لبنان في حالة حرب صريحة ومعلنة مكتملة معايير الإجرام من قبل العدو الإسرائيلي. وفي هكذا حرب الهم الأول هو التخفيف عن المجتمع وإعالة الناس. ما حدث على طرقات النزوح بالأمس لا يصب تمامًا في هذا الهدف للأسف. فقد انتظر الناس من أهلنا لساعات طويلة وصل بعضها إلى 20 ساعة للهروب من آلة الإجرام الإسرائيلي ليقعوا في فخّ غياب خطّة محكمة لتسهيل نزوحهم للأسف. أدّت هذه الأزمة بحسب ما وصلنا من أخبار عن حالات مستعصية لأطفال وعجزة والحاجة الى الغذاء والدواء والمحروقات. وللأسف اضطرّ المئات لقضاء ليلتهم في السيارات فيما تتحدث بعض الاخبار عن حالات وفاة جراء طول الانتظار لكبار السن.
لا شك في أن المسؤولية تقع على عاتق من هم في موقع القرار. ولكن لا يهدف هذا المقال لفتح أي سجال سياسي، فالوقت وقت حرب ولا مجال لكلّ ذلك. الهدف ممّا سيأتي لاحقًا في متن هذا المقال هو تسجيل بعض الملاحظات واقتراح بعض الإرشادات المتواضعة لعلنا نستفيد من أخطاء الأمس لتفادي الأزمة مجددًا في حال تكرار الحاجة إلى النزوح إذا ما استمر الجنون الصهيوني، أو حتى لتنظيم عودة الناس إلى بيوتها وقراها معززين.
في البداية، قبل الغوص فيما حصل على الطرقات، عودة إلى خطة الطوارئ الحكومية[1] التي أقرّت في تشرين الأول 2023 والتي غاب عنها الحديث عن أزمة السير التي يمكن أن تنتج عن موجات النزوح الضخمة رغم الكلام عن الطرق في المحاور العامّة للخطة. ولكن غالبًا القصد هو إعادة إعمار الطرقات والبنى التحتيّة التي ستدمّر جرّاء العدوان. كان الحريّ بالخطّة التشديد على وضع خطّة سير وتنظيمية يكون قوامها النقاط الواردة تباعًا، ومن المهم بالتالي تحديث الخطة لتفادي أي حركة نزوح جديدة أو عودة إلى البلدات والقرى. وأيضًا، يجب التنويه أنه للأسف قد يكون هنالك احتمال حصول موجة نزوح من (أو عودة إلى) المدن لا سيّما الضاحية الجنوبية وهو ما يتطلّب إجراءات أكثر تعقيدًا نظرًا لحجم البنى التحتية ومخدوميتها نسبةً لعدد الناس.
في الأول الخطوات الاستباقية التي كان يجب أن تكون موجودة لمناطق الجنوب والتي من المستحسن أن نقوم بها لباقي المناطق تجنبًا لتكرار الكارثة هو رسم خطة سير من كل منطقة احتمال النزوح (أو العودة إليها) عبر تحديد الخطوط التي يجب أن يسلكها الناس بحسب نقاط انطلاقهم كما تحديد بعض خطوط السير، إن أمكن، بحسب نوع المركبات المستخدمة (الشاحنات والباصات يجب أن يحدّد لهم حارة واحدة مثلًا). الإيجابية الأساس في كل ذلك هو أن نتحكم نحن بالسير ونديره عوضًا من أن نجعله يتراكم ويتحكم هو بقراراتنا.
مع وصول أول إشارات احتمال ورود حركة تنقل جماعية كثيفة، يجب التعميم على قوى الأمن والشرطة البلدية وحتى الجمعيات الأهلية التواجد عند التقاطعات الأساسية، مداخل ومخارج الأوتوستراد. السرعة مطلوبة في هكذا تحرك لأنه تحرك استباقي هدفه أن يكون العناصر متواجدين على الأرض وفعّالين قبل بدء الزحمة حيث أن انتظار التحرك إلى حين حصول الزحمة يضعف الفعالية على الأرض. من المفيد أن يكون التنسيق بين مختلف القطع والأفراد بأقصى درجة لتأمين أفضل فعالية وذلك يتطلب لربما رسم خطة مسبقة (حتى لدقائق قبل انتشارهم) أو تواصل دائم على الأرض قدر الإمكان.
مع تشكّل الزحمة، يقتضي استطلاع النقاط السوداء التي تعرقل السير حقيقة. لذا من الواجب أن تكون العناصر على الأرض بعضها متحرك غير ثابت في نقطة واحدة. ومن المستحسن أيضًا أن يختار العناصر نقطة مرتفعة (سطح مبنى مثلًا) لرؤية أفضل لنقاط العقد. وان لم يكن ذلك ممكنًا (في حالة الأوتوسترادات مثلًا)، يمكن الطلب من الجيش مثلا الاستطلاع عبر مروحية (إن لم يكن في ذلك أي عوائق أمنية).
أيضًا، التواجد على الأرض لا يجب ان يقتصر على الاكتفاء بالتواجد عند النقاط الأساسية بل أيضًا بين الناس على طول خطوط الزحمة. الهدف منه هو التأكد من الحالات المستعصية (حالات مرضية، أعطال ميكانيكية،…) كما محاولة تأمين حاجات الناس من الأساسيات كالمياه مثلًا. قد تمتدّ الزحمة على طول كيلومترات طويلة. لذا من الأفضل الاستعانة بالدراجات النارية أو الهوائية لتسهيل التنقل بين السيارات. كما يساعد التواجد بين السيارات على تسهيل حركة المرور عبر مراقبة المخالفات والتصرفات التي قد تعرقل السير بشكل إضافي ومعالجتها بسرعة قبل أن تتفاقم نتائجها. فضلًا عن إشعار الناس بأن “الدولة” بقربهم ومعهم.
بالمناسبة يجب الحديث أنه من المهم في الحالات المستعصية كما حصل أمس زيادة عدد الخطوط في اتّجاه واحد. ولكن إن لم يتم ذلك بعناية ودراية قد يزيد الأمور تعقيدًا بدل حلّها خاصة وأن الزحمة تتشكل بشكل أساسي عن نقاط تغيير خطوط وبالتالي زيادة الخطوط يزيد من هذه الاحتمالية.
من المهم أيضًا على الأرض العمل على إبقاء حالة الطوارئ (على الأوتوستراد) خالية تمامًا مهما بلغ حجم الزحام وذلك لتأمين تنقلات خدمات الطوارئ والأمن والإسعافات. ولكن ذلك الحال تمامًا لكان العديد من الحالات الصعبة وحاجات الناس قد تأمنت.
خارج العمل على الأرض يأتي أيضًا عمل ليس بالسهل. يتطلب ذلك أولًا حملة إعلامية استباقية وسريعة بهدف شرح الخطة المرسومة والخطوط المتبعة للناس مع التركيز على الراديو ووسائل التواصل الاجتماعي أكثر من التلفزيونات. كما من المهمّ تنبيه الناس لبعض المخاطر التي قد تنجم عن طول الانتظار في الزحمة كما الحاجات الأساسية. من المفهوم أن الناس في حالة هروب من الموت قد لا يكون ذلك همها الأول لذا بقدر ما تأتي هذه الحملات باكرًا ومتكررة بقدر ما تأتي نتيجتها أفضل.
في خضم الزحمة الواجب تفعيل الحملات الأهلية. وهو ما رأيناه بطريقة رائعة على وسائل التواصل الاجتماعي بالأمس إلّا أن الأمر بقي مقتصرًا على المبادرات الفردية والتواصل الفردي. من الأفضل أن تقوم قوى الأمن مثلًا بإنشاء غرفة طوارئ للحالات المشابهة يكون هدفها إدارة النداءات والاستجابات (الشعبية أو الرسمية) بشكل مركزي. غرفة التحكم المروري تبدو لي هيكلا تنظيميا قادرا على تأمين هكذا خدمة. وبالحديث عن هذه الغرفة، كان لافتًا غيابها شبه التام بالأمس عن التحديثات على وسائل التواصل كما بيانات قوى الأمن الشحيحة جدًا. بالمقابل، كان من المفترض أن يكون هنالك تحديث وبيانات رسمية دورية (كل 15 دقيقة مثلًا) يتم خلال إعلام الناس بوضع الطرقات كما بالوقت والمسافة المقدّرين للزحمة على نقاط أساسية مثلًا. أهمية هذا الإجراء يأتي بشكل خاصّ في وقت انقطعت الاتّصالات مع العديد من الناس العالقة في الزحمة مما ولّد خوفا لدى أقربائهم غير القادرين على التواصل معهم. إعلام الناس بحجم الزحمة ونقاط تمركزها قد يساهم في تخفيف هذا التوتر.
من المهمّ أيضًا، التذكير ضمن حملة إعلامية بالتجهيزات الأساسية في كلّ مركبة دومًا (ليس فقط في حالات الزحام) من معدات أولية (إطار احتياطي، كابلات بطارية، عدة أساسية،…)، كما حقيبة إسعافات أولية، اطفائية حرائق كما التنبه إلى أساسيات ميكانيك السيارة دومًا كمستوى المياه أو المحروقات.
بالنهاية، على أمل ألّا تتكرر مأساة الأمس وأن تكون الزحمة الوحيدة المشابهة هي بطريق العودة إلى قرانا ومنازلنا فقط، يجب الاستفادة من هذه التجربة لتفادي الصعوبات في أي زحمة ومناسبة للتذكير على دور القوى الأمنية والبلديات وكلّ السلطات المعنية على الأرض، وجوب رسم خطة استباقية مرفقة بإحاطة إعلامية والتواجد بقرب الناس.
[1] https://www.pseau.org/outils/ouvrages/mee_national_emergency_plan_2023_2023.pdf