أثار قرار تعاونية موظفي الدولة الصادر في 2 نيسان 2024 زيادة المنح الدراسية لموظفي القطاع العام المنتسبين للتعاونية بعد دعم تلقّته من الدولة بقيمة تبلغ بنحو 157 مليون دولار، بنسبة 50 ضعفًا عما كانت عليه في العام 2021-2022، جدلًا كبيرًا في البلاد، بين مرحّب ومعترض.
يستند المرحّبون إلى حق الموظفين في رفع قيمة المنح التي كانت تدفع على سعر 1500 ليرة، وإنصافهم لتمكينهم من منح أبنائهم تعليمًا جيدًا في ظلّ أزمة غير مسبوقة تضرب التعليم الرسمي وتؤثّر على مستواه، كما على حقهم في اختيار المدرسة التي يريدون لأبنائهم.
ويبرر المعترضون موقفهم بمعطيَيْن: يركّز الأول على أنّ هذه المنح تذهب إلى جيوب أصحاب المدارس الخاصّة غير المجانية ورعاتها من طوائف وزعماء، وتؤكد نظرية القائلين إنّ الدولة، بمؤسّساتها العامّة كافة، هي المموّل الرئيسي للتعليم الخاص على حساب دعم التعليم الرسمي الذي يغطّي شرائح المجتمع كافة من جهة، ويقيم المساواة الحقّة بين الجميع، ويساهم في تنشئة أجيال هم أبناء الدولة ويحملون قيمها، وليس رعايا في طوائف وأتباع لزعماء.
المعطى الثاني لأسباب الاعتراض على القرار هو أنّ المدارس الخاصّة غير المجانية ستُتبِع زيادة قيمة المنح بمزيد من رفع أقساطها المرتفعة أصلًا من جهة، وفق رئيسة اتحاد الأهل وأولياء الأمور في المدارس الخاصّة، لمى الطويل، وأنّها (المدارس الخاصّة) لا تصرف هذه الزيادة والأموال الإضافية المتأتية على تحسين رواتب المعلمين فيها ولا على تحسين مستوى التعليم ومتطلّباته، وأيضًا لا تدفع لصندوق تعويضات الأساتذة المتقاعدين في التعليم الخاص الذين يعيشون في أوضاع مزرية بعد فقدان رواتبهم التقاعدية قيمتها نتيجة انهيار الليرة اللبنانية.
والأهم، يستند المعترضون إلى كون سلوكيات المدارس هذه تخالف القانون الرقم 515/96، الذي يحدد كيفية تنظيم الموازنة المدرسية والأقساط، في ظلّ غياب مراقبة الموازنات والاقساط. فإدارات المدارس تضع فعليًا زيادات عشوائية وغير مراقبة على الأقساط، وتستوفي قسمًا كبيرًا من أقساطها بالدولار رافضةً إدراجها في الموازنة، حيث تكتفي بالتصريح فقط عن القسط الذي تتقاضاه بالليرة اللبنانية، مدرجة أقساطها بالدولار على شكل مساعدات وهبات. كما تخالف المادة 2، من القانون عينه، التي تحفظ توزيع النسب بين مختلف بنود الموازنة القائمة على 65% تخصّص لرواتب وأجور المعلّمين و35% هي للنفقات التشغيلية للمدرسة، من ضمنها 6% مساهمة المدارس في صندوق التعويضات.
وكانت النائبة السابقة بهية الحريري قد تقدّمت في العام 2021 باقتراح قانون يرمي إلى تجميد العمل بهذه المادة، ما دفع باتحاد لجان الأهل إلى الاعتراض كون التعديل المقترح يعطي الضوء الأخضر للمدارس برفع نفقاتها الخاصة وأقساطها من دون تحديد سقوف، ويعطي مشروعية للمدارس بقوننة كل المخالفات، ما دفع بوزير التربية عباس الحلبي، وإثر احتجاجات ورفض المعنيين، إلى سحب الاقتراح من الجلسة التي عقدت في 21 شباط 2022.
يحيى خميس، مدير عام تعاونية موظفي الدولة، يعتبر في اتصال مع “المفكرة”، أنّ رفع المنح جاء تماشيًا مع ارتفاع كلفة التعليم بشكل جنوني، وأنّ التعاونية خصّصت مبلغ 4750 مليار ليرة لبنانية أي حوالي (53 مليون دولار)، من أصل 14 ألف مليار ليرة لبنانية (أي حوالي 157 مليون دولار) خصّصتها الدولة كمساهمة لصندوق التعاونية في موازنة العام 2024، لدعم المنح المدرسية للمنتسبين للتعاونية والبالغ عددهم حوالي 85603 منتسب (بينهم متقاعدون)، تقدّم منهم في العام 2022 حوالي 16868 ألف موظف بطلب منح لأولادهم.
ويعود إقرار المنح المدرسية لموظفي القطاع العام إلى عهد رئيس الجمهورية الراحل كميل شمعون، حيث كان الصراع بين أصحاب المدارس الخاصة التابعة للطوائف ومنها المدارس الكاثوليكية والساعية إلى الحصول على دعم الدولة على حساب التعليم الرسمي في أوجه، وحينها رضخت السلطة السياسية للضغوطات، وجاءت المنح التعليمية تحت ذريعة أن التعليم حق للجميع، وأن المدارس الرسمية في البلاد لا تستوعب جميع التلامذة.
تسلّط “المفكرة” في هذا التحقيق الضوء على أثر رفع المنح في رفع الأقساط المدرسية، ومخالفة المدارس للقانون 515/96 في التصريح عن موازنتها وحرمان المعلمين من حقوقهم والمتقاعدين من الحياة الكريمة، من جهة، وحجم الأموال التي تذهب عبر المنح التعليمية لدعم القطاع الخاص من جهة ثانية.
مخاوف من زيادة الأقساط ومخالفات للقانون 515
في وقت متأخّر من ليل الثلاثاء 2-4-2024، أصدرت تعاونية موظفي الدولة قرارًا ضاعفت بموجبه منحة التعليم لموظفي الإدارات العامة للعام الدراسي 2023 -2024 خمسين مرة عما كانت عليه في العام الدراسي 2022-2021 حيث كانت المنح تحتسب على دولار 1500، لتتراوح قيمتها في المدارس الخاصة بعد الزيادة ما بين 102 مليون ليرة (1146 دولار) في مرحلة الروضة، و171 مليون ليرة (1921 دولار) في المرحلة الثانوية. أما منح الطلاب في الجامعة اللبنانية فبلغت 113 مليون ليرة (1269 دولار)، ووصلت منحة طلاب الجامعات الخاصة حد 271 مليون ليرة (3000 دولار) في جميع الاختصاصات، ما عدا الطب والهندسة والصيدلة فبلغت 338 مليون ليرة لبنانية (3797 دولار).
تعتبر نوال نصر، رئيسة رابطة موظفي القطاع العام، الزيادة إنجازًا كان بعيد كل البعد عن توقعات الموظفين، علمًا أنّه في ظلّ غياب الإحصاءات الدقيقة فإنّ عدد الموظفين في الإدارات العامة وحدها هو 15 ألف موظف، منهم 3000 متعاقد يستفيد من المنح التعليمية، و2000 أجير لا يستفيدون من المنح.
ويُخشى أن تستغل المدارس زيادة المنح لرفع أقساطها وهو ما حصل في العام الدراسي 2023-2024 بعد أن رفعت المنح المدرسية خمسة أضعاف عنها في العام 2021، فارتفعت أقساط المدارس، إذ على سبيل المثال ارتفعت أقساط مرحلة الروضات في بعض المدارس من مليوني ليرة في العام 2021 إلى عشرة ملايين ومئتي ألف ليرة في العام 2023.
وبالفعل فقد أعلنت بعض المدارس عن رفع أقساطها، إذ رفعت إحدى المدارس في بيروت القسط للمرحلة الابتدائية، من أربعة آلاف دولار وحوالي 80 مليون ليرة لبنانية (900 دولار) في العام الدراسي 2023-2024 إلى 5 آلاف دولار و100 مليون ليرة في العام الدراسي المقبل 2024-2025.
وعلى الرغم من أنّ رفع قيمة المنح يؤدي إلى زيادة في الأقساط المدرسية، إلّا أنّ الارتفاع لا ينعكس زيادة على رواتب المعلمين في الخاص البالغ عددهم حوالي 45 ألفًا بين ملاك ومتعاقدين، ويجب، وفق القانون وسلّم صرف الموازنة المدرسية، أن تشكل قيمة رواتبهم 65% من ميزانية كلّ مدرسة، ولا تنعكس الزيادة أيضًا على صندوق التقاعد الذي يُخصّص له، وفق القانون، 6% من موازنات المدارس الخاصة.
وتقول الطويل إنّ زيادة الأقساط يجب ألّا تتجاوز 10% من قسط العام الماضي بعد إجراء “قطع حساب” للعام المنصرم، لمعرفة ميزانية المدرسة وتحديد القسط على أساسها “هلق عم يشلفوا شلف” فلا أساس علمي لزيادة الأقساط ونسبتها”.
وتتساءل الطويل عن الأسس العلمية التي يتمّ على أساسها احتساب أو تحديد المنح بشكل عام في ظلّ غياب موازنات دقيقة للمدارس وفرض أقساط عشوائية، “على أي أساس يتم تحديد المنح المدرسية، ولا في موازنات ولا محاسبات رشيدة والأقساط كلها غير قانونية؟”.
وتشرح أنّ المدارس تقوم بتجزئة أقساطها بين مبلغ بالليرة اللبنانية وهو منخفض ومبالغ مرتفعة بالدولار، وأنّها خلال تقديم موازنتها للوزارة تُصرّح فقط عن قسطها الذي بالليرة اللبنانية، استنادًا إلى أنّ الأقساط يجب أن تحصل بالليرة اللبنانية فقط، فيما يتمّ تصنيف القسط المستوفى بالدولار كمساعدات، وهذا يخالف المادة الأولى من القانون 515/96 الرامي إلى تنظيم موازنة المدارس التي تنص على أنّ كلّ ما تستوفيه المدرسة من الأهل هو من ضمن القسط: “المبالغ لي عم يتقاضوها بالدولار غير مصرّح عنها لوزارة التربية، ولا عم تروح للمعلمين”. وتشدّد على أنّ واجب إدارات المدارس التصريح عن كامل أقساطها من الدولار واللبناني، عبر تحويل قسطها الذي بالدولار على سعر الصرف الحالي، والتصريح عن ميزانيتها كاملة لوزارة التربية. وإذ تنصّ المادة الثانية من القانون على أنّ الموازنة تقسم بين 65% رواتب وأجور و35% نفقات تشغيلية، فإنّ نسبة الرواتب تُحتسب على الموازنة بالليرة اللبنانية المصرّح عنها فقط.
رفع المنح لا يترجم رفعًا لرواتب المعلّمين
يشير محفوض إلى أنّ 80% من المدارس الخاصة في لبنان يتقاضى معلّموها 30% من رواتبهم بالدولار، و10% من المدارس يتقاضى أساتذتها 15% من معاشاتهم بالدولار، و10% يتقاضون 60% من رواتبهم بالدولار. ويضيف أنّ اتفاقًا عُقد العام الماضي بين نقابة المعلمين من جهة والمدارس الخاصة من جهة ثانية، بأن يتم رفع رواتب الأساتذة تباعًا على مدى 3 سنوات للوصول لنسبة 100% دولار، بشكل يستعيد فيه المعلّم قيمة راتبه تدريجيًا، إلاّ أن المدارس لم تلتزم بالاتفاق.
ويشير محفوض إلى أنّ هناك تقصيرًا فادحًا من قبل لجان الأهل الذين لهم دور أساسي في مراقبة ميزانية المدارس والوقوف عند حق الأساتذة بنسبة 65% منها، وعدم التوقيع على موازنات مدارس لا تراعي هذا الحق، معتبرًا أنّ معظم لجان الأهل يعيّنها مدراء المدارس ولا تمارس دورها الرقابي.
بدورها، تؤكد الطويل أنّ دور لجنة الأهل هو مراقبة الأقساط، ويمكنها في حال لم توافق على الأقساط، أن ترفض التوقيع على موازنات المدارس التي تقدّمها إلى وزارة التربية، كذلك يمكن للجنة الأهل الاعتراض لدى الوزارة، وصولًا إلى تقديم شكوى أمام قاضي العجلة، ولكن في غياب المجلس التحكيم التربوي غير المشكّل فإن الشكاوى توضع في الجوارير.
من جهة ثانية يربط محفوض بين زيادة المنح ورفع الأقساط وبين تمويل صندوق التقاعد الذي يضم حوالي 6000 أستاذ ومعلمة، حيث يجب على المدارس أن تقوم بتمويل الصندوق بنسبة 6% من موازنة المدرسة، إلّا أنّ هذه النسب تُدفع بحسب الأقساط بالليرة اللبنانية، وهذا ما أدّى إلى إفلاس الصندوق، علمًا أنّ رواتب الأساتذة المتقاعدين وعددهم 6000 أستاذ تتراوح رواتبهم بين 10 و30 دولارًا، مهددة بالتوقف برغم اضمحلالها، وتحوّل هؤلاء من مربّي أجيال يعيشون بكرامتهم إلى أشد الفئات عوزًا.
المنح المدرسية تمويل مباشر لأصحاب المدارس الخاصة
يبلغ عدد المدارس الخاصّة غير المجانية 1250 مدرسة يتبع 60% منها زعماء الطوائف والأحزاب، وفق الباحث التربوي نعمة نعمة، بينما تصل نسبة تلامذة المدارس الخاصة اللبنانيين من أبناء موظفي القطاع العام 40% من نحو 500 ألف تلميذ في التعليم الخاص، ما يجعل من خزينة الدولة بمؤسساتها العامة أكبر مموّل للمدارس الخاصة.
ويرى نعمة أنّه “يجب دعم وتقوية المدرسة الرسمية التي تستفيد منها الشرائح المجتمعية كافة”، مؤكدًا أنّ “هذه المنح هي من أموال الخزينة ومصدرها الضرائب والتي تذهب إلى مؤسسات التعليم الخاصة، وليس إلى تطوير البنية التحتية التعليمية ولا حتى إلى رفع رواتب المعلمين، وتعزيز أوضاعهم ودعم صندوق تعويضات المتقاعدين من بينهم، والذين أفنوا أعمارهم في خدمة تعليم الأجيال”. هذا عدا عن مساهمة الدولة في المدارس الخاصة المجانية إذ ترصد وزارة التربية 112 مليارًا للمدارس الخاصة المجانية (مليون و258 ألف و426 دولار)، و9 مليارات ليرة لبنانية (مئة وألف و595 دولار) إلى المهنيات الخاصة.
والمنح المدرسية المموّلة من خزينة الدولة لا تقتصر على تعاونية موظفي الدولة، فالإنفاق الحكومي على التعليم يشمل أيضًا بحسب دراسة لمركز الدراسات اللبنانية حول “كلفة التعليم في لبنان في العام 2018″، صناديق التعاضد ومنها صندوق تعاضد للنواب، وذلك الخاص بموظفي مجلس النواب، والقضاة الشرعيين، والمساعدين القضائيين والقضاة المدنيين ومساعديهم، والأساتذة الجامعيين والأمن العام. يضاف إلى ذلك مؤسسات عامة ومصالح مستقلة مثل الضمان الاجتماعي وكهرباء لبنان وإدارة حصر التبغ والتنباك ومصالح المياه والنقل المشترك ومصلحة مياه الليطاني وكهرباء قاديشا وأوجيرو والمطار ومصرف لبنان، وهي صناديق مموّلة من رسوم واشتراكات المواطنين.
ويقدّر نعمة مجموع المنح المدرسية التي تدفعها الدولة عبر صناديق مؤسسات مختلفة في القطاع العام بنحو 350 مليون دولار، تذهب إلى المدارس الخاصة.
ويعتبر نعمة أنّ مبدأ إعطاء منح مدرسية للموظفين في القطاع العام يأتي ضمن سياسة عامة تنتهجها الدولة، بتحريض من المدارس الخاصّة المملوكة من الطوائف، لضرب التعليم الرسمي الذي يجب أن يكون هو التعليم الأساسي، وأنّ زيادة قيمة المنح تأتي بناء على اتفاق بين أصحاب المدارس من جهة والحكومة من جهة ثانية.
ويضيف أنّ أخطر ما يحدث في تقديمات التعاونية من جهة رفع قيمة المنح بشكل عام، هو حصولها خارج أي إطار قانوني، حيث كانت التقديمات تُرفع في السابق استنادًا إلى معدّل الأقساط الموجود. وكانت قيمة منح الضمان الاجتماعي ومؤسسات المصالح العامة تُحدّد عبر عملية حسابية يقوم بها الضمان عبر احتساب المعدل العام لأغلى 10 مدارس في لبنان، ويقوم بدفع حوالي 80% من قيمة القسط، أما تعاونية موظفي الدولة فتقوم باحتساب مبلغ مقطوع وتمنح نسبة من الأقساط.
ويرى نعمة أنّ الزيادة غير منطقية، إذ أنّ قيمة المنحة اليوم تبلغ قيمة مجموع رواتب الموظف على مدار العام وعليه، أنّ المنحة لطالما كانت تُحدّد نسبة إلى الحدّ الأدنى للأجور بزيادة راتبين أو ثلاثة رواتب وكانت تغطي 50% إلى 70% من القسط. أما اليوم في ظلّ هذه الزيادات فإنّ نسبة التغطية عالية جدًا، معتبرًا أنّه لطالما كانت العائلات تخصّص 40% فقط من دخلها للتعليم.
وهذه كلّها، وفق نعمة، أموال تذهب إلى جيوب أصحاب المؤسّسات التعليمية ربحًا صافيًا، كون المدارس هي مؤسّسات معفيّة من الضرائب ولا تبغي الربح في مبدأ إنشائها، وهي أموال من خزينة الدولة مصدرها الضرائب والرسوم من أموال الشعب. ويضيف أنّ هذه الأموال لا تذهب إلى تطوير البنية التحتية التعليمية ونوعية التعليم، ولا حتى زيادة لرواتب المعلمين والأساتذة.
ويؤكد أنّ كلّ ذلك يشير إلى اضمحلال مؤسّسات الدولة، حيث بات هناك نظام اقتصادي وإداري منفصل وغير مقونن، وخارج أي شكل من أشكال الرقابة، معتبرًا أنّ 20% فقط اليوم من حجم النظام الإداري والاقتصادي هو مقوّنن.