في الثالث من أغسطس الجاري وجّه رئيس الجمهورية المصرية عبد الفتاح السيسي بضرورة رفع سعر رغيف الخبز البالغ منذ عقود 5 قروش، “أنا بقولها على الملأ كده، جِه الوقت إنّ رغيف العيش أبو 5 صاغ ده يزيد تمنه”. بعدها بأيام قليلة أبدى اتحاد الغرف التجارية ترحيبه برفع السعر، وأعلن عن عزمه دراسة رفعه إلى 20 قرشاً. وأشار السيسي في معرض حديثه عن زيادة سعر الخبز، إلى حاجة الدولة إلى تمويل وجبات تغذية مدرسية صحية أكثر للأطفال، لمواجهة مخاطر سوء التغذية من سمنة وتقزّم وأنيميا؛ وهو ما فسّره البعض بأنّ المبالغ الناتجة عن زيادة السعر ستستخدم لتمويل هذه الوجبات. على خلفية ذلك، اندفع سيل من التحليلات الاقتصادية والسياسية لهذا القرار. فحذّر باحثون ومتخصّصون من التبعات الاجتماعية له، وطرح كثيرون من بينهم أشخاص من عموم المواطنين مقارنات بين مستحقّات دعم الخبز وبين العديد من المؤشرات الأخرى كالضرائب ومستويات الفقر والجوع، لا سيّما مع عجز دعم التغذية المدرسية عن تغطية كافة أفراد الأسرة المصرية وفئات الشعب.
وهنا نشير إلى أنّها ليست المرّة الأولى التي تتّجه فيها الدولة إلى رفع الدعم على الخبز، حيث قلّلت، في وقت سابق، وزن الرغيف.
بالتالي، لا نناقش هنا توجّه الدولة إلى رفع الدعم، لأنّ هذا أمرٌ بات معلوماً للجميع، ولكن نركّز على اختيار الدولة لصياغة قرارها هذه المرّة بأنّه “إعادة توزيع الدعم الغذائي على نحو أفضل” استناداً إلى من تعتقد بأنّهم يستحقّون للدعم، من دون أيّ نقاش حول دقّة هذا الاعتقاد، أو حول نجاح الممارسات السابقة للدولة في تحقيق “وصول الدعم لمستحقيه”.
“إعادة تعريف الاستحقاق”: حُجّة مكرّرة؟
منذ 2017، حذفت منظومة الدعم 10 ملايين شخص أي 5 مليارات جنيه من دعم الخبز وحده، بحسب وزير التموين علي مصيلحي. جاء الحذف بناءً على مبدأ الاستحقاق الذي تعوّل عليه الدولة دائماً حين تجري تغييرات في منظومة الدعم. وضمن تغييرات أجرتها عام 2014، فعّلت الدولة نظام “فارق نقاط الخبز” أي استبدال وتعويض المواطن عن كلّ رغيف لم يصرفه بـ 10 قروش، تُجمَع على بطاقة التموين لشراء سلع أخرى من سلّة المواد التموينية المدعومة. يهدف فارق نقاط الخبز إلى تقليل استهلاكه، توفيراً “للهدر” من الدعم المصروف عليه، وهو ما يحول دون وصوله للمستحقين. يعكس تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامّة والإحصاء انخفاضاً فعلياً في استهلاك الخبز، إذ يقدّر متوسّط نصيب الفرد في اليوم من الخبز المدعوم بـ 2.7 أي ما يقارب نصف الكميّة المخصّصة له وقدرها 5 أرغفة.
أشاد الوزير مصيلحي نفسه سابقاً بقدرة هذه التغييرات على تقليص حجم الدعم الذي تنفقه الدولة على الخبز وتقليل تسرّبه إلى غير المُستحقّين. وهو ما يطرح تساؤلاً حول استخدام “وصول الدعم لمستحقيه” ثانية كهدف لتقليل الدعم المنتظر تطبيقه؛ لو أنّ السياسات السابق الإشارة إليها نجحت بالفعل في إيصاله إلى مستحقيه وقضت على تسرّبه، مثل ما روّجت الحكومة في السنوات القليلة الماضية؛ فلماذا تُعيد استخدام حجّة “تسرّب الدعم لغير المستحقين” نفسها لتبرّر قرارها الجديد؟
سبق أن وثّقنا في تقرير في مارس من العام الجاري كيف أثّر مبدأ الاستحقاق على تضمين وحذف المواطنين، استناداً لمعايير حدّدتها وزارة التموين وهي زيادة استهلاك الكهرباء عن ألف كيلوواط شهرياً، وتجاوز فاتورة الهاتف المحمول ألف جنيه شهرياً، وامتلاك المستفيد سيارة من طراز 2014 وما بعد، أو أن يكون من موظفي المناصب العليا، مثل رئيس مجلس إدارة شركة، أو عضو مجلس إدارة، أو محافظ. لم تتغيّر تلك المعايير إلى الآن، لكنّ قرار رفع سعر الخبز يعيد مرة أخرى تعريف المُستحقّين، بصفتهم قادرين على دفع أربعة أضعاف ما كانت تدفعه الأسر ذاتها من قبل، وإن لم ترتبط هذه القدرة بأي تغيير في نسب الدخل لديهم.
ترصد الأرقام الرسمية أنّ حوالي نصف الـ 70 مليون مواطن من مستحقي الخبز قبل هذا القرار (قيد الدراسة)، ينتمون إلى طبقة الفقراء، ممّن ليس لديهم القدرة على توفير الاحتياجات الأساسية للفرد/للأسرة، وفقاً لتقرير المركزي الصادر في 2017/ 2018، أي قبل أزمة فيروس كورونا، والتي أدّت إلى هبوط أعداد أكثر إلى مستوى الفقر. وتوقعت دراسة لمعهد التخطيط القومي زيادة عددهم إلى ما بين 5.6 و12.5 مليون فرد خلال العام المالي 2020 – 2021. وهو ما يبرز احتمال زيادة الفقراء عن النسبة المتوقعة في الدراسة المنشورة في مايو من العام الماضي أي قبل رفع سعر الخبز. يمكننا تقدير الزيادة في عدد الفقراء بإضافة نسبة 9% إلى النسبة التي قدرتها ورقة للبنك الدولي صدرت بعد أزمة الغذاء العالمية بحوالي عامين، لمعرفة دور الإعانات الغذائية وعلى رأسها الخبز في حماية المصريين من الفقر. فيصبح إجمالي نسبة الفقر المتوقع ما بين 14.6 و21.5.
استحقاق الحماية
بالنسبة للنصف الثاني من الـ 70 مليون المستحقين للخبز إلى الآن، ترتبط قدرتهم على البقاء ضمن غير الواقعين تحت خط الفقر بشمولهم ضمن فئة الحاصلين على الدعم. ويشير العديد من الخبراء الاقتصاديين إلى أنّ توسيع الدعم ليشمل شرائح أكبر من الأكثر فقراً هو في حدّ ذاته دمج لهذه الشرائح الأخيرة، وحماية للشرائح الأخرى الأكبر منها والمتوقّع وقوعها تحت خط الفقر بمجرّد حدوث أي تغييرات اقتصادية مفاجئة تعيد تغيير حجم الدخل مقارنة بحجم الإنفاق. ونقل الباحث صقر النور في تقرير نشره موقع “مدى مصر” عن كبار باحثي الاقتصاد أنّ “سياسات استهداف الفقر عندما تكون عمومية يستفيد منها الفقراء بصورة أكبر ممّا لو كانت شديدة المحدودية، وهو الأمر الذي يفاقم من صعوبة وصول الفقراء للدعم أو بمعنى آخر تسرّب الفقراء من الدعم”.
يحتاج ذلك إلى تضمين الدعم كجزء من شبكة حماية اجتماعية، تتجاوز توفير حدّ الكفاية. كما يشترط في شبكة الحماية هذه تجاوز الأزمات الطارئة، بحيث يتحوّل إلى “دمج اجتماعي”، على حد وصف أستاذة الأنثروبولوجيا هانيا الشلقامي، إحدى مصمّمات برنامجَيْ تكافل وكرامة للدعم النقدي المشروط والمُفعّل منذ 2014. تُعرّف هانيا الشلقامي الدمج الاجتماعي بأنّه شكل حماية يتيح الاحتياجات المستقبلية وليس فقط الآنية.
في هذا الشكل، يتوقّف تسليع الحقوق الأساسية من صحّة وتعليم وخلافه، وتصبح مُستحقَّة لجميع المواطنين بلا تفرقة. وتعتبر هانيا الشلقامي الإبقاء على الدعم المعمّم أحد صور الدمج الاجتماعي. وتشير إلى أنّ تحقيق الحماية الاجتماعية، يتطلّب وجود مجموعة من القرارات والسياسات المتكاملة في كافّة القطاعات مثل السكن والغذاء، يمثّل الخبز أحد صور الدعم الغذائي اللازم، تجنّباً لسقوط الشرائح المهدّدة اقتصادياً في براثن الفقر.
في حديثها إلى “المفكرة القانونية”، تتفق الصحافية والباحثة الاقتصادية بيسان كسّاب التي أجرت الحوار مع هانيا الشلقامي على وصف تأثير قرارات رفع الدعم عن السلع، ومنها الخبز بالـ “إفقار”. يزيد هذا الإفقار من حجم الشرائح والأعداد المُحتاجة للانضمام إلى برامج الدعم النقدي الموجّه مثل “تكافل” و”كرامة”، وتقلّل من قدرة البرنامجين على تغطية كافة الفئات المحتاجة بما يُضعف من فاعليّتها. وتؤكد بيسان كسّاب أنّه مع استمرار قرارات رفع الدعم، تزيد الحاجة إلى برامج أكثر على شاكلة “تكافل” و”كرامة”، وهو ما لا يستطيع البرنامجان وحدهما عمله حتى الآن.
أضف إلى أنّ برامج الدعم النقدي الموجّه هي برامج دعم مشروط بمواصفات محدّدة، فمثلاً برنامج “تكافل” يدعم الأسر التي تضمّ أفراداً في مراحل التعليم، و”كرامة” يدعم كبار السن ومن ليس لديهم قدرة على العمل، وهكذا يتحتّم على الساعين للانضمام إلى برنامج دعم نقدي أن يكونوا مطابقين للمواصفات المنصوص عليها بالبرنامج نفسه، ما يعني حاجة دائمة إلى استحداث برامج دعم نقدي توجّه لكل شريحة من الفقراء تجمع بينها خصائص محدّدة واحتياج معيّن.
على هذا النسق، تشبّه بيسان كسّاب “الدفاع عن القرارات اللي بتقلّل الدعم أو تلغيه تدريجياً بحجّة وجود برامج دعم مخصّصة للفقراء كما لو أنّ أحداً يرفع الدعم، فيزيد الفقراء، فيصمم برامج لاحتواء زيادة هؤلاء الفقراء”، وبرغم من المخالفة المنطقية التي ينطوي عليها هذا التسلسل أو غياب الصواب فيه، إلّا أنّنا وإن وافقنا عليه كطرح بديل للقرارات الحكومية لرفع الدعم فلن نجده معمول به حتى اللحظة. تتابع بيسان كسّاب “ليس لدى برامج الدعم النقدي الموجّه القدرة على تغطية الفقراء الذين أسفر عنهم رفع الدعم السلعي، كما أنّ الحكومة لم تتعهد بمقابلة هذا بذاك”. هكذا يبدو المستحقّون غير قادرين على تحمّل عبء رفع السعر، إذاً من يستفيد من قرار الزيادة؟
وفقاً لوجهة النظر الرسمية، الأطفال هم المستفيدون، حيث هناك حاجة إلى تدارك تبعات سوء التغذية على صحّتهم تستدعي المساس بحقوق باقي أفراد الأسرة في الحصول على الخبز بالسعر الحالي. إذا وافقنا على وجهة النظر هذه، فيجب الإشارة إلى أنّ التغذية المدرسية توفّر وجبة واحدة صحّية للطفل داخل المدارس الحكومية في 75 يوماً أو حتى 150 يوماً، وفقاً للسيسي، ولكنّ الطفل نفسه لن يستطيع الحصول على باقي الوجبات في باقي الأيام إن لم يكن لدى أسرته القدرة الشرائية على تعديل نمط التغذية ليوافق الوجبة المدرسية. الأهم أنّ حتى التركيز على مواجهة سوء التغذية عند الأطفال، لا بدّ أن يصاحبه اهتمام بالأمهات اللاتي تتحمّلن الجزء الأكبر من نقص الطعام وجودته، ما يؤثّر عليها وعلى أطفالها بالتبعية ولا سيّما في مراحلهم العمرية الأولى، وهي المراحل نفسها التي تتضاعف فيها أمراض التقزّم والأنيميا إلخ.
تقليل الإنفاق من نصيب الدعم
أوضح السيسي “بنتكلّم في 8 مليار جنيه، بقول من دلوقتي للحكومة هنقدر ندبر المبلغ ده؟”. ردّ السيسي على سؤاله للحكومة بالإيجاب “آه”. وأشار إلى مصدرين لتمويل التغذية المدرسية، وهما: الاستقطاع من الوزارات ورفع سعر الخبز.
بالنسبة للدولة، يتعلّق أمر الاستقطاع بالعجز المالي. ويقول السيسي: “أنا دايماً باجي عند الفلوس وأتوقّف. ليه؟ لأنّ كلّ المسائل اللي مرتبطة بأيّ نشاط إحنا عايزين نعمله هو تكلفة مالية، يا اتوفّرت التكلفة المالية، مش كدة يا دكتور مصطفى؟ هنستمر، ما توفّرتش هتقع منّنا الموضوع”. إذاً ربط هنا الرئيس بين العجز المالي للحكومة وبين إعادة تعريف استحقاق الخبز برفع ثمنه، كوجه آخر لنجاح تمويل بند التغذية المدرسية من عدمه. فهل ترتبط مُعالجة العجز المالي حقّاً بالخبز؟
يقدّر الإنفاق على دعم الخبز بالموازنة الحالية بأقلّ من 2.5% من إجمالي المصروفات، وحجمه 44.8 مليار جنيه. في حين يستحوذ بند فوائد الديون وحده على 579.5 مليار جنيه، أي 31.5% من المصروفات. في سياق هذه النسب وتكاليفها المالية يبدو مبلغ الـ 8 مليارات اللازمة لتمويل التغذية المدرسية، من الصعب تأمينه بالموازنة الحالية، لا سيّما وأنّ السيسي أشار إلى احتمال استقطاع نسبة من كلّ وزارة لتوفير المبلغ، وبالتالي يمكن تأمينه من دون أن يأتي على بند دعم الخبز الذي، حتى وإن اضطرّت الحكومة لتقليص الإنفاق لصالح التغذية المدرسية، لا تضعه ضمن أوّل البنود المرشحة للاقتطاع منها.
أما في حال الإصرار على رفع سعر الخبز يمكننا توقّع هبوط الدعم الحكومي المخصّص للخبز إلى 30.5 مليار جنيه، باحتساب نسبة مشاركة المواطنين في تحمّل تكلفة متوسّط حجم الخبز المُنتج يومياً وهو 260 مليون رغيف تقريباً، وفق تصريح وزير التموين، بعد زيادة ما يدفعه المواطن من 5 قروش إلى 20، بناءً على اقتراح اتحاد الغرف التجارية. يعادل خفض دعم الخبز بهذه الحالة حوالي 14 مليار جنيه، وليس فقط 8 مليارات.
عملياً، لا يتعلّق اختيار استقطاع تمويل التغذية المدرسية من بند دعم الخبز، بقدرته المالية الكبيرة، بل بتكريس مبدأ خفض استحقاقات الدعم التقليدية والثابتة منذ عقود، ما تعبّر عنه بيسان كسّاب بـ “إحدى حلقات تعديل نظام الدعم التمويني، وليست الحلقة الأولى، وإن كانت أكثر الحلقات لفتاً للنظر. يعزّز تمتّع الدولة بحرية اتخاذ القرارات بشأن الدعم حالياً، من رؤية رفع الدعم كسياسة اختارتها الدولة من دون ضغط أو إجبار استُخدم سابقاً لتبرير قرارات اقتصادية قاسية في السنوات الماضية باعتبارها جزءاً من شروط البنك الدولي للحصول على قروض مالية منه”.
لذلك، لا يمكن تفسير رفع سعر الخبز بمعزل عن تقييم منظومة الدعم ككل، بدءاً من دعم السلع البترولية ثمّ المياه والكهرباء، إلى أن تمّ القضاء على كافة أشكال الدعم الموجّه للكهرباء والماء، باستثناء بعض الحالات الاستثنائية ضمن السلع البترولية. فوفقاً لبيسان كسّاب إنّ “منظومة دعم الغذاء لدينا مركّبة”؛ تجمع بين النقدي والسلعي. في العقد الأخير، يجري التحوّل بقوّة نحو تغيير منظومة الدعم من دعم سلعي بشكل كامل إلى دعم نقدي، من دون تمكين المواطنين حتى الآن من الحصول عليه في صورة مبلغ مالي. فتنحصر نقدية النظام الحالي في تحديد لحجم الدعم بحزمة نقدية معيّنة لا يحصل عليها المستفيد إلّا في شكل سلع، وعلى هذا النحو لا هو دعم سلعي ولا نقدي. في الوقت نفسه، يساهم هذا التحوّل المركّب في فقدان الدعم لقيمته مستقبلاً مع زيادة سعر السلع.
نظرياً، تعرّف الدولة التحوّل نحو رفع الدعم بصفته إعادة توزيع، بينما هو تقليل للإنفاق المالي على الدعم. وهنا تستشهد بيسان كسّاب بحالة الحاجة إلى تمويل الوجبات المدرسية، للدلالة على واقعية تحليلها بالقول إنّه “لا يوجد لدينا أيّ دليل على أنّ مصاريف الوجبات المدرسية سوف تعادل قيمة الدعم المنتظر رفعه عن الخبز”.