ستة عشر ألف دقيقة داخل “فرع فلسطين”


2024-12-23    |   

ستة عشر ألف دقيقة داخل “فرع فلسطين”
صورة لفرع فلسطين من الجوّ بعدسة تلفزيون "سوريا الآن"

لا أعرف إذا كان علي فرحات، ابن عمّي، هو الشخص الوحيد الذي خاض تجربة الاعتقال في كلّ من المعتقلات الإسرائيلية وأحد السجون السورية، لكنني أعرف جيدًا مواقفه الوطنية وجرأته ومدى إنكاره لذاته في معتقلَي العفولة وأنصار الإسرائيليين. فقد كنّا قد أُسرنا معًا، وأمضينا جنبًا إلى جنب كلّ فترة الاعتقال التي استمرّت سنة ونصف السنة.

لا يظننَّ أحدٌ منكم، عند قراءة هذا النص، أنّني بصدد المقارنة أو المفاضلة بين السجون السورية والإسرائيلية، أو تفاصيل الحياة والتعذيب داخل كلٍّ منها. إنّما الغرض هو وضع علامة استفهام كبيرة حول سؤال مشروع: كيف لمناضلٍ وأسيرٍ سُجن في المعتقلات الإسرائيلية أن يُجرَّ ويُسجن في واحدٍ من أعتى السجون في سوريا؟ هذا كان محور حديثنا عندما التقيت به في منزل شقيقته قرب بيدر قريتنا “جرجوع”، وكان هذا لقائي الأوّل به بعد الإفراج عنه من السجن السوري المسمّى “فرع فلسطين”. 

كان ذلك في العام 2005، حضر علي من فرنسا لزيارة أهله في جرجوع. مكث في القرية أيامًا عدّة قبل أن يقرّر القيام بزيارة قصيرة إلى سوريا بهدف السياحة والتسوّق، كما كان يفعل الكثير من أبناء القرية. واليوم، بعد سقوط النظام السوري وتحرير السجناء والمعقتلين ونشر بعض من معاناتهم وأساليب التعذيب وأوضاعهم، استأذنت عليًّا لكتابة شهادته، واستكمال قصته. 

قال لي وهو ينظر في اتجاه السماء: “بعد دقائق من وصولي إلى غرفة التحقيق في ذلك الفرع الملعون، شعرت بأنّني قد غمّست في حفرة مليئة بمزيج من الظلم والقهر والعذاب، أو، ربّما روحي قد طُلِيت بمزيج غريب من الرُّعب وخيبات الأمل. هنا ثمّة من يحقّق معي ويشتمني ويشتم أمي وأبي وأخواتي بلغة عربية صحيحة. هم ليسوا كالإسرائيليين الذين يضعون نقطةً فوق حرف الحاء عندما ينادونني “يا حمار” ولا يكسرون الحروف والكلمات، لذلك كانت الشتيمة تصل إلى أُذني نقيّة وواضحة. وبما أنّ الإسرائيليين لا يتقنون العربية، فإنّهم عندما كانوا يطلقون شتائمهم، كانوا يشعرون أنّهم قد أنجزوا جزءًا من مهمّة التعذيب بنجاح، على عكس القائمين على مهمّات التعذيب في السجون السورية، الذين كانت الشتيمة تنزلق من على ألسنتهم من دون جهد.

لا أعرف لماذا اعتقلوني عند نقطة المَصنَع. لو كنتُ قد قمتُ بأي عملٍ ضدّ الدولة السورية، لما تجرّأت على الذهاب إلى هناك. قال لي المحقّق لاحقًا إنّ لديه وثائق تثبت تورّطي في أنشطة مشبوهة ضدّ الدولة السورية، لكنني لا أعلم شيئًا عن تلك الوثائق ولا عن مصدرها. حاولت أن أوضّح لهم أنّني لم أقم بأيّ عملٍ معادٍ، وأنّ سفري إلى سوريا هو لغرضٍ شخصي بحت. لم يُبدوا أيّ اهتمام بتوضيحاتي، واستمرّوا في الضغط عليّ وكأنّهم يبحثون عن اعتراف بأيّ ثمن. في تلك اللحظات، شعرت أنّني في مواجهة قوّة لا تهتمّ بالحقيقة، بل تسعى فقط لتأكيد ادّعاءاتها، بغضّ النظر عن الأدلة الحقيقية.

قُبيل الإفراج عنّي، وكان ذلك بعد ضغوط من الجهات الحكومية الفرنسية المختصّة، كوني مواطنًا فرنسيًا، أفادني المحقّق بأنّ التقرير كان جاهزًا في أدراج المخابرات السورية منذ العام 1989، وبأنّ كاتبه ومعدّه كان شخصًا من قريتي. التهمة التي وُجّهت إليّ كانت “بعثي يميني”، وهو اللقب الذي كانت الأجهزة الأمنية السورية تطلقه على أعضاء ومناصري حزب البعث العراقي.

كان الأمر صادمًا بالنسبة لي، لأنّ التقرير كُتب قبل سنوات طويلة ولم أعلم بوجوده طيلة هذه المدة. تساءلت حينها عن الأسباب التي دفعت كاتب التقرير إلى تلفيق مثل هذه الاتهامات. فلو كنت قد قمت بأيّ نوع من هذه النشاطات، لكنت اعترفت اليوم بلا خجل ولا خوف، بخاصّة بعد سقوط هذا النظام.

ربما كان سقوط النظام فرصة لي لأرفع صوتي وأحكي قصتي، لكن ظلّ السؤال يلاحقني: كم من الأفراد غيري كانوا ضحايا لهذه الآلة المجرمة والجبّارة التي استمرّت، ولعقود طويلة، في طحن البشر بلا رحمة.

أوّل غيث تلك الضيافة التي استمرّت أحد عشر يومًا كان خلع كلّ ملابسي، وضع عصبة سوداء فوق عيوني، تقييد يديَّ إلى الخلف قبل أن يرميني أحدهم على سرير حديدي”.

تابع علي: “ثمّة فرق في الشكل والبنية واللون بين الذي أشرف على تعذيبنا في العفولة، أقصد الكابتن دوغي، وبين الذي تولّى أمري في السجن السوري واسمه عارف. فقد تلقّى نظرة من كبير المحققين هناك، ففهم من خلالها بأنّني أصبحت ملكًا لقراره ومزاجه ولسانه ويديه”.

وفقًا لكلام علي، كان كرباج عارف، والذي كان عبارة عن كابل كهربائي سميك، أضخم من كرباج دوغي، رغم أنّ دوغي كان طويل القامة، أشقر الشعر، أزرق العينين، بينما كان عارف يملك جسدًا معتدل البنية، أمّا عضلاته فتشبه “الكلّة الحلبية”، وهي نوع من الكُلل التي كنّا نلهو بها في طفولتنا، وعادة ما تكون أكبر حجمًا من الكُلل العادية. وكنا في جرجوع نطلق عليها اسم “الطسّ الحلبي”.

أبلغ عارف عليًّا بأنّه لن يبدأ بعقابه مباشرة، بل سيريه ما سيحصل له في حال عدم تعاونه معه أثناء التحقيق. ثم استدعى سجينًا آخر وبدأ بعملية حرق أجزاء من جسده بواسطة الكهرباء حتى تصاعد ما يشبه الدخان منه مع رائحة شواء كريهة، قبل أن يرميه في حضن علي، المرمي على سرير حديدي مجاور.

“لقد دخل الدخان المتصاعد من جسد ذلك المسكين كلّه في أنفي. كان لا يقوى على الصراخ. أبقوه في حضني لدقائق قبل أن يجرّوه سحلًا إلى الخارج”، قال.

أخبره عارف بأنّهم وببساطة يستطيعون الاعتداء عليه جنسيًا واغتصابه في حال عدم تعاونه معهم في التحقيق، وبأنّ ثمة جنودًا في السجن يقومون بهذا النوع من المهمات بكل سهولة. كان ذلك بعد أن سمع بأذنه أصوات نساء يتعرّضن للاغتصاب والتعذيب في الغرف المجاورة.

علي فرحات يروي شهادته في صحيفة فرنسية

لا أريد هنا سرد تفاصيل كلّ أنواع التعذيب وأساليبه الرهيبة، فقد يكون كافيًا ما قرأناه في “أدب السجون” السورية، وما سمعناه من الحكايات حول ما عاناه من بقي منهم على قيد الحياة، بالإضافة إلى أشياء ربّما لم يحصل ما يضاهيها حتى خلال العصور الوسطى أو في سجون كمبوديا في عهد بول بوت وجلاوزته.

قبل أن يُعتقل عليّ بأشهر قليلة في الفرع 235 في سوريا، كان قد تعافى من كسرٍ تعرض له في إحدى ساقيه، لكنه لم يكن قد شُفي تمامًا، إذ كان لا يزال يعاني من الألم فيها. وهنا بدأت معاناة أخرى لم يكن يتوقعها أو يحسب لها حسابًا.

لم أفهم قول علي لي: ‘العذاب والقهر في فرع فلسطين يبدأ بعد انتهاء المحقق من تعذيبك”، إلا عندما حدثني عن حياته في تلك الغرفة ذات الاثني عشر مترًا مربعًا، بعد أن رماه عارف داخلها.

في تلك الأمتار المربّعة، وجد نفسه بين حوالي خمسين سجينًا، كان ثلثهم واقفًا، والثلث الثاني يجلس القرفصاء، والثلث الأخير نائمًا. وهكذا كانت تُدار الأمور: الثلث الواقف ينتظر انتهاء حصة النوم الخاصة بالثلث المستلقي، والتي كانت مدتها ثماني ساعات، كي يحلّ مكانه. أما فترة الساعات الثماني الثالثة، فكانت تشكل مرحلة ما بين الوقوف والنوم. وهكذا كان يدور كلّ سجين خلال ساعات يومه.

كان النوم يتمّ بطريقة يسمّونها “التسييف”. كان على كلّ سجين أن يستلقي على جانبه كشرط أوّل، لأنّ الاستلقاء على البطن أو الظهر يشغل مساحة لا يستطيع ذلك العدد الكبير تحمّلها. أما القاعدة الأخرى، فهي أن يستلقي كلّ سجين ويضع رأسه بعكس اتجاه رأس المُلتصق به، أي عند أرجله، وهذا ما نسميه باللغة العامّية “كعب وراس”. وكلّ ذلك كان يُنَسّق بشكل سريع قبل أن يقوم أحد المساجين، والذي عادةً ما يكون من أصحاب البنية القوية ويسمّونه “الكبّيس”، بعملية “كبس النائمين”، حيث يضغط برجله على صدورهم وظهورهم لمحاولة حشرهم قدر الإمكان باتجاه جدار الغرفة، وذلك من أجل توفير أكبر قدر ممكن من المساحة للثلث الواقف أو الثلث الذي يجلس القرفصاء.

منذ صغره، كان علي يمتلك موهبة غريبة في التعرّف على طبيعة عمل الناس أو ماهية وظائفهم من خلال النظر إلى وجوههم، وطريقة سيرهم، وأسلوب كلامهم، وأحيانًا عبر حركة أجسادهم. موهبة فريدة لم أصادف أحدًا غيره يمتلكها. وأمام ناظري وفي حضوري، نجح في معرفة طبيعة عمل أشخاص غرباء عنّا صادفناهم، لا أذكر إن كان ذلك قد حدث في صيدا أم في النبطية. بالإضافة إلى ذلك، كان لديه شغف خاص بإحصاء المتواجدين في أي تجمّع أو مناسبة. أذكر كيف أحصى السائرين خلف جنازة جدّي بعد أقل من دقيقة على انطلاقها، وقال لي حينها: “المجموع هو اثنان وخمسون”.

بعد أن رُمي داخل الغرفة المشؤومة في السجن، استطاع إحصاء خمسين شخصًا. قال لي إنّ قدرته على اكتشاف طبيعة عمل هؤلاء أو ماهية وظائفهم خارج السجن قد تعطّلت داخله، حيث بدت جميع الوجوه متشابهة، وكلّ قسماتها متشابهة، بل حتى لونها الذي أصبح مائلًا إلى الصفار الشاحب.

وجوه لم تلتقِ نور الشمس لسنوات، وبعضها لعشرات السنين. أجساد نحيلة كأنّها أكوام من العظام المغطاة بجلد أصفر. عيون خاوية لا أمل ولا رجاء يلوح في داخلها، بدت وكأنّها اعتادت فكرة أنّ الدنيا تدور هناك، بعيدًا عنها، وأنّها أصبحت مجرّد ظلال منسية في هذا المكان.

قال لي علي إنّ فقدان الأمل في الخروج من ذلك الجحيم دفع المعتقلين إلى تدوين أسمائهم وتواريخ ميلادهم وأسماء قراهم أو مدنهم على جدران الغرفة، علّ أحدًا يخبر ذويهم عن مصيرهم يومًا ما. وعندما سألته إذا كان قد دوّن اسمه قرب أسماء البقية، قال لي إنّ امتلاكه للجنسية الفرنسية جعله يشعر بأنّه لن يُترك هناك، بخاصّة بعد نجاحه في إيصال خبر عبر هاتفه الفرنسي إلى زوجته عند توقيفه، وقبل أن يصادروه منه.

خلال الأحد عشر يومًا التي أمضاها في “القاووش” كما يسمّونه هناك، وقبل نجاح الجهات الفرنسية بشقّيها الرسمي والمدني في الضغط على السلطات السورية للإفراج عنه، ذاق علي مرَّ الاعتقال الحقيقي.

قال لي: “كانوا يأتوننا بالطعام داخل وعاء من التوتياء، وكان علينا أن نأكل منه جميعًا. كنّا نهجم عليه كما يهجم سرب من سمك السردين على قطعة خبز، ولكلٍّ حسب قوته وسلطته في الحصول على الحصة الأكبر”. تابع علي روايته قائلًا: “لقد توصّلت إلى اتفاق مع سجين كنت أنام إلى جانبه، بأن أعطيه نصف ما أستطيع الحصول عليه من طعام مقابل السماح لي بأن أضع ساقي المكسورة فوق جسده كي لا تؤلمني”، وهكذا استطعت أن أخفّف من بعض الألم الذي بدأ يتسرّب إلى جسدي وعظامي من جديد.

“وما الحدث الذي رأيته هناك وما زال يسكن ذاكرتك؟” سألته قبل إنهاء حديثي معه.

أجاب: “عندما كنت في القاووش، فُتح الباب ورأيت عارف يدفع جسدًا هزيلًا إلى الداخل. لاحظت أنّ معظم المعتقلين في الداخل يعرفونه. بعد قليل، عرفت أنّه غاب عن القاووش لأكثر من سنة كاملة، وأنّه كان في زنزانة انفرادية طوال هذه الفترة. وعندما سألت عن طبيعة الزنازين الانفرادية هناك، قالوا لي إنّها عبارة عن غرفة بحجم تابوت، بداخلها لوح معدني عارٍ ووعاء معدني واحد يُستخدم لقضاء الحاجة ولتلقّي وجبات الطعام”.

بعد أحد عشر يومًا، نجح الفرنسيون في إطلاق سراح مواطنهم علي فرحات، رغم كل العراقيل التي حاولت السلطات السورية وضعها عبر تلفيق تهم باطلة. كان مُعِدّ التقرير الكاذب، والذي يُقسِم علي أنه سيحصل على اسمه، قد جنّد كل طاقته للإيقاع به. ولولا امتلاكه للجنسية الفرنسية، لكان اليوم في عداد الموتى، كما قال.

وعندما سألته: “هل كل السجون تشبه بعضها؟” أجاب بشكل حاسم: “لا”. ثم تابع: “تجربتي في السجون الثلاثة أوصلت قناعتي إلى هذه النتيجة”.

الثلاثة؟ وأين هو الثالث؟ قال: “ألم أخبرك بأنني سُجنت أيضًا، ولعدة أيام، أثناء دراستي الجامعية في العراق؟”.

قلت له: “نلتقي في الصيف القادم في جرجوع ونتحدث عن قرب!”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، سوريا ، احتجاز وتعذيب



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني