2018.
[21] أبو فاعور عن تقرير “ماكنزي”: الكنيسة القريبة لا تشفي، جريدة الجمهورية، 8/7/2018.
[22] اقتراح قانون معجّل لتشريع زراعة الحشيشة في لبنان، جريدة اللواء، 23/7/2018.
[23] الحشيش بلبنان.. نحو التشريع لأسباب اقتصادية وطبّية، موقع قناة الجزيرة الإلكتروني، 27/7/2018.
[24] ضحى شمس، المرجع نفسه.
[25] من يتوجّس من تشريع زراعة الحشيش في لبنان؟، موقع قناة “دويتشيه فيله” الألمانية الإلكتروني، 2/8/2018.
[26] برّي أحال اقتراح قانون تنظيم زراعة النبتة الطبّية المقدّم من حبشي إلى اللجان النيابية، موقع حزب القوّات اللبنانية الإلكتروني، 7/9/2018.
[27] تشريع الحشيشة: اقتراح جديد لمصلحة الشركات، جريدة الأخبار، 1/9/2019.
[28] عن هذا الأمر، راجع: نزار صاغية وكريم نمور، ملاحظات حول اقتراح تشريع زراعة القنب في لبنان، نُشر على موقع المفكّرة القانونية في تاريخ 11/10/2018.
[29] راكيل عتّيق، «حزب الله»… وزراعة «الحشيشة»؟، جريدة الجمهورية، 20/5/2019.
[30] اللجنة الفرعية المنبثقة عن اللجان النيابية المشتركة درست اقتراح قانون يرمي إلى تنظيم زراعة القنّب للاستخدام الطبّي، الموقع الإلكتروني لمجلس النوّاب اللبناني، 29/10/2018.
[31] عن هذا الأمر، راجع: نزار صاغية وكريم نمور، المرجع نفسه.
[32] عن هذا الأمر، راجع: كامل نتائج الجلسة التشريعية نيسان 2020 (5)، نُشر على موقع المفكّرة القانونية في تاريخ 26/4/2020.
[33] عن هذا الأمر، راجع: كامل نتائج الجلسة التشريعية نيسان 2020 (2)، نُشر على موقع المفكّرة القانونية في تاريخ 25/4/2020.
[34] عن هذا الأمر، راجع: سعدى علوه، حجم القطاع المخالف اليوم يدرّ حوالي 800 مليون دولار سنويًّا: مزارعو بعلبك الهرمل بين القنبلة الدخانية لتشريع الحشيش وتهميشهم التاريخي، نُشر على موقع المفكّرة القانونية في تاريخ 30/4/2020.
[35] نذير رضا، تأخير تشكيل الحكومة يحرم لبنان من عائدات الحشيشة، جريدة الشرق الأوسط، 13/3/2021.