تشكلّت نواة كتلة نوّاب “الزمرة” (The Squad) في الكونغرس الأميركي من أربع شابات “ملونات” وفق تصنيف الإعلام الغربي، وهن: رشيدة طليب من أصول فلسطينية، ألكسندريا أوكازيو-كورتز من أصول بويرتوريكية، وإلهان عمر من أصول صومالية، وأيانا برسلي من أصول أفريقية. مثّلن على التوالي ولايات ميتشيغن ونيويورك ومينيسوتا وماساتشوستس. كان فوزهنّ في انتخابات تشرين الثاني 2018 مستجداً ومفاجئاً، مع طروحات تتماهى ومنجزات اليسار الأميركي في الأربعينيات[1]. فلقد اقترحنَ برامج وتشريعات مثل “الضمان الصحّي للجميع”، و”الغرين نيو ديل” لمقاربة التغيّر المناخي، وأخرى تتعلّق بمعالجة الديون الطلّابيّة، وأخرى ترتبط بقضايا العنصريّة وحقوق النازحين. وصنّفهم أغلب الإعلام الغربي أنهم مثاليون حيناً ورادكاليون حيناً آخر، بالمقارنة مع مجموعة أكبر من “التقدميين” تنافسوا على رئاسة الحزب الديمقراطي. وقد تميّز هؤلاء في أول المطاف في مواجهتهم لمعسكر دونالد ترامب خلال سنوات حكمه.
في الآتي سيرة موجزة عن “الزمرة” التي أصبحت تجمع اليوم 8 نوّاب. وقد أوجزنا سيرة الكتلة وأعضائها من مجموعة تقارير إعلامية، وأشرنا إلى تفرّدها إلى جانب 8 نوّاب آخرين في رفض الدعم المطلق لإسرائيل، ثمّ قيادتها الدعوة إلى وقف الحرب في غزّة، والتي لم ينضمّ إليها أكثر من 16 نائباً بادئ الأمر. ونتناول في هذا الصدد، الجهود المبذولة من أجل تقويض حراكهم الهادف إلى انتزاع قرار بوقف الحرب، وبخاصة من خلال استهداف النائبة طليب.
“الزمرة” في تمثيلها لمصالح الناس العاديين
كانت بداية مسيرتهن في كانون الثاني 2019، اجتمعت النائبات ذوات الكاريزما الجاذبة للناس على رؤى وقضايا مشتركة، التقطت صورة لهن لدى اجتماعهن للمرّة الأولى في الكونغرس، واقترحت أوكازيو-كورتز تذييلها ب”هاشتاغ” Squad أو الزمرة. ويقصد بالتعبير أولئك الذين يعملون مع الناس وعلى الأرض، وفق ما نستشفه من تعليق لطليب، قالت فيه أنّ التعبير يشير إلى “عصر جديد لما يجب أن تكون عليه الحكومة، مع وجود أشخاص على الأرض، والتأكد من أن الشركات لا تتسلّل إلى ديمقراطيتنا وتلوث العملية”. وأضافت أنّ أكثر ما تحبّه في ترداد التعبير، حين تسمع الناس يقولون “أنا جزء من الزمرة أيضًا”، هو “أننا ترجمناه في عمل الحركة (السياسية) التي أتينا منها جميعًا”.
وإذ تبنّى بعض الإعلام التعبير، فقد أصبح أكثر تداولاً بعد سلسلة تصريحات عنصريّة أطلقها ترامب ضدهنّ، على إثر تمايزهنّ عن الديمقراطيين في اعتراضهنّ على مشروع قانون تمويل فاتورة الحدود (border funding bill)، وانتقادهنّ المعاملة السيئة للنازحين. وقد علّق ترامب على موقفهن بسلسلة تغريدات عنصرية دعاهم فيها إلى “العودة إلى بلادهنّ التي أتين منها”، وأن يحاولن تغييرها بدلاً من أن يحاولن صنع التغيير في الولايات المتحدة. وردت النائبات الأربعة في مؤتمر صحافي مشترك، فنّدت خلاله عمر سلسلة تعليقات سابقة عنصريّة لترامب وأخرى مسلّعة للنساء (أشهرها تعليقه حول أنّه ك “نجم” يسمح له أن يلمس المرأة في عضوها التناسلي دون أن تشتكي). وقالت برسلي أن تعليقات ترامب حول المهاجرين تنمّ عن زينوفوبيا (رهاب الأجانب)، وأنه لا يتمتع بالنزاهة (integrity) التي يتطلبها المنصب وتستحقها الناس. وقالت أوكازيو-كورتز أنهن سيُطلعن الأطفال أن “هذا البلد ينتمي للجميع”، وأنه لن يتم إسكاتهنّ. ومنذ تلك الفترة، ما مرّ أسبوع إلاً تصدّرت إحداهنّ عناوين الأخبار في معركة سياسية ما تخوضها.
وفي ملخّص خلفيّاتهنّ فإنّ ألكسندريا أوكازيو-كورتز، الأصغر سناً والأكثر شهرة ربما بين كل نوّاب الكونغرس، مع أكثر من 13 مليون متابع على منصّة “اكس”. تعرّف نفسها بأنها ديمقراطية إشتراكيّة (أكبر تنظيم اشتراكي في الولايات المتحدة)، حائزة على شهادة في الاقتصاد والعلاقات الدولية من جامعة بوسطن، إلّا أنها كانت تعمل نادلة وعملت كذلك في مجال التعليم، قبل أن تقرر الترشّح إلى المجلس التشريعي في سن 29. اشتهرت بكونها إحدى رعاة مشروع قرار Green New Deal ، الداعي إلى الوصول إلى صفر انبعاثات من الغازات الدفيئة وتحقيق أهداف أخرى تخفّف من حدّة التغيّر المناخي. كما دعمتْ مشاريع “الرعاية الطبية للجميع” و”الكلية العامة المجانية” وفرض معدل ضريبة هامشية بنسبة 70% للأميركيين الذين يكسبون أكثر من 10 ملايين دولار. وهي (ومعها الزمرة) من أبرز منتقدي وكالة الهجرة والجمارك الأمريكية ICE، بل إنها دعت إلى إلغائها.
فيما كانت رشيدة طليب رفيقة أوكازيو- كورتز في التنظيم الديمقراطي الاشتراكي، الطفلة الأولى على 14 طفلاً لعائلة فلسطينية مهاجرة. والدها من منطقة قريبة من القدس. وبعد هجرته الى الولايات المتحدة أصبح عاملاً في شركة “محركات فورد”، فيما لا زالت جدتها وأقاربها يعيشون في فلسطين. وهي أصبحت نائبة في عمر 42، وقد أثارت الجدل سريعاً بعد تعهدها بعزل ترامب في الليلة التي أدّت فيها اليمين الدستورية، بسبب استعمالها تعبيراً نابياً (We’re going to impeach the motherf**er)، ما بدا تحدّياً لتصريحاته العنصرية والمسيوجينية. ورفضت الاعتذار معلّقةً على “تويتر” بأنّه “سنقول الحقيقة دائماً في وجه أصحاب القوّة”، وأردفت أنّ “ترامب هو أكبر متنمّر اضطررت للتعامل به في حياتي”.
أمّا إلهان عمر، فكان عمرها 8 سنوات حين اندلعت الحرب الأهلية في الصومال، وعاشت فترة طويلة في مخيم لاجئين في كينيا، قبل هجرتها وعائلتها إلى الولايات المتحدة وكان عمرها عشر سنوات. أصبحت نائبة في عمر 36، وكان لديها مواقف ضد التعاطي العنصري مع المسلمين منذ أحداث “11 أيلول” على أنهم “مواطنون درجة ثانية”. واجتذبت التعليقات الغاضبة بسبب ذلك، وبسبب انتقاداتها المستمرة لسياسة ترامب، بخاصّة وأنها كانت الأكثر عرضة بين زميلاتها لتهجّمات الأخير، وكان نعتها بأنها كارهة لليهود ولإسرائيل وداعمة لتنظيم القاعدة، فيما اتهمها اللوبي الصهيوني واتهم زميلتها طليب بمسمّى “معاداة السامية” بسبب موقفهما المناصر لفلسطين.
ولا تقلّ سيرة أيانا برسلي (نائبة في عمر 45) قساوةً عن زميلتيها. فهي نشأت في شيكاغو على يد والدتها، في حين كان والدها يعاني من الإدمان وكان يدخل ويخرج من السجن قبل أن يصبح كاتباً. وهي إحدى الناجيات من الاعتداء الجنسي وناقشت علناً تجربتها عندما كانت طفلة، إذ تعرضت للاغتصاب من قبل أحد معارفها في الكلية. وتقول في سيرتها الذاتية: “إنها تعتقد أن الأشخاص الأقرب إلى الألم يجب أن يكونوا الأقرب إلى السلطة”.
ويُشار إلى أنّ تأثير “الزمرة” بقي محدوداً في السنوات الأولى نظراً لكونهنّ أقلية في الكونغرس وداخل حزبهم، قلم تكن أصواتهن حاسمة في التصويت على القرارات، ولكن هذا الأمر سيتبدّل لاحقاً.
من دورة إلى أخرى تتوسّع “الزمرة” ويزداد تأثيرها
أخويّتنا صامدة” قالت عمر عقب تجديد انتخاب النائبات الأربعة في تشرين الثاني 2020، وشكرت من أعاد انتخابها “رغم الملايين التي أنفقت ضدّنا”. وقالت أنّ “النضال من أجل عائلات الطبقة العاملة في الكونغرس كان أعظم شرف وامتياز ومسؤولية في حياتي”. وكان ملحوظاً تلك الدورة أنه من أصل 15 نائباً ديمقراطياً جديداً، 8 هم أعضاء في التجمع التقدمي في الكونغرس (Congressional Progressive Caucus). من هؤلاء جمال بومن (نيويورك) أوّل المنضمين إلى “الزمرة”، ومن أبرز قضاياه “التعويضات عن العبودية” (slavery reparations). فيما كانت الممرضة والناشطة كوري بوش (ميسوري) العضوة السادسة، وقد نشرت بالمناسبة صورة على تويتر ل”الزمرة” وأرفقتها بعبارة “Squad up”.
وبخلاف سرديّة تمثيلهم ل”الملونين”، أثبتت الإحصاءات غياب أي رابط منطقي صريح بين نتيجة انتخابات النواب الستة و”لون” أو “إثنية” الناخبين. أي أن عوامل أخرى قادت التصويت، لعلّ أحدها خطابهم التقدمي إذ لا يمكن إغفال نتائج الانتخابات الداخلية للحزب الديمقراطي حيث ازدادت أعداد النواب التقدميين إلى أكثر من مئة وكادوا أن يقلبوا نتائج الانتخابات الرئاسيّة لصالحهم. وحول تصاعد هذه النزعة التقدمية، نُشر مقال على موقع “The Appeal“، يشير إلى “حرب الحزب الديمقراطي مع نفسه”، وجاء في مطلعه أنه “في جميع أنحاء البلاد، وعلى جميع مستويات الحكومة، تتحدى رؤية الحزب الراسخة في مصالح الناس العاديين التحالف المركزي للمنظومة (centrist establishment coalition) والذي ربط نفسه منذ فترة طويلة ب”وول ستريت” والشركات المانحة بدلاً من مصالحهم”.
وخلال الإعتداءات على غزّة في أيار 2021، أدانت ألكسندريا أوكازيو- كورتز في تغريدة دعم الرئيس بايدن للاعتداءات على غزة، عقب استخدام الولايات المتحدة حق النقض “الفيتو” لقرار للأمم المتحدة بوقف الحرب. كما أنها وصفت إسرائيل بتغريدة أخرى بأنها نظام فصل عنصري وليست ديمقراطية. واستشهدت أوكازيو-كورتز بنتائج تقرير لمنظمة “بتسيلم” وآخر ل”هيومن راييتس ووتش” استخدما فيه تعبير “الفصل العنصري”. وكانت تغريدتان مماثلتان للنائبتين رشيدة طليب وكوري بوش. فيما قامت طليب بتذكير النواب خلال كلمة ألقتها في الكونغرس بأن” الفلسطينيين موجودون بالفعل، ونحن بشر”، وأردفت “كم من الفلسطينيين يجب أن يموتوا لكي تكون حياتهم ذات أهمية؟” فيما دعت أوكازيو كورتز الولايات المتحدة للاعتراف بدورها في الظلم وانتهاكات حقوق الفلسطينيين”، فيما اتهمت إلهان عمر البيت الأبيض “بالانحياز إلى الاحتلال القمعي”. وقد علّقت بوش على الملايين التي تصرفها الولايات المتحدة لتمويل إسرائيل بالقول “هناك بعض المجتمعات (communities) في مقاطعة سانت لويس حيث يمكن أن تذهب هذه الأموال”. وقد أشارت بعض المواقع الإعلاميّة حينها، إلى أنّ أوكازيو-كورتز وبوش كسرا “التابو” حول وصف إسرائيل بنظام الفصل العنصري، إذ شجع الأمر آخرين للقيام بالمثل، مقدّم البرنامج الإخباري الساخر جون أولفر، والإعلامي على قناة “ام اس ان بي سي” علي فلشي (Ali Velshi).
في تشرين الثاني 2022، توسّع تكتّل الزمرة مجدداً بعد تجديد انتخاب “الزمرة” بفوارق مريحة وأصبح عددهم ثمانية. أحد المنضمين غريغ كاسار (فلوريدا)، فاز ب72% من أصل 92% من الأصوات المحتسبة. وقد علّقت أوكازيو-كورتز على الأمر بالقول أن “الأسر العاملة” تستحق ديمقراطيًا تقدميًا مثل غريغ الذي سيبرز ليقاتل من أجلهم. ومع انضمام غريغ ابن المهاجرين مكسيكيين، زاد التنوّع في “الزمرة”. وينادي غريغ بسياسات لحماية العائلات من الانفصال، ويدعو لرفع أجور آلاف العمال، كما يدعم السياسات الرامية إلى الحد من الاعتقالات ذات الخلفيّة التمييزية العنصريّة في جميع أنحاء تكساس. أمّا العضوة الثامنة فهي المحامية والصحافية من أصول أفريقيّة سامر لين لي Summer Lynn Lee (بنسلفانيا) المدافعة عن حقوق الطلاب. ويُذكر أنه خلال حملتها الانتخابية، صرفت منظمة AIPAC نحو مليوني دولار للحؤول دون فوزها، لكنها تقدّمت في المرحلة الأولى بفارق 0.8%، وفازت في المرحلة الثانية مع 56% من الأصوات. من ناحية أخرى فضّل نوّاب آخرون عدم الإاخراط في كتلة “الزمرة” وإن شاركوها في العديد من توجهاتها.
وفي هذه الدورة أكثر من 100 من الديمقراطيين يعدون أنفسهم تقدميين. لكنهم فقدوا من ناحية أخرى أكثريّة المجلس مع 213 من أصل 435 مفعداً (221 للجمهوريين). وعادّةً في ظلّ أقليّة غير حاسمة، يصبح الحزب الحاكم بحاجة لاستمالة نوّاب من الحزب الآخر لتمرير قوانين وقرارات معيّنة، لكن لا يمكن أن يحدث هذا إلّا في ظل إجماع داخل الحزب الحاكم نفسه (الديمقراطيين)، وعليه أصبح تأثير “الزمرة” أكبر مما كان عليه عام 2019.
طليب تقود “الزمرة” وتتعاون مع “اليهود لأجل السلام” لكسر “تابو” مناصرة فلسطين
بخصوص القضيّة الفلسطينيّة، يختلف الوضع في الولايات المتحدة عن دول أخرى في القدرة على المناصرة. فلا يتجاوز عدد التقدميين ربع نوّاب الكونغرس، والمعارضين ما بينهم لاستمرار الحرب في غزّة لا يتعدّى عددهم ربع هؤلاء أي ربع ربع نواب الكونغرس. ورغم نسبتهم هذه، هم يتعرّضون لضغوطات شديدة. فيما توضح الكثير من التقارير، الدور المالي والانتخابي الذي يمارسه لوبي “AiPAC” على الفاعلين السياسيين، والضغوطات المهنيّة والمعيشيّة التي تمارسها منظمة “CAMERA” (ذات ال55 ألف عضو) على المؤسسات الإعلاميّة والإعلاميين. وتعود جذور هذا القمع إلى فترة حرب 1967، وفقاً للمفكر نعوم تشومسكي، حين أصبح “أي أحد يقارب الموضوع الفلسطيني-الإسرائيلي … يتمّ نبذُه”، وبدأ منذ ذلك الوقت استخدام تعابير مثل “معادٍ للسامية” لمن ليس من أصل يهودي، أو “يهودي كاره لنفسه” لمن هو كذلك، لمهاجمة أدنى نقد لإسرائيل.
وكان ملفتاً بعد العدوان على غزّة، الدور الهام الذي لعبته منظمّتا If Not Now وjewish voice for peace، الأكثر جرأة في رفض نزع السياق والتعمية وازدواجيّة المعايير. وقد نشرت هذه الأخيرة على موقعها منذ 7 تشرين الأوّل مقالاً ورد فيه أنّ “الحكومة الإسرائيلية ربما تكون أعلنت الحرب للتو، لكن حربها على الفلسطينيين بدأت منذ أكثر من 75 عامًا. إن الفصل العنصري والاحتلال الإسرائيلي – وتواطؤ الولايات المتحدة في هذا القمع – هما مصدر كل هذا العنف”. وعليه، كان تعاون طليب و”الزمرة” مع هاتين المنظمتين مدخلاً لكسر الصمت فكانت مجموعة تعليقات لنوّاب “الزمرة” تدعو إلى وقف إطلاق النار.
وبعد بضعة أيّام، ظهر شرخ واضح بين “الزمرة” ومعسكر “التقدميين”. وكانت النائبة طليب الأكثر نشاطاً بلا شك في “الزمرة” في مواجهة هذه الضغوطات، حيث دعت في 13 تشرين الأوّل الرئيس الأميركي جوزف بايدن للعمل إلى وقف قتل المدنيين، مشيرة إلى الأوضاع المزرية لأهل غزّة وحرمانهم الطعام والكهرباء، مشيرة إلى أن الأميركيين العرب والمسلمين لا يشعرون اليوم أنهم ممثلون في الولايات المتحدة. وفي 17 تشرين الأوّل عقب مجزرة الأهلي، دعتْ طليب أصدقاءها النواب للتوقيع على تشريع قدّمته هي والنائبة كوري بوش يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، وقد تبنّت “الزمرة” ونوّاب آخرون الطلب (مجمل الموقعين 24 نائباً). وشاركت طليب في تحركات للمنظمات اليهوديّة، If Not Now وjewish voice for peace، بدءاً باحتلالهم “الكابيتول” إحدى باحات الكونغرس. ما شكّل تبادلاً في تحصين اليهود “للزمرة” من استهدافهم بتهمة “معاداة الساميّة” من جهة مقابل إعطاء الكتلة عمقاً سياسياً لتحرّكاتهم من جهة أخرى. وهذا ما نستشفه من خطاب المفكّرة اليهودية نعومي كلاين في المناسبة ذاتها، إذ وقفت إلى جانب طليب تخطب في الحشود وقالت: “نحن هنا كي لا نسمح في التلاعب بخوفنا من معاداة-السامية على هذا النحو، كتغطية لجرائم الحرب، والسلب الاستعماري للأراضي، والإغلاق على احتماليات الحل السياسي، الذي لا يمكن أن يأتي إلّا من خلال إنهاء الإحتلال والفصل العنصري، ومن خلال الحرية وحق تقرير المصير للفلسطينيين.”
وأتت المساندة من قبل “الزمرة” في 20 تشرين الأوّل، في مجموعة خطابات معبّرة لخمسة منهم في مؤتمر صحافي لتأييد قرار وقف إطلاق النار المقدّم من بوش وطليب. قارنت خلاله بوش بين حراك السود وما يحصل في غزّة، واعتبرت فيه أيانا برسلي أنّ القضيّة تتعلّق بمستقبل الإنسانية وأنّ “جميع أطفال العالم يشاهدون والتاريخ عيونه علينا”. ورأت سامر لي أنّه حين تكون الضغوطات كبيرة تكون الحاجة أكبر للكلام بحريّة “لأنّ إنقاذ الحياة التي من الممكن إنقاذها يستحق ذلك”. فيما تحدّث غريغ كاسار عن مآسي الغزاويين وبطولات طواقمهم الطبيّة الذين يخدمون الناس وليس لديهم من دواء أو طعام. كما أشار إلى أنّ أوّل من كان لديهنّ الشجاعة للتحدّث هنّ زميلاته اللواتي كنّ أنفسهن في خطر كبير وهنّ كوري بوش ورشيدة طليب وإلهان عمر وأيانا برسلي وسامر لي، و”الذين لا يمرّ يوماً عليهن دون تعرضهنّ لتهديدات بالقتل، ولا زلن يأخذن على عاتقهن قيادة الدعوة إلى وقف القتل العبثي”. وأردف أنّه في الوقت الذي نحزن فيه (grief)، “يجب أن نكمل في تشكيل رافعة (uplift) لأولئك الذين يتكلمون، حتى يأخذ المزيد والمزيد من الناس شيئاً من هذه الشجاعة، (وصولاً) لإنهاء القتل العبثي”.
كما عبرت عمر في المؤتمر عن أسفها من موقف 535 نائب “اجتعموا على نفسٍ واحد للإدانة الكاملة للرعب الذي اختبره الإسرائيليون، مقابل قلّة قليلة منهم فقط تمكنوا من الوصول إلى نقطة ما، للقول: (أننا ندين ذبح الأطفال الفلسطينيين، وذبح الأمهات والآباء والجدات والجدود)”. وأردفت “أين إنسانيتكم! كيف تنظرون إلى فظائع ما وتقولون أن هذا خطأ، ولكن تنظرون (من ناحية أخرى) إلى جثث تتراكم وإلى أحياء تسوّى بالأرض (وتصمتون) –إسرائيل رمت قنابل في الأيام العشرة الأخيرة أكثر مما رمينا خلال سنة كاملة في إفغانستان- أين إنساتيكم! أين غضبكم!” ثم انفعلت: “ما هو خطبكم! هل الأميركيون الذين يعيشون في غزّة أقلّ أهمية من الأميركيين الذين يعيشون في إسرائيل! كيف يمكنكم إخطار الأميركيين بالذهاب إلى جنوب غزة ولا يمكن القول لنتنياهو بالتوقف عن قصف غزة!”
وبالمحصّلة، كانت رمزيّة التحركات الشعبيّة ودعمها سياسياً من نوّاب “الزمرة” مؤثّرة بلا شك في كسر عقدة الخوف من انتقاد الصهيونية، وهو ما انعكس في نزول الآلاف في تظاهرات في مختلف الولايات للدعوة إلى وقف الحرب. وقد أشارت استطلاعات الرأي في 20 تشرين الأول إلى الشرخ بين الشارع وممثليه في الكونغرس، حيث ظهر أنّ 66% من الناخبين المحتملين (likely voters) يؤيدون وقف إطلاق النار. وفي 30 تشرين الأوّل، قال 10 نوّاب: “لا لقرار الكونغرس” الداعي ل “الوقوف إلى جانب إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. وبين الذين قالوا “لا” 6 من “الزمرة” و4 من المقربين منهم. إذ تميّز النائب غريغ كاسار والنائبة أيانا برسلي (إلى جانب 4 نوّاب تقدميين) في عدم التصويت على القرار. وفي ما يتعلّق بهذا القرار، انتقدت أوكازيو-كورتز في تغريدة منظمة “AIPAC”، قالت ما تعريبه “إنهم ليسوا أصدقاء للديمقراطية الأمريكية. وهي إحدى لجان العمل السياسي الأكثر عنصرية وتعصبًا في الكونغرس”، وأضافت أنها تستهدف “الملوّنين” من النواّب. كما قالت في مقابلة لها مع “سي إن إن“، أن “الشباب بدأ يبدي اهتماماً بهذه القضية (الحرب على غزّة). وقبل أن يقول الناس، كما تعلمون، إن هذا بسبب منصات التواصل الاجتماعي، فهذه قضية كنت أحذر الحزب منها لفترة طويلة – حيث أصبح الشباب يشعرون بقلق متزايد بشأن وضع حقوق الإنسان للفلسطينيين. لسنوات حتى الآن، وهي تنمو وتنمو.”
ردّ الفعل في إدانة الكونغرس لطليب
في المقابل، وإذا ما كانت الدعوى إلى وقف إطلاق النار يمكن تجاوزها، فما كانت النزعة نحو مناهضة الصهيونيّة والتأييد غير الموارب لحقوق الفلسطينيين ليمر دون رد. في 26 تشرين الأوّل، اقترحت النائبة الأميركيّة مارغوري غرين (Marjorie Taylor Greene) “قراراً يعاقب النائبة رشيدة طليب بسبب نشاطها المعادي للسامية والتعاطف مع المنظمات الإرهابية وقيادة تمرد في مجمع الكابيتول الأمريكي”. وقالت غرين ما تعريبه: “قادت طليب تمردا مؤيدا لحماس داخل مجمع الكابيتول، وأظهرت مرارا وتكرارا معتقداتها المعادية للسامية، وأظهرت كراهيّتها لإسرائيل”. وبنيت سرديات من نواب آخرين لاتهام طليب بمعاداة السامية، سواء بناءً على تصريحات لم تقلها، أو لأنّها قامت ب”ريتويت” لصورة كتب عليها “من النهر إلى البحر فلسطين ستكون حرة”، ما جرى تأويله على أنه دعوة لتدمير إسرائيل وتاليا لإبادة اليهود.
ولم تتأخر طليب بالردّ على التهم الحاضرة. قالت “أنا فخورة بالتضامن مع دعاة السلام اليهود الذين يطالبون بوقف إطلاق النار وإنهاء العنف. لن أتعرّض للتنمر، ولن أُجرّد من إنسانيتي، ولن أسكت”. لكن بالمحصّلة، انضمّ 22 نائباً ديمقراطياً في الكونغرس إلى معظم الجمهوريين في إدانة طليب، (يلفت الصحافي آرون ماتي إلى أن كل من هؤلاء النواب الديمقراطيين تلقى دعماً مالياً كبيراً من منظمة AIPAC) وجرى اتهامها ب”ترويج روايات كاذبة” و”الدعوة إلى تدمير دولة إسرائيل”. وانتهى التصويت (7 تشرين الثاني) ب ـ234 صوتاً لصالح قرار الإدانة في مقابل 188 صوتاً، لكن عملياً تم الإكتفاء بعقوبة التوبيخ. ورداً على نتيجة التصويت، كان تعليق لطليب في المجلس انتشر بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، قالت فيه ما مفاده، “لا أصدق أنّه علي أن أقول هذا، لكن الفلسطينيون ليسوا مهملات (not disposable)، نحن بشر مثلنا مثل أي أحد، ستّي أرادت فقط أن تحيا حياتها مع الحريّة والكرامة التي نستحقها جميعاً”. وأردفت “71% من الديمقراطيين في ميشيغن يدعمون وقف إطلاق النار، لذا يمكنكم إدانتي (censure me) لكن لا يمكنكم إسكات أصواتهم”.
وفي الفترة نفسها التي أدينت فيها طليب، اجتمعتْ أكثر من 30 منظمة (الكثير منها يهوديّة وعربيّة، أو من المنظمات المناهضة للعنصريّة ضدّ السود، وأخرى ذات خلفيّة حقوقية أو ذات خلفيات دينيّة) للتوقيع على عريضة داعمة لاقتراح نائبة في الكونغرس الأميركي كوري بوش للعمل على وقف إطلاق النار في غزّة. ومما جاء في العريضة، أنّها تستند إلى 66% من أصوات الناخبين الأميركيين وإلى أغلبيّة من الرأي العام في الحزب الديمقراطي. وعموماً كان ما يجري في الكونغرس غير متناسب مع ما يجري في الشارع الأميركي، وكان أبلغ تعبير عن هذا الشرخ، التظاهرة الكبرى في 4 تشرين الثاني في العاصمة واشنطن التي حشدت نحو 300 ألف متظاهر من أطياف عدّة.
ومن المعبّر جدّا أن آخر قرار للكونغرس الأميركي بإدانة أحد نوابه (قبل إدانة طليب) يعود إلى سنة 1842 وقد صدر بحق النائب جوشوا غدغنز بسبب دفاعه عن حقوق العبيد “المُستعبدين”.
المحصّلة السياسيّة بالأرقام
في آخر أسبوعين، شهدْنا تطوّرات خطيرة أبرزها تبنّي الكونغرس قرارا يساوي ما بين “معاداة السامية” ومعاداة الصهيونيّة، بأغلبيّة تجاوزت 300 صوت، وبامتناع 92 من التقدميين عن التصويت. من ناحية أخرى استخدمت الولايات المتحدة حق النقض “الفيتو” مجدداً في مجلس الأمن لمنع قرار وقف الحرب في غزّة. من ناحية أخرى، وعلى بعد سنة تحضيريّة للانتخابات الرئاسية، نسمع ترامب يقول منذ بضعة إيّام” إذا كنت تكره أميركا، وإذا كنت تريد إلغاء إسرائيل، وإذا كنت لا تحب ديننا، وإذا كنت تتعاطف مع الجهاد، فإننا لا نريدك في بلدنا”. ما بدا استنساخاً لخطاباته السابقة. وكلها مؤشرات توحي بتشديد الخناق على مناصري فلسطين. وما بدأت مؤشراته مع بدء AIPAC بتخصيص أموال ضخمة لإسقاط نوّاب “الزمرة” في انتخابات 2024. وكان معبّراً في هذا الصدد استدعاء ثلاثة من رؤساء أعرق الجامعات الأميركية في 5 كانون الأوّل لاستجوابهم حول انتشار “معاداة-السامية” في صفوف طلابهم، وقد شددّن في إجاباتهن على أنّ أي تهمة بالكراهية أو معاداة السامية يجب أن تفهم في سياقها، رافضين إعطاء إجابات حاسمة تستخدمها المستجوبة لوصم أحد ما بتهمة معاداة السامية. وقد استتبع هذا الاستجواب تقديم إحداهن -رئيسة جامعة بنسلفانيا الرسمية- إستقالتها.
بالمقابل، تحوّلت حراكات وقف إطلاق النار إلى توجيه رسائل تحذير للمرشحين للانتخابات، مع شعارات مثل “لا أصوات من الناخبين إذا لم يجرِ وقف لإطلاق النار” أو “في نوفمبر نتذكّر” (In November we remember). وهو التوجّه الذي تعكسه معطيّات إحصائيّة تشير إلى تراجع تأييد الرئيس بايدن من قبل الأميركيين العرب من 59% عام 2020 إلى 17% اليوم. ووفقاً لرئيس المركز العربي الأميركي جايمس زغبي، الأمر لا يتوقف على العرب وحدهم بل أيضاً يشمل مجتمعات السود والآسيويين والأميركيين اللاتينيين الذين تراجعت نسبة تأييدهم للرئيس الحالي. كما أشارت استطلاعات رأي منشورة في 5 كانون الأوّل، إلى تأييد واسع للدعوة إلى وقف دائم لإطلاق النار، بلغ نسبة 61% من الناخبين المحتملين، بأغلبية الديمقراطيين (76% مع و16% ضد) وأغلبية الجمهوريين (49% مع و41% ضد)، وأغلبية الأطراف الأخرى (57% مع و28% ضد).
وكان انتقل المطلب إلى إدارة بايدن نفسه، حيث وجه 700 عضوا منها رسالة إلى الأخير دعوه فيها إلى المطالبة بشكل عاجل بوقف إطلاق النار ووقف تصعيد الصراع “من خلال ضمان الإفراج الفوري عن الرهائن الإسرائيليين والفلسطينيين المحتجزين تعسفياً؛ واستعادة خدمات المياه والوقود والكهرباء وغيرها من الخدمات الأساسية؛ ومرور المساعدات الإنسانية الكافية إلى قطاع غزة”. وأعادوا مؤخراً التذكير بمطلبهم في تظاهرة رمزيّة أمام البيت الأبيض. فيما كان أكّد المفكّر نعوم تشومسكي التغيّر الحاصل من “أسلوب ستاليني في تأييد إسرائيل” إلى تأييد الحقّ الفلسطيني “واحتماليّة أن ينعكس ذلك تغييراً في سياسات الولايات المتحدة. ولعلّ أبرز ما تحقق في الأيّام القليلة الماضية ضمن هذا الاتّجاه، وتحت ضغط الرسائل التي وجهها الناخبون إلى نوابهم (نحو 450 ألف رسالة حتى تاريخه)، فهو ارتفاع عدد النوّاب المؤيدين لوقف إطلاق النار إلى 60 نائباً، وما فتح الباب لانضمام وجوه جديدة من النوّاب، إلى جانب نوّاب “الزمرة” في المؤتمرات والحراكات التي يقيمونها لتكرار الدعوة إلى وقف إطلاق النار.
[1] وهي التيارات النقابيّة والأحزاب الإشتراكيّة التي كانت تهدد بثورة مجتمعيّة أواخر العشرينيّات، وتداركها الرئيس فرنكلين روزفلت في اتفاقه معها على تأمين رزمة مشاريع إصلاحيّة من خلال برامج رعاية إجتماعية وبرامج تنموية عرفت بتسمية”النيو ديل”. وبدأ قمع مختلف هذه التيارات بعد ما تحقق من إصلاحات، وتراجع حضورها في الستينيات، الفترة التي شهدت نمواً في أجور العمّال وتوسعاً للطبقة الوسطى، ثم تراجع حضورها أكثر في السبعينيات مطلع النيوليبراليّة وسياسات ضرب العمل النقابي، وصولاً إلى سرديات نهاية التاريخ مطلع التسعينيّات التي كانت أشبه بإعلان عن هزيمة هذه التيّارت.