أثار إضراب المصارف المفتوح الذي دخل أسبوعه الثالث ردّة فعل في الشارع مؤخرًا بلغت حد إحراق الإطارات أمام واجهات البنوك وأمام منزل رئيس جمعية المصارف سليم صفير. أسباب ذلك كثيرة لا سيّما إزاء الضغوط الكبيرة التي يمارسها أصحاب هذه البنوك للتفلّت من المسؤولية عن إفلاس بنوكهم، وفي مواجهة الإدارة غير المسؤولة للبنك المركزي، التي تراكم المزيد من الخسائر على الادخارات بالليرة والدولار، ولا سيّما ادّخارات الضمان الاجتماعي والنقابات المهنية وادّخارات الأسر. وتتعمّد هذه الإدارة تعميم هذه الخسائر وتركيزها على أصحاب الأجور بالليرة، الذين يساهمون في إعالة نحو 90% من الأسر المقيمة في لبنان، وفق التحديث الذي نشرته إدارة الإحصاء المركزي لمسح القوى العاملة في عام 2022.
وأصبح واضحًا أنّ إضراب البنوك هدفه إعاقة سير الإجراءات القضائية لملاحقة شبهات الاحتيال وتبييض الأموال والاستحواذ على جزء من احتياطات البنك المركزي بالعملة الصعبة، والمطالبة بقوننة الإجراءات التعسّفية الاستنسابية التي اتخذتها المصارف منذ إقفالها لمدة 3 أسابيع متتالية في شهر تشرين الأول 2019، والتي قضت بمنع أكثرية أصحاب الودائع من التصرّف بودائعهم في حين سمحت لبعض أصحاب الودائع الكبيرة والنافذين بتحويل أموالهم الى الخارج أو سحبها نقدًا أو تسديد قروضهم بالعملات الأجنبية بواسطة الدولار المصرفي (اللولار) أو بالليرة على سعر الصرف الرسمي (1507.50 ليرة للدولار).
في مقابلة مع “المفكرة القانونية” ينطلق الصحافي الاقتصادي، محمد زبيب ورئيس تحرير موقع “صفر”، من التعليق على إضراب المصارف وتحركات المودعين، ليرفض مبدأ يتمّ التسويق له بين بعض الجهات التي تشارك في التحركات ضدّ المصارف وهو تأميم الخسائر والمساواة بين أصحاب الثروات الضخمة وأصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة ومدّخرات الأسر والنقابات المهنية. ويفنّد أسباب استحالة “رد الودائع” فورًا أو “إعادة تكوينها” كما يجري الترويج لذلك والطرق التي يصفها بـ “الخيالية” للقيام بذلك سواء إعادة إنتاج النموذج التمويلي القائم على تحويلات المغتربين والديون الخارجية أو إيرادات الغاز المزعومة أو عبر الاستحواذ على أصول الدولة. ويدعو المودعين إلى خوض معركة استرجاع أموالهم القابلة للاسترداد، بوضع اليد على أصول المصارف وليس رساميلها فقط.
توزيع الخسائر بين أطراف القطاع المصرفي وأصحاب الودائع المشبوهة
يلفت زبيب إلى “مفارقة أنّ البنوك هي التي تصعّد وليس مودعوها أو المتضرّرون من إدارة الإفلاس كما هي جارية منذ عام 2019. ويعتقد أنّ هذه المفارقة تعني أمورًا كثيرة، ولكن أهمها أنّ تصعيد البنوك ضغوطها يعني أنّنا دخلنا طورًا جديدًا من الأزمة المستطيلة، حيث لم يعد ممكنًا الاستمرار بالإدارة نفسها التي يتمّ اعتمادها منذ أكثر من 3 سنوات، في حين يشعر المصرفيون أنّهم ما زالوا يمتلكون مساحة للتحرّك ضمن النظام القائم وفرض مصالحهم بوصفها تمثل المصالح العامّة. وهذا يظهر من الخطاب السائد عن أنّ ملاحقة أي مصرف أو مصرفي هو بمثابة تهديد وجودي للدولة والاقتصاد والمجتمع عمومًا”.
ويعتبر أنّه “على الرغم من ذلك، لم تنجح الأطر القائمة لتمثيل مصالح أصحاب الودائع في استقطابهم لتصعيد تحرّكاتهم وضغوطهم المقابلة. كما لم تنجح في طرح برنامج أو مشروع يمكن أن يشكّل إطارًا عامًّا لحشد التأييد من قاعدة اجتماعية واسعة، أوسع بكثير من قاعدة أصحاب الودائع ومطلبهم الفئوي المجرّد باسترداد ودائعهم كاملة من دون نقصان”.
ويرى أنّ تحرّكات أصحاب الودائع باتت مثل موجات تعلو وتهبط بالتزامن مع قرارات مصرف لبنان وتصرفات المصارف والإجراءات الاستنسابية التعسفية وغير القانونية. وبرأيه، يتجاذب هذه التحرّكات اتّجاهان رئيسان: الأول يتخذ طابعًا فرديًا، يتمثل بدخول مودعين أفراد المصارف من أجل “استيفاء الحق بالذات”، وهو المقابل شبه الوحيد لنهج “الإفلات من العقاب” الذي يرمي إلى إعفاء المتسبّبين بإفلاس المصارف من تحمّل مسؤولياتهم. أمّا الاتجاه الثاني، فهو الاتجاه الذي يتسلّح بكفالة الدستور للملكية الخاصة ومبدأ المساواة بين الجميع من دون تمييز أو تفضيل، ويستخدم الحق في التقاضي هنا وفي الخارج، والعرائض التي كان آخرها ما سمّي “شرعة حقوق المودعين“، والتي وقّع عليها عدد من النواب: ملحم خلف، ميشال معوّض، وضّاح صادق، أشرف ريفي، بلال الشحيمي، نجاة عون، الياس جرادي، وفؤاد مخزومي، بالإضافة إلى الوزير عصام شرف الدين وممثلي “صرخة المودعين” و”لجنة المودعين”. وقد رفضت “رابطة المودعين” مع عدد من المجموعات السياسية (لحقي، لنا، المرصد الشعبي لمكافحة الفساد، بيروت مدينتي، الشعب يقاوم الفساد، بيروت تقاوم، لبنان التغيير، التنظيم الشعبي الناصري وشبكة مدى) هذه الشرعة، لأنّ “ظاهرها التمسّك بالقانون وباطنها حماية مصالح الأقوى على حساب غالبية المواطنين والمودعين”. ويوضح أنّ “الشرعة المذكورة تعفي المصارف وأصحابها وإداراتها من مسؤولية الإفلاس وتسعى إلى تأميم الخسائر وتحميلها لجميع السكّان، كما تسعى إلى المساواة بين أصحاب الثروات الضخمة وأصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة ومدّخرات الأسر والنقابات المهنية. وهنا يكمن لبّ الصراع الجاري”.
يتابع زبيب أنّ “21% فقط من الأشخاص البالغين في لبنان لديهم حسابات مصرفية، وفق إحصاءات البنك الدولي عن الشمول المالي، أي أنّ 79% ليسوا معنيين مباشرة بمسألة الودائع. وهذا لا يعني أبدًا أنّ أصحاب الودائع ليس لديهم حقوق ثابتة. إلّا أنّ المطالبة بهذه الحقوق، عبر تحميل الدولة (أي جميع السكان) الخسائر المحققة في المصارف واللجوء إلى مبدأ المساواة بين المواطنين المكفول في الدستور لتوزيع هذه الخسائر، يتناقض مع مبدأ دستوري آخر لا يريد أحد الحديث عنه، وهي العدالة الاجتماعية التي تسبق المساواة القانونية في ترتيب الفقرة “ج” في مقدمة الدستور. فالمبدأ الأساسي الذي يجب أن يحكم مسألة الودائع هو أنّ الخسائر وقعت في الجهاز المصرفي، ويجب أن تتوزّع بين الأطراف داخله، بدءًا من مالكي أسهم المصارف والمديرين الكبار (ليس عبر شطب الرساميل فقط، بل من جيوبهم الخاصة أيضًا وأصولهم وثرواتهم المتراكمة في الداخل والخارج)، وثم أصحاب الودائع المشبوهة عبر تطبيق قوانين الإثراء غير المشروع والجريمة والاحتيال والاعتداء على المال العام والتهرّب الضريبي وتبييض الأموال، وصولًا إلى أصحاب الودائع الكبيرة التي تراكمت بفعل الفوائد السخيّة والامتيازات والاحتكارات والشراكات بين القطاع الخاص والقطاع العام (العقود والمقاولات والشراء العام). ويجب توفير الحماية الكاملة لمدّخرات الأسر الفقيرة والمتوسطة والنقابات المهنية والضمان الاجتماعي والمال العام، من دون إغفال الحاجة إلى المحاسبة على المستويات السياسية والقضائية والإدارية، بما فيها مسائل مكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة التي جرى نهب الكثير منها بموجب قوانين واجتهادات فاسدة”.
عن استحالة ردّ الودائع: تفكيك الوهم
يرى زبيب أنّه من غير الواقعي بتاتًا إيهام أصحاب الودائع بوجود إمكانية لاسترداد الودائع كلّها وفورًا. هذا مستحيل في كل السيناريوهات التي يمكن تخيّلها، بما في ذلك سيناريو تأميم الخسائر وتحميلها لجميع السكان، أو السيناريو الذي يريد نهب ثروة الغاز والنفط قبل اكتشافها، أو السيناريو الساذج الذي يتحدّث عن “إعادة تكوين الودائع”. وهذا المصطلح يحاول أن يصوّر المال كناتج مادي لعملية كيميائية تجري في المختبر. ويضيف: “التفسير الوحيد لوهم إعادة تكوين الودائع هو سعي الأوليغارشية بجناحيها السياسي والمصرفي إلى تنظيم عملية تجريد تمتد لعقود طويلة مقبلة، وتؤدّي إلى استئناف مراكمة الثروة لدى القلّة على حساب مستوى معيشة أكثرية السكان وملكياتهم الخاصة والعامة. هذه العملية كأنها تقول: سنواصل نهبكم، فكما راكمنا الجزء الأكبر من الودائع على مدى العقود السابقة عبر الاستيلاء على ناتج عملكم وجهدكم في الداخل والخارج (أجور المقيمين وتحويلات المهاجرين)، سنعاود الكرّة لعقود مقبلة بحجة استعادة هذه الودائع”.
ويشير زبيب إلى 3 حقائق لا يمكن تجاوزها في أي تحليل موضوعي لمسألة الإفلاس المصرفي ومصير الودائع التي تكدّست على مدى تاريخي طويل، ولا سيما منذ سنوات الحرب اللبنانية وما أعقبها حتى اليوم (اقتصاد الحرب والمتاجرة بالولاءات الخارجية والتمويل السياسي وقضم الدولة وإعادة الإعمار النيوليبرالية والاحتكارات والفساد والمحاصصة والمحسوبية والزبائنية والإعفاءات الضريبية والمخالفات القانونية والتعدّيات على الأملاك العامّة والخاصة وغيرها من المفردات الكثيرة التي تحاول وصف وحشية النظام الاقتصادي القائم وعجزه الدائم، في ظل نموذجه التاريخي المعادي للدولة الاجتماعية، عن إيجاد مستوى من التوازن والاستقرار يحدّ من الأزمات والنزاعات والصراعات والحروب).
الحقيقة الأولى: بحسب زبيب هي “أنّ الجهاز المصرفي برمّته (مصرف لبنان والمصارف التجارية) مفلس وجرى الاعتراف حتى الآن بخسائر محققة تتجاوز قيمتها 73 مليار دولار (سنهمل الأدلة التي تقول إن قيمة الخسائر الفعلية أكثر بكثير). فإذا أردنا أن نحاكي وهم استعادة أو “إعادة تكوين” الودائع كلّها، فهذا يعني بالأرقام أنّ خسائر القطاع المصرفي (بالعملات الأجنبية فقط مع إهمال الخسائر الفادحة جدًا بالليرة) تساوي ثلاثة أرباع الودائع القائمة حاليًا في ميزانيات المصارف، وهي توازي 4 مرّات قيمة الناتج المحلي الإجمالي، أي أن تخيّل حجم هذه الخسائر يوازي مجمل عمل المقيمين في لبنان جميعهم لمدّة 4 سنوات، فإذا افترضنا أنّ ردّ الودائع ممكن من دون ترتيب المسؤوليات والديون وفرض سياسات ومؤسسات في سياق إصلاح راديكالي للنظام الاقتصادي (السياسي)، فهذا يشبه أن نعمل جميعًا بكد وجهد، وننتج دخلًا وثروة على مدى 4 سنوات، من أجل أن نسدّد الخسائر المصرفية من دون أي حساب للحاجات الضرورية والكمالية للمقيمين في لبنان، أي من دون أكل وشرب وسكن وصحة وتعليم ونقل وإنترنت. فإذا احتسبنا الحد الأدنى من هذه الحاجات، أي الحد الذي لا يجعل الناس تأكل بعضها، فإنّ تخيّل توزيع الخسائر وردّ الودائع من الناتج المحلي الإجمالي (الدخل المتحقق في الاقتصاد الداخلي) لا يعني سوى تخيّل البؤس الذي سيستمرّ لعشرات السنين المقبلة والثراء الذي ستحظى به قلّة ضئيلة ستستحوذ على عملنا وتمنع تقدّمنا وتحرمنا من حقوقنا في التطور والابتكار والرفاهية”.
ويحذّر زبيب من أنّ “تخيّل إعادة إنتاج النموذج التمويلي القائم على تحويلات المغتربين والديون الخارجية لتمويل “إعادة تكوين الودائع”، عبر إيجاد الآليات لتحويل هذه التدفقات إلى ودائع جديدة أو مدفوعات للبنوك لتسديد الودائع القديمة، ليس إلّا مخطط احتيالي (بونزي) جديد، علمًا أنّ تحويلات العاملين في الخارج تتراوح بين 6 و7 مليارات دولار سنويًا وفق تقديرات البنك الدولي، هي مخصّصة بجزء مهمّ منها لتمويل استهلاك الأسر المتلقّية لهذه التحويلات، وتغذّي الاستيراد بالدرجة الأولى، أي أنّ الصافي الذي يمكن إعادة توظيفه في لبنان وفق هذا النموذج لا يشكّل إلّا نسبة قليلة من التحويلات المتدفقة”.
الحقيقة الثانية أنّه “يجري الترويج أننا سنجد الغاز الوفير في البحر، وسنستخرجه فورًا، ونبيعه كلّه بأرضه، ونكسب الأموال السخيّة، ونتحوّل إلى دولة نفطية تستخرج الريوع الكافية لتسديد الديون وردّ الودائع ومراكمة رأس المال وتمويل الاستهلاك وجني الأرباح في آن واحد. لنفترض أنّنا اكتشفنا كميات تجارية قابلة للاستخراج في بحرنا، وهذا غير مؤكّد حتى الآن، ولنفترض أنّ مثل هذا الاكتشاف يولّد حلولًا وليس مشاكل ولنفترض أنّ حصّة الدولة اللبنانية من إيرادات الغاز ستتحوّل كلّها إلى نقد أجنبي، وهذا افتراض عبثي لا يأخذ بالحسبان تلبية الطلب الداخلي على الطاقة قبل أي حساب آخر والذي ستتحقق إيراداته بالليرة، إلّا إذا كانت الدولة اللبنانية ستتعامل مع نفسها وسكانها كمورد خارجي، أجنبي، ولا تعتبر أنّ التنمية هي وظيفتها بالدرجة الأولى. إذا افترضنا كلّ ذلك كيف ستسدّد الودائع من إيرادات الغاز؟ وفق التجارب المحققة في بلدان الاكتشافات النفطية، إنّ عملية التجهيز والتنقيب عن الغاز واستخراجه ونقله تستغرق ما بين 6 سنوات و12 سنة، تبعًا للعوامل والظروف والمصادفات والقدرات على التعامل معها. وبالتالي، لن تتحقق الاكتشافات كلّها في وقت واحد، ولن يتم استخراجها وبيعها في الوقت نفسه، فهذا يعني أنّ عملية استخراج الغاز نفسه تمتدّ على مدى زمني طويل، وبالتالي تحويل الغاز إلى نقد أجنبي هي عملية تدريجية طويلة المدى. فلنفترض أننا سنخصّص نسبة معيّنة من إيرادات الغاز بالنقد الأجنبي من أجل “إعادة تكوين الودائع” وردّها الى أصحابها، فكم تستغرق هذه العملية؟ 100 سنة؟ حتى ولو قررنا أن نعطي المصارف نصف إيرادات الغاز وفق أكثر الاحتمالات تفاؤلًا فإنّ الحصول على 73 مليار دولار يستغرق ثلاثة أرباع القرن المقبل على أقل تقدير”.
ولا يخرج طرح ما يسمّى “الصندوق السيادي” عن هذه الحقيقة، برأي زبيب، “مهما تعدّدت الأسماء التي يحملها، فالترويج لسرديّة مبتذلة تقول إنّ الناس وضعت أموالها في البنوك وأن البنوك وضعتها في مصرف لبنان ومصرف لبنان وضعها في الدولة والدولة نهبها اللصوص والأشرار، هو تمثيل خاطئ كليًا، لأنّه يصوّر الدولة كيانًا خاصًا، مثل أيّ مستثمر ومضارب ومدين، عليه أن يتحمّل نتيجة أفعاله. وبالتالي تريد هذه السردية أن تكرّس في الوعي العام أنّ الدولة هي التي أفلست، وليست المصارف، وبالتالي يجب عدم تصفية المصارف وإنّما تصفية الدولة، أي الاستحواذ على موجوداتها وأصولها لرد الأموال إلى المصارف لكي تردّ بدورها الودائع. لنتجاهل ما يعنيه كل ذلك، ولنفترض أننا اعتمدنا معايير التصفية في حالات الإفلاس التجاري، فكم تبلغ القيمة السوقية لأصول الدولة؟ وما هي قيمة الأصول القابلة للتسييل؟ ومتى؟ ومن سيشتري؟ وبأي عملة؟ فإذا أخذنا كل العوامل والظروف ورسمنا سيناريو تفاؤليًا جدًا فإنّنا لن نحصل على رقم يوازي 1 أو 2% سنويًا من مجمل الخسائر المصرفية المعترف بها”.
أمّا الحقيقة الثالثة، فهي “المتعلّقة بالخدعة التي تكشفها أعداد الحسابات المصرفية وقيمة الودائع، إذ يوجد نحو مليونين و300 ألف حساب وفق آخر الإحصاءات، منها مليون و300 ألف حساب متناهية الصغر، ولا يمكن اعتبارها ودائع بالمعنى الدقيق للكلمة، إذ تقل قيمة كل حساب عن 3 آلاف دولار أو 5 ملايين ليرة. وهذا يضع سلفًا أكثر من 56% من مجمل الحسابات خارج بساط البحث، ولا تشكّل قيمة هذه الحسابات سوى أقل من 0.7% من مجمل الودائع، أو 0.3% إذا احتسبنا الودائع بالعملات الأجنبية فقط. والأرجح أنّ هذه الحسابات بمعظمها هي حسابات توطين أجور أو حسابات مقترنة بالقروض الشخصية والسكنية، والتي اضطرّ الناس إلى أخذها بسبب الأوضاع التي فرضت عليهم. وكما هو معروف، إذا اضطرّ شخص أن يشتري سيارة بواسطة قرض، عليه أن يفتح حسابًا ليسدّد من خلاله هذا القرض. وبالتالي إنّ الكتلة الأكبر من الحسابات المصرفية ليس لها علاقة إطلاقًا بـ”خبرية” الودائع.
ووفق ميزانيات مصرف لبنان والمصارف المجمّعة، فإنّ الأصول التي لا تزال منتجة أو قابلة للتسييل على المدى المنظور لا تقلّ عن 30 مليار دولار، وهي تكفي لضمان الودائع مع احتساب الأكلاف المختلفة حتى 100 ألف دولار. وهذا يعني إخراج أكثر من 90% من الحسابات المصرفية من دون خسائر إضافية”.
أقل من 500 شخص يقودون معركة الودائع
يعتبر زبيب أنّ “مسألة الودائع تخصّ نحو 200 ألف حساب مصرفي، تستحوذ على أكثر من 85% من الودائع بالعملات الأجنبية، من ضمنها نحو 1800 حساب فقط يحتوي كل منها على 5 ملايين دولار وما فوق. ويمكن التقدير أنّها تعود إلى أقل من 500 فرد يستحوذون وحدهم على أكثر من 20 مليار دولار من مجمل الودائع بالعملات الأجنبية. وهؤلاء هم فعليًا الذي يقودون معركة الودائع ويأخذون أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة رهينة محاولاتهم التخفيف قدر المستطاع من خسائرهم وتحميلها لجميع السكان”.
ويسأل “هل يجوز في ظل الأزمة التي يعيشها لبنان أن نعتبر كل الناس سواسية تجاه مشكلة الودائع، وأن كل المودعين سواسية تجاه الخسائر. نطرح دائمًا شعارات عن “قدسية الودائع” و”استعادة كامل الودائع”. هذه الشعارات خاطئة وتجعل الصراع يحيد عن مساره الصحيح. هناك خسائر وقعت، وهناك مسؤوليات قانونية وجنائية حول ذلك يجب أن تطبّق. ولكن هناك الكتلة الأكبر من الخسائر نتجت عن استفادة هذه القلة القليلة من المودعين من كل ما حصل في الفترات السابقة وراكمت ثروات ضخمة جدًا، جزء منها لا يزال في الودائع، لذا لا يمكن أن نساوي هؤلاء مع بقية الناس”.
ويتابع: “هل يجوز أنّ شخصًا ما قبض تعويضه من الضمان الاجتماعي وأودعه بالليرة اللبنانية في البنك، وتبخر تعويضه كليًا، لا أحد يذكره؟ لنتصوّر، أنّ قيمة التعويض الذي أودعه في المصرف هي 100 مليون ليرة أي ما كان يعادل 65 ألف دولار، قبل انهيار الليرة، أما اليوم فهذا المبلغ لم يعد يتعدّى 1700 دولار. هذه هي الخسارة. وهذا من يجب أن نفكر فيه، وليس بكبار المودعين الذين راكموا ثرواتهم من خلال تراكم الفوائد. وبالتالي تبني مبدأ قدسية الودائع والمساواة بين المودعين هي مقاربة خاطئة ومدمرة اجتماعيًا. فالعدالة لا تعني أن يؤمم من استفاد من كل المراحل السابقة وراكم الثروات خسائره لكل المجتمع اللبناني ليدفعها عنه”.
استعادة الودائع بوضع اليد على أصول المصارف
يعتقد زبيب أنّ مصلحة أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة وأعضاء النقابات المهنيّة والعمال الذين يتحمّلون خسائر فادحة في تعويضاتهم وأموالهم التقاعدية ومدّخراتهم أن يتّحدوا في برنامج اقتصادي لديه القدرة على حشد التأييد من قاعدة اجتماعية واسعة. وبالتالي يجب أن يفكّوا ارتباطهم بأصحاب المصارف والودائع الكبيرة، ويساهموا في التصدّي لكلّ المحاولات الجارية لإنقاذ هؤلاء على حساب جميع السكان.
ويرى أنّ مصلحة هؤلاء تكون في “خوض معركة رفع السرية المصرفية عن كل الحسابات، نريد معرفة مصدر أموال كل شخص. إذا كان له حق نثبت ذلك على الدفتر. ومن ليس لديه الحق نسترجعها منه ونلاحقه على ما اقترف. من الذي تهرب من الضريبة، من عمل في تبييض الأموال، من تاجر بالمخدرات والسلاح، من احتكر، من تعامل بالفساد بعقود الدولة، من اعتدى على ملك خاص أو عام، من اعتدى على مشاعات، من باع أراضي لا يملكها، من عمل كسارات، من استورد بضائع فاسدة؟ وغير ذلك، كل هؤلاء لا حقوق لهم”.
وشدد على ضرورة أن “يخوض المودعون معركة استرجاع أموالهم القابلة للاسترداد، بوضع اليد على أصول المصارف وليس رساميلها فقط، وأن يكون مطلبهم بأنّ هذه الأصول التي ما زالت موجودة ولها قيمة مالية يجب ألّا تبقى تحت إدارة المسؤولين عن انهيار المصارف وخسارة الودائع، وبالتالي يجب أن يكون هناك ما يشبه “كومونة المودعين” من أصحاب الحسابات الصغيرة والمتوسطة وأن يجدوا طريقة لتصبح هذه الأصول تحت إشرافهم”.