“هل تَعرِفُ بَيع كُوبٍ من الماء؟ هل تَعرف كيف تُجيب على الهاتف؟ هل تعرف حلّ مشكلة؟”؛ هذه بعض الأسئلة التي وردَت على لسان أحد أبرز الوجوه الإعلامية في تونس، حمزة البلومي، خلال استضافته في إحدى حلقات سلسلة البودكاست “اعترافات عميقة” في شهر جوان الفائت. هي في الواقع استفهامات إنكارية عَبّر بها الإعلامي عن تبرّمه من خطاب الشباب أصحاب الشهادات الجامعية الذين يشتكون من نُدرة فرص العمل وتدنّي الأجور، ممّا يَجعلهم يتساءلون عن الجدوى من تعليمهم والجهود التي بذلُوها في سبيل إتمامه.
“أنتَ لست مُعطّلاً عن العمل، لم يُعطِّلك أحد. لا تَستكثر علينا شهادتك الجامعية، وإذا أردت حَرقَها فافعل ذلك، لن تَصلَ إلى أية نتيجة. واصل البكاء”، يقول الضيف بمزيج من التقريع والسخرية لهذه الشبيبة “المُتواكلة” و”المُدللة” التي تتوهّم أن الحصول على شهادة جامعية بعد حوالي 15 سنة من الدراسة يَمنحها الحقّ في المطالبة بشغل لائق يُناسب تكوينها ومجهوداتها وتضحيات عائلاتها. ثم يُعبّر عن انزعاجه من “التبريرات” التي يُقدمها البعض لتفسير “فشلهم” والانتقاص من “نجاح” آخرين مثل شبكة العلاقات ونفوذ العائلة والمحسوبية واللاعدالة الاجتماعية: “هذا الخطاب يزعجني، مجرد تعلاّت”. ثم يتدارك قليلا ويعترف بأن بعض الظروف الاجتماعية والاقتصادية قد تؤثر قليلا، لكنها -حسب رأيه- ليست حاسمة، فالإصرار هو مفتاح كل المشاكل والاستحقاق هو معيار النجاح. يكفي أن “تُشمّر على ذراعيك” وألا تكتفي بإرسال عشرة أو عشرين مطلب شغل، بل ترسل 500 وحتى 1000″. طبعا لم ينسَ الإعلامي البارز الإشارة إلى “نماذج” المليارديرات الذين انطلقوا من “الصّفر” وتحدوا الظروف والطبيعة والكائنات الخارقة وصنعوا أمجادًا بفضل العزيمة والإصرار. كما لم يُفته أن يُقدّم مسيرته المهنية كمثال لقصة صعود فردي تحدّت كل المصاعب ولم تتأثر بـ”التعلات” التي يَسوقها “الفَشلَة”.
الخطاب الذي هيمن على حلقة البودكاست يُشبه ما تقوله بعض الفئات الحضرية في المدن التونسية الكبرى التي تشتكي من “نزوح” سكان الأرياف والمناطق الداخلية نحو السواحل، وتستغرب كيف يتخلّون عن أراضيهم الفلاحية الشاسعة ويقبلون بالعمل في وظائف مرهقة في المدينة بأجور متدنيّة وكراء مساكن ضيّقَة ومتدهورة. وطبعا الإجابة بالنسبة إليهم واضحة: الكسل والتواكل، لا ضعف الإمكانيات المادية وشح الموارد المائية وارتفاع تكلفة الإنتاج وسطوة الوسطاء، إلخ. وبالمثل، أبناء الطبقات الميسورة الذين لا يشعرون بأيّ تعاطف مع أبناء الطبقات الشعبية الذين يركبون قوارب الهجرة غير النظامية في اتجاه أوروبا ويغرق بعضهم في البحر ويقضي البعض الآخر أشهرا في مراكز الإيواء والترحيل. يتساءلون لماذا لا يبعث هؤلاء المهاجرون مشاريع بالمبالغ التي يدفعونها للمهرّبين. فعلا، قائمة المشاريع الناجحة التي يمكن انشاؤها بمبلغ 1000 أو 2000 دولار طويلة جدا.
حمزة البلّومي فضلا عن كونه إعلاميا له برامج إذاعية وتلفزية تحظى بنسب متابعة كبيرة -أحدها أطلق عليه اسم “انجَح في حياتك”- هو أيضا مدرّب ومُحاضر في مجالات الاتصال والتحدّث إلى الجمهور، وبعث منذ سنة 2018 برنامجا لتكوين الشباب الطامح إلى الريادة وذلك بهدف التقليل من “المناخ السلبي وتراجع المعنويات في البلاد”، وحتى شركة الإنتاج التي يملكها تُركّز على قصص النجاح الفردي “المُلهمة”. “قصص النجاح” وتجارب الأفراد “الخارقين” صارت تحظى برواج كبير في السنوات الأخيرة في تونس، وهي ظاهرة تتغذى من روافد اقتصادية وسياسية وثقافية عدّة، بعضها كوني والبعض الآخر محلي.
في جذور الخطاب
يَصعب التأريخ بدقّة للظّواهر والتغيّرات الاجتماعية-الثقافية، فهي عادة نِتاج لمسارات تاريخية تَختلف منابعها ومدّتها وحِدّتها. وتَنطبق هذه المعاينة على ظاهرة قصص النجاح الفردي “المُلهمة” التي صارت تحتلّ مكانة كبيرة في المخيال الجماعي، حتى أنها تَكاد تصبح التعريف الوحيد للنجاح. لا يُمكن فصل ثقافة النجاح الفردي عن الروافد الفكرية والسياسية التي تتغذّى منها نزعات وتيارات الفردانية، انطلاقا من الفلسفات القديمة كالهيدونية والأبيقورية والدّيانات القائمة على فكرة “الخلاص الفردي”، ثم الثورات الثقافية خلال عصر النهضة والحداثة الغربيتيْن اللتيْن مَهّدَتَا لمركزية الفرد في المجتمع، ومرورا بظهور الرأسمالية وتبلور الليبرالية كتيار اقتصادي وسياسي واجتماعي، وصولا إلى عصر النيوليبرالية و”ما بعد الحداثة”.
منذ بداية ثمانينيات القرن الفائت -أي مع بداية تصدّع المعسكر الشرقي وتراجع جاذبيّة التيارات اليسارية والتقدمية عموما- بدأت تَرُوج في الولايات المتحدة ثم أوروبا وبقية العالم الغربي نظريات ودروس ومحاضرات حول “بناء القدرات الفردية” و”تطوير الشخصية” و”التّنمية الذّاتية” وغيرها من المُسمّيات التي تتمحور حول قدرة كل فرد على النجاح مهما كانت الظروف الذاتية والمحيطة، شرط أن يُقنِعَ نفسه أنه قوي وآمَنَ بقدراته وكان إيجابيا، إلخ. استمدّت هذه النظريات بعض عناصرها من علم النفس (الإيحاء الذاتي) والليبرالية الاقتصادية (المبادرة الفردية) ومن بعض “العلوم الزائفة” مثل البرمَجَة اللغوية العصبية، وصَاغَتها في شكل “وصفات سحرية” تُعزّز ثقة الأفراد في أنفسهم وتحرّر طاقاتهم الكامنة وتَضع أقدامهم على السّراط المستقيم نحو النجاح والتميّز. وازدهرَت هذه النظريات والممارسات بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي و”نهاية التاريخ” و”موت الإيديولوجيا” وانهيار “السّرديات الكبرى” -مثلما ذهبت إلى ذلك مقولات النيوليبرالية التي شاعت حينها- وفَرض الأحادية القطبية الأمريكية-الغربية في العالم التي رافقها “انتصار” الديمقراطية الليبرالية وقِيمَها الاجتماعية والاقتصادية.
هي بالأساس إفراز ثقافي إيديولوجي غربي شَقَّ طريقه إلى بقية العالم تدريجيا مع تسارع نسق العولمة بفضل ثورة الإنترنت وتكنولوجيات الاتصال. وقد كانت مصر، التي شهدت منذ بداية السبعينيات الفائتة حركة انفتاح اقتصادي مباغت وشرس صَفَّى التركة الناصرية الاشتراكية، من أولى دول المنطقة العربية التي عرفَت ظهور مُدرّبي ومنظري التنمية الذاتية والنجاح الفردي منذ ثمانينيات القرن العشرين. أما تونس التي كان انفتاحها الاقتصاديّ أكثر بطءًا وأقلّ فظاظة، فقد وصلتها الظاهرة بشكل متأخّر نسبيا، مع بداية الألفية الثالثة تقريبا. عشرية التسعينيات الفائتة كانت مفصلية في التاريخ الاقتصادي- السياسي لتونس، إذ انطلقت خلالها سياسة خصخصة المؤسسات الاقتصادية “المتعثرة” ورفع الدعم تدريجيا عن السلع الأساسية وانسحاب الدولة من قطاعات الإنتاج لفائدة المستثمرين المحليين والأجانب، والانخراط بحماس في اقتصاد السوق عبر الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية وتوقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي وإزالة عدّة عوائق حمائيّة جمركية وإدارية أمام السلع ورؤوس الأموال الأجنبية. لكن الأخطر من كل هذا اهتراء ما يُسمّى “المصعد الاجتماعي” الذي سمَحَ خلال العقود الأربعة التي تلت استقلال البلاد (1956) بانتقال مئات آلاف التونسيين من الطبقات الفقيرة إلى الطبقات الوسطى وحتى أبعد، وكان التعليم مُحرّكه الأساسي.
في سنة 1998 تم إقرار مناظرة “الكاباس” أو شهادة الكفاءة المهنية لأستاذية التعليم الثانوي، وبِمقتضاها أصبح توظيف حاملي الشهادات الجامعية كأساتذة يخضع لسلسلة من الامتحانات بعد أن كان يتمّ بشكل شبه أوتوماتيكي. ثم صارَ مبدأ التناظر يَحكم أغلب الانتدابات في مختلف القطاعات العمومية نظرا إلى اختلال قاعدة العرض والطلب (تضخّم عدد الجامعيين مقارنة بعدد الوظائف الشاغرة) وسير الدولة في طريق التقشف وتقليص حجم كتلة الأجور. يمكن القول أن تلك الفترة شكّلَت بداية تفكّك الدولة الاجتماعية أو “الدولة الراعية”، وبالتالي تَراجُع الطبقات الوسطى التي تُشكّل العمود الفقري للمجتمع التونسي، وتَراجع دور الشهادات والتكوين العلمي كسلّم للترقي الاجتماعي وأحد سبل “الإنصاف” و”تساوي الفرص”. طبيعة النظام السياسي الديكتاتوري آنذاك زادت ترديا مع اكتسابها طابعا مافيوزيا (عائلة الطرابلسية أصهار الرئيس مثالا) وخصائص غنائميّة وريعيّة خَلقَت طبقةً من المحاسيب والأثرياء الجدد، وفتحت الباب على مصراعيه لازدهار الكارتيلات والممارسات الاحتكارية، مع هوسٍ بنسب النموّ على حساب مؤشرات التنمية والمضاربة، وعلى حساب الإنتاج وخلق الثروة والتشغيل.
هكذا أصبح الانتقال الطبقي الجَماعي والتدريجي جزءًا من الماضي وتوضّحت ملامح العصر الجديد: النجاح والخلاص فرديّان أو لا يكونان. أصبح هناك هوس بالتفوّق في التعليم -بأيّ ثمن ووسيلة- لضمان مكان للأبناء ضمن “الطائفة الناجية” التي سيتمّ توجيهها إلى مسالك علمية وتقنية ذات إمكانيات تشغيلية عالية في تونس أو خارجها. ويشهد على ذلك الارتفاع السريع في عدد المدارس الابتدائية الخاصة ورياض الأطفال ذات التكلفة العالية ومراكز التقوية في اللغات والرياضيات و”تنمية الذكاء”، وازدهار الدروس الخصوصية وكلّ ما يلزم لصناعة “سوبر” تلميذ. وفي مطلع الألفية الثالثة تمّ إلغاء مُناظرة ختم التعليم الابتدائي (السيزيام) ومناظرة ختم التعليم الأساسي (النوفيام) وتَعويضَهما بمناظرتي الدخول إلى المدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية النموذجية لاستقطاب أفضل العناصر، في حين يذهب البقية إلى المؤسسات العمومية العادية أو المؤسسات الخاصة، وأصبح لدينا تعليم بثلاث سرعات.
أصبح النجاح الفردي والمبادرة الذاتية، منذ مطلع الألفية الحالية، من ثوابت الخطاب الرسمي المُوَجَّه إلى الشباب. في مارس 2003 صدر أمر وزاري يقضي بتغيير اسم “الوكالة الوطنية للتشغيل” التي أنشِئَت سنة 1993 ليصبح “الوكالة الوطنية للتشغيل والعمل المستقل” وتعويض تسمية “مكاتب التشغيل” التابعة لهذه الوكالة بالتسمية التالية: “مكاتب التشغيل والعمل المستقل”. في عشرية 2000-2010 تم أيضا إنشاء فضاءات المبادرة ووَحَدات النّهوض بالمؤسّسات الصّغرى ومحاضن المؤسسات الناشئة وإقرار “برنامج الإفراق” (تشجيع العاملين في مؤسسات خاصة على بعث مشاريعهم الخاصة بهم). توَجَّهت هذه البرامج والإجراءات للشباب، بخاصة من حاملي الشهادات الجامعية، وكانت كلمة السّر “بعث المؤسسات” كحلّ سحري للبطالة يُعفِي الدولة والقطاع الخاص من واجباتهما الاجتماعية. حتى أن “بعث المؤسسات” صارت من بين المواد التي تُدرّس في الجامعات مهما كان الاختصاص الذي يختاره الطالب. في الفترة نفسها، بدأت الجامعات التونسية تَشهد ازدهارًا لنشاط فروع نوادي ومنظمات دولية تُركّز على أفكار ومصطلحات مثل القيادة والريادة وتنمية القدرات الفردية، على غرار “روتاري” و”ليونز” و”آيسيك”.
اقتصاديا، تمظهَرت هذه الثقافة الجديدة في الزيادة الكبيرة في عدد المشاريع الفردية (لا تُشغّل إلا شخصا واحدا) إذ ارتفعت نسبتها من 373315 مؤسسة سنة 2003 إلى قرابة 700000 مؤسسة في 2019. كما عادت حلول الهجرة بقوة بعد موجتي أواخر الستينيات وأواسط الثمانينيات، مع بروز ظاهرة الهجرة غير النظامية. وشهد مطلع الألفية أيضا طفرة نوعية في حجم ظاهرة تهريب السلع وازدهار غير مسبوق لقطاعات الاقتصاد غير المهيكل. كلّ هذه الظواهر الاقتصادية تقوم على الأفراد وحلم النجاح الفردي في زمن استقالة الدولة وتحلّل العقد الاجتماعي.
جاءت ثورة 2011 كلحظة ضد التيار: لحظة استعادة المشاريع الجماعية والحلم بوطن عادل وحرّ ومزدهر، حتى وإن أشعل شرارتها فرد (محمد البوعزيزي). لكن، للأسف، لم تَدم الهبّة والروح الجماعية طويلا لأسباب يطول استعراضها وشرحها، وقد يكون أبرزها عدم الموازنة بين مساري الحقوق السياسية والحقوق الاجتماعية-الاقتصادية، وكذلك غرق البلاد في موجة من العنف السياسي (اغتيالات، عمليات إرهابية، ميليشيات) كانت لها تبعات نفسية واقتصادية قاسية. انطفأت الروح الجماعية وعاد الأفراد إلى التقوقع على ذواتهم والتفكير في سبل الخلاص الفردي. وتزامنت هذه الانتكاسة مع تعاظم تأثير منصّات التواصل الاجتماعي التي ستَلعب هي الأخرى دورا مهما في ترسيخ فكرة الخلاص الفردي عبر الترويج لقصص النجاح الفردية “المُلهمة” التي ينشرها “المؤثرون” و”المؤثرات” فيتلقّفها ملايين المتابعين ويشاركونها على حساباتهم لتَلُفَّ العالم في وقت وجيز. ولربّما كان الاحتفاء الشعبي بالإجراءات التي أعلنها الرئيس قيس سعيد مساء 25 جويلية 2021 وسياسة الحكم الفردي التي رسّخَها فيما بعد تتويجًا لثقافة الخلاص الفردي والفرد المُخلِّص.
في تهافت خِطاب الخلاص الفردي
لطالما وُجِدَ أفراد متميزون مَنحَتهم الطبيعة أو العوامل الاجتماعية-الاقتصادية أو الصّدفة أو مجهوداتهم الخاصة إمكانية البروز وإظهار نبوغهم العلمي أو إبداعهم الأدبي والفني أو قدراتهم الجسدية الهائلة. لكن كم يمثل هؤلاء من جملة البشر؟ 1 في المائة، أقل، أكثر؟ في كل الأحوال هم أقلية، فماذا عن بقية الناس “العاديين” و”المتوسطين”؟ أليس من حقّهم التمتع بحياة كريمة؟ ما هي معايير النجاح والفشل؟ مهما كانت معايير الفشل والنجاح -حسب الإيديولوجيا السائدة- فالمنطق والعدل يَفترضان ضمان الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية و”تساوي الحظوظ” والعوامل الاجتماعية والاقتصادية واللوجستية الملائمة لكي ينطلِق الجميع من نفس الخط، أو على الأقل لا تكون المسافات بينهم سنوات ضوئية لحظة الانطلاق. هذه الشروط التي يتجاهلها حمزة البلومي وكثيرون ممن يتبنّون نفس الخطاب الاستعلائي، المُؤدلَج والمنفصل عن الواقع. نسُوق هنا بعض الأرقام والمعطيات حول الفروق بين المناطق في تونس فيما يتعلّق بمؤشرات اجتماعية-اقتصادية وتعليمية ولوجستية، إلخ.
. نِسَب الفقر والبطالة:
تَبلغ نسبة الفقر على المستوى الوطني 16،6% ، حسب أرقام المعهد الوطني للإحصاء، مع تَفاوت كبير بين الأقاليم يتجاوز الستة أضعاف: 6،1% في تونس الكبرى (العاصمة تونس والولايات الملاصقة لها أريانة وبن عروس ومنوبة)، 15،2% في إقليم الشمال الشرقي (تونس الكبرى وولايات بنزرت ونابل وزغوان) 13،2% في الوسط الشرقي (ولايات الساحل الثلاث: سوسة والمهدية والمنستير زائد ولاية صفاقس)، 23،2% في الجنوب الشرقي (ولايات قابس ومدنين وتطاوين)، 22،5% في الشمال الشرقي (ولايات الكاف وسليانة وجندوبة وباجة)، 18،1% في الجنوب الغربي (ولايات قفصة وتوزر وقبلي)، و37% في الوسط الغربي (ولايات القصرين والقيروان وسيدي بوزيد). أما إذا كَبّرنَا “خريطة الفقر” لنقارن بين المعتمديات فإن التفاوت قد يصل إلى أكثر من 250 ضعفا، مثلما هو الحال بين المعتمدية الأقل فقرا (معتمدية المنزه في ولاية تونس العاصمة) بنسبة 0،2% والمعتمدية الأكثر فقرا (معتمدية حاسي الفريد بولاية القصرين) بـ53،5 %.
نِسب البطالة تُعبّر هي الأخرى عن عمق التفاوتات، إذ تَبلغ وطنيا حوالي 16% لكنها تقل عن 8% في ولاية المنستير، في حين تتجاوز 32% في ولاية تطاوين، وهي عموما تفوق نسبة الـ20% في أغلب المناطق الغربية للبلاد.
. المحاضن ورياض الأطفال والأقسام التحضيرية:
من بين 5686 مؤسسة (روضة وحضانة) مرخصا لها من قبل وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن تتواجد 2845 واحدة منها (أكثر من النصف) في الولايات الشمالية الشرقية الثّمانية التي أشرنا إليها سابقا. وإذا ما اعتمدنا تقسيم شرق/غرب فإن الجهة الشرقية برُمّتها تتركّز فيها حوالي 4200 مؤسسة بنسبة تُناهز 75 % من مجمل المؤسسات.
أما بالنسبة للأقسام التحضيرية فقد بلغ عدد التلاميذ في السنة الدراسية 2022/2023 أكثر من 200 ألفا، منهم 54325 في الأقسام الملحقة بمدارس عمومية، أما البقية فيذهبون أساسا إلى رياض الأطفال الخاصة والأقسام التحضيرية الملحقة بالمدارس الخاصة. وكما أشرنا سابقا فإن أغلب رياض الأطفال تتركز في الجهة الشرقية، وكذا الأمر بالنسبة للمدارس الخاصة التي يُوجد قرابة ثلثيها في مناطق تونس الكبرى والساحل وصفاقس (411 من جملة 669).
. التكوين المهني:
بَلغَ عدد المُسجّلين في مختلف مراكز واختصاصات التكوين المهني في تونس حوالي 94826 متدرّبا (أرقام سنة 2018 التي قدمها المرصد الوطني للتشغيل والتكوين)، من بينهم 25383 فردا في إقليم تونس الكبرى في حين ينخفض العدد إلى 3155 في ولايات الجنوب الغربي. 76625 متدربا يتلقون التكوين في الولايات الشرقية أي بنسبة 80،8 %. ويبلغ عدد مراكز التكوين العمومية 196 مؤسسة منها 137 في شرق البلاد، أما المراكز التابعة للقطاع الخاص فقد بلغ عددها 1261 مؤسسة تتركّز 887 واحدة منها في الولايات الشرقية.
. المؤسسات الاقتصادية الخاصة:
حسب المعطيات التي استخلصها المعهد الوطني الوطني للإحصاء من السّجل الوطني للمؤسسات، سنة 2021، نجد أن عدد المؤسسات الخاصة يبلغ حوالي 828821 مؤسسة من بينها 149143 في ولاية تونس و80722 في ولاية صفاقس و62518 في ولاية سوسة. إقليم تونس الكبرى يحوز لوحده 294199 مؤسسة، في حين لا يتجاوز عدد المؤسسات في إقليم الجنوب الغربي 30220 مؤسسة، وعموما تتركّز 82% من المؤسسات في الجهة الشرقية من البلاد (679075 مؤسسة). وإذا اعتمدنَا مقياس الحجم فإن المؤسسات التي تُشغّل 50 أجيرا فما فوق يبلغ عددها 3366، منها 3233 مؤسسة في شرق البلاد، أي بنسبة 96% (1599 في إقليم تونس الكبرى).
. التعليم العالي:
من جملة حوالي 200 مؤسسة جامعية عمومية تونسية هناك أكثر من 150 مؤسسة تقع في ولايات شرق البلاد، ويضم إقليم تونس الكبرى لوحده أكثر من 60 مؤسسة، في حين تضم ولاية صفاقس أكثر من 20 مؤسسة وولايات الساحل أكثر من 35 مؤسسة. ولا يقتصر التفاوت بين جهات البلاد على عدد المؤسسات، إذ يشمل أيضا طاقة الاستيعاب وجاذبية الاختصاصات المعروضة على الطلبة والقيمة التشغيلية، فأغلب المؤسسات الجامعية الموجودة في الولايات الغربية هي معاهد ومدارس لا تتجاوز طاقة كل واحدة منها بضع مئات وأغلب مسالكها التكوينية شعب قصيرة الأمد أو غير مطلوبة كثيرا في سوق الشغل. وحتى المؤسسات الجامعية الخاصة التي يبلغ عددها حوالي 80 مؤسسة يتركّز أكثر من 90% منها في تونس الكبرى وصفاقس وولايات الساحل.
ملاحظات ختامية
الإصرار والاجتهَاد وتطوير الذات ليسَت قيمًا سلبية طبعا، لكن تصويرها على أنها كافية لضمان رخاء المجتمعات ونجاح أفرادها هو بكل تأكيد خطاب أيديولوجي يراد به إخلاء مسؤولية الدول والحكومات وتبخيس المشاريع و”السرديات” الجماعية. كما أنه خطاب يَقفز على الواقع ويتجاهل الشروط والعوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية المساهمة في إعادة إنتاج علاقات الهيمنة والفقر والثروة و”الفشل” و”النجاح”. لكن، على الرغم من كل المغالطات والنصائح الاستعلائية التي تشبّعَت بها ردود حمزة البلومي على أسئلة معدة البودكاست فإن هناك في كلامه نقطة لا تخلو من صواب: “بَيع كوب ماء” ليس أمرا متاحا للجميع وقد لا يقدر عليه حتى أكبر الناجحين “تميزا” و”تفوّقًا”. في صيف 2023، أطلقت “دليس هولدينغ”، وهي إحدى أكبر المجموعات الاقتصادية الخاصة في تونس وتسيطر على أكثر من ثلثي قيمة سوق الألبان ومشتقاتها وحوالي نصف سوق العصائر، منتجًا جديدا في الأسواق وهو عبارة على كوب بلاستيكي يحتوي 250 مليلترًا من المياه المعدنية المعلّبة. فضلا عن سخرية المستهلكين، لاقَى المنتج الجديد فشلا ذريعا واختفى بعد مدة قصيرة من المحلات التجارية ولم يعد للظهور مجددًا. وهذا يعني أن شركة ضخمة لديها رأسمال هائل ووحدات إنتاج ضخمة وجيش من المختصين في التصميم والتسويق والدعاية فشلت حرفيا في بيع “كوب ماء”.