لم نعرف إن كانت الطفلة زهراء ضاهر قد قالت أيّ شيء قبل أن تغمض عينيْها الصغيرتيْن إلى الأبد لترتاح من حياة قصيرة ولكنها قاسية ومؤلمة على ما يبدو، وسط صمت عائلي أخفى كل ما كانت تتعرّض له. قضتْ ابنة التسع سنوات في منزل عائلتها في قرية دبين الجنوبية يوم السبت الماضي، 12 آب الجاري، طاوية معاناتها مع الشلل والإعاقة والآلام وسوء المعاملة والتغذية والعنف. نعم العنف نفسه الذي وثقه تقرير الطبيب الشرعي وبعض الممرّضات في طوارئ مستشفى مرجعيون الحكومي حيث نقلت قبل يوم من وفاتها.
يومها، وصلت الصغيرة إلى الطوارئ برفقة أبيها بعد أن أصابتها حمى شديدة، فأوصى الفريق الطبّي بدخولها لتلقّي العلاج. ومع ذلك، قرّر والدها أخذها إلى المنزل “على مسؤوليته الخاصة”. قرار كان له أثر لا رجعة عنه.. قرار أنهى حياتها. كان وجه زهراء شديد الاحمرار، فيما يبدو الحزن والتعب والوجع في عينيها، كما يؤكد مصدر طبي لـ “المفكرة القانونية”. وبدتْ آثار الضرب واضحة تغطّي القسم العلوي من جسدها شديد النحالة. جسد مثقل يحكي عن صاحبته الأهوال التي تحمّلتها خلال آخر أيّام عمرها القصير. غادرت زهراء المستشفى كما دخلتها بقرار من والدها، وأعيدت إليها في اليوم التالي جثة هامدة. والدها الموقوف حاليًّا على ذمة التحقيق في ضرب ابنته وتعنيفها بسبب “الانزعاج من بكائها المتواصل”.
وزهراء من الأشخاص ذوي الإعاقة صحيح، أنهكت العمليات الجراحية جسدها أيضًا، لكن تقرير الطبيب الشرعيّ كشف أنّ المرض لم يكن وحده ما فتك بها وبحياتها، بل شكّل الإهمال والتعنيف وسوء التغذية والمعاملة حتمًا عوامل كانت كفيلة بوضع حدّ لحياة طفلة لم تكن تستحقّ -مثلها مثل سائر الأطفال- غير الحبّ والرعاية والاهتمام. ومع ذلك، لم تصل التحقيقات إلى رواية واحدة تخبرنا تفاصيل الساعات الأخيرة التي قضتها زهراء مع أبيها قاسم ضاهر وأخوتها الثلاثة الأصغر منها سنًّا.
تقرير الطب الشرعي يحكي
الأخطر أنّه وسط الحديث عن قرب إخلاء سبيل والدها الموقوف رهن التحقيق في النبطية، حيث لم تدّع أي جهة، سواء أمها أو أي من أقاربها عليه حتى الآن، يكشف تقرير الطبيب الشرعي غالب صالح الذي تمكّنت “المفكرة” من الاطّلاع على بعض تفاصيله، عن مجموعة من العوامل التي ساهمت في وفاتها. فيشير الهواء الموجود داخل غشاء رئتها إلى وجود مضاعفات طبيّة جعلتها عاجزة عن التقاط أنفاسها مما منع الأوكسيجين من الوصول إلى خلايا جسدها، ما شكّل السبب المباشر لوفاتها. في المقابل، تبدو آثار الكدمات واضحة على جسدها، بخاصة حول عنقها وكتفيها وأعلى صدرها، وهو ما يطرح أسئلة مقلقة، إضافة إلى وجود توسّع غير طبيعيّ في منطقتي المهبل والشرج، لم يحسم التقرير الأوّلي ما إذا كان سببه اعتداء جنسيّ أو خللٌ جيني. لكن الأب الموقوف حاليًّا على ذمة التحقيق في ضرب ابنته وتعنيفها بسبب “الانزعاج من بكائها المتواصل”، نفى أيّ اعتداء جنسي، متذرّعًا بأوضاعه المادّية المزرية كمبرّر لعدم إدخالها المستشفى في الليلة السابقة، ليردّ التوسّعات في المناطق الحسّاسة إلى إعاقة طفلته.
في المقابل، يقول الطبيب الشرعي غالب صالح لـ “المفكرة” إنّ تقريره، مدعومًا بتقرير طبيب نسائي استعان به من أجل فحص جثة الصغيرة، يؤكّد أنّ التوسّعات التي تمت ملاحظتها غير طبيعية “والطبيب النسائي لم يشاهد مثلها سابقًا لدى فتيات من ذوات الإعاقة رغم خبرته الطويلة”، مؤكّدًا أنّ الحسم بين الاعتداء أو الخلل الجيني يحتاج للمزيد من التحقيق. تحقيق يبدو أنه لن يستكمل طالما أنّ زهراء وقصتها صارا تحت التراب.
والدة زهراء لا تريد سوى الصورة الجميلة من القصة
بدورها والدة زهراء التي قابلتْها “المفكرة” في منزل الأسرة في دبين، ترفض توجيه أصابع الاتّهام إلى زوجها. تعترف أنه “كان يضربها، إلّا أنه لا يمكن أن يكون قد ضربها حتى الموت، أو أن يكون قد اعتدى عليها”، برغم أنها كانت خارج المنزل في الأيام الأخيرة التي سبقت موت طفلتها. وتضيف أنّه “كان يتناول أدويةً مهدّئة للأعصاب”.
تروي الأم المفجوعة حياة من الفقر والمعاناة يفاقمها إصرار الزوج على عدم العمل لإعالة أسرته، تاركًا إياها رهينة ما يقدّمه بعض المحسنين: “القلة المادية والتوتر كانا يخيّمان على أجواء المنزل لا سيما في الفترة الأخيرة، كنت أعرف أنّ هذا الشحن الدائم سيجعلني أخسر أحدهما، ابنتي أو زوجي، لكن خسارة ابنتي كانت صادمة جدًا”، تقول الوالدة. يعتصر الحزن قلب الأم التي شاء القدر أن تكون بعيدة عن ابنتها في الأيام الأخيرة لها، بعد أن غادرت المنزل كمحاولة أخيرة منها للضغط في وجه عطالة زوجها عن العمل وغياب أي مصدر دخل مادي للأسرة. وتضيف: “مجتمعنا لا يدعم المرأة المطلّقة، يقولون لها لوين رايحة وتاركة بيتك.. صبرت كثيرًا حتى خسرت حبيبة قلبي”.
في قصر عدل النبطية، لا يزال الوالد موقوفًا حتى اللحظة، إلّا أنّ احتمالات الإفراج عنه بين ساعة وأخرى واردة بحسب مصادر في النيابة العامة، احتمالات يراهن عليها مختار دبين الذي يتمسّك بعذر المرض النفسي للأب، فيما لم يقم أيّ من ذوي زهراء سواء من جهة أمّها أو أبيها بالادعاء أمام القضاء للتوسّع بالتحقيق في وفاتها. وزهراء ذهبتْ ولم تحكِ أو تدعّ، لكن تقرير الطبيب الشرعي قال كل شيء.
وعليه، بانتظار ما يقرّره القضاء، ومدى حرصه على الوصول إلى حقيقة ما حصل مع الصغيرة وبالتالي تحقيق العدالة لروحها، تبقى قصة زهراء شاهدًا على نتائج إساءة معاملة بعض الأطفال وإهمالهم. إن حياتها، التي انتهت باكرًا جدًّا، هي بمثابة تذكير عنيف بأنّ حياة بعض الطفلات والأطفال، لا سيما في غياب الحماية القانونية والاجتماعية، يمكن أن تشهد أهوالًا لا يمكن تخيّلها خلف الأبواب المغلقة. أبواب لا يريد أحد أن يفتحها لتخرج منها القصص إلى العلن. ومنها باب في هذه القرية الجنوبية حيث تقف أم زهراء على عتبته لتودعنا بالقول: “ابنتي تحت التراب، ولا أحب أن تُذكر إلّا بصورة جميلة”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.