في الوقتِ المستقطع بين استبدادَين، عرفتُ كارم يحيى في تونس مراسلاً لجريدة الأهرام، والتي كتَب عن “تاريخها القاسي” كتاباً فريداً في نوعه. وعرفتُ في كارم، افتتاناً بتونس وتجربتها وثقافتها، لم أجده حتى عند التونسيين أنفسهم. وقد تركَت هذه الفتنة آثارها في كتبٍ نشرها تباعاً حول الإعلام في تونس وتجربة الانتقال الديمقراطي، و”معجم للعاميتين التونسية والمصرية مع الفصحى”، بالاشتراك مع الصديق شريف الزيتوني. وآخرها كتابه الصادر حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات: “هشام جعيّط: حوار في الفكر والتاريخ والسيرة”، وهو حصيلة حواراتٍ أجراها مع جعيّط قبل رحيله، وطالت بالسؤال والسجال، الأطراف الأساسية من سيرته الشخصية والفكرية. لم يكتف فيها يحي بطرح الأسئلة، بل مضى بعيداً لاقتفاء أثر جعيّط في أرشيفات المكتبة الوطنية، أينَ عثر على مقالات البدايات في “مجلة الفكرّ”.
يتوزّع الكتاب على أربعة فصولٍ؛ هي أربعة حواراتٍ شَغلَ كل واحدٍ منها موضوعاً. “الأوّل أشبه بمناقشة عامة تذهب إلى مساحات عدة بهدف إلقاء الضوء على أفكار المثقف المبدع في لحظتها الراهنة عند إجراء الحوار والعلاقة بينها وبين الخطوط العامة لأفكاره وبحوثه في زمان يمتدّ لنحو نصف القرن”، وحَمل عنوان “بنظرة طائر”. أما الثاني فقد كُرِّسَ لجذور جعيط العائلية وطفولته البعيدة “وإعادة اكتشاف مصادر التكوين الثقافي والمعرفي للرجل”، فيما انشغلَ الثالث والرابع بثلاثية السيرة النبوية، العمل الأهم والأبرز في مسيرة جعيط الفكرية والعلمية. كما اشتغلَ الكاتب على هامش مُستفِيض من التعليقات والشروح والتعريفات جُعِلَت من قراءة الكتاب للمختصّ وغير المختص يسيرةً، مع وضعه قوائم ببليوغرافية وكرونولوجيا زمنية تَضبط للقارئ إطاراً تاريخياً لمَا يَسرده جعيط في ثنايا الحوار الطويل.
ما نعرفه عن هشام جعيط، كان دائماً اسم عائلته الأرستقراطية وكُتبه. لكن سيرته الشخصية بقيَت دائماً مجلّلةً بالغبشّ. نعتقد أننا نعرفه ولكن عندما نُحاول رسم صورةٍ له عن قرب نكتشف جهلنا به، لاسيما نحن الأجيال التي جاءت بعد أن استوى هو عَلَماً فكرياً بارزاً. لذلك أعتقد أن القيمة الأساسية لكتاب كارم يحيى تكمن في الفصل الثاني الذي يفتح فيه جعيط قلبه للحديث عن نفسه لا عن التاريخ والكتب والمعرفة والفلسفة. فنُدرة ما كُتِب عن الرجل من هذه الزاوية الشخصية تَجعل من الكتاب مهمّاً، وضرورياً لتكتمل صورة المفكر عندنا وجهًا وقَفَا. أما الجانب الثاني -والمهم في تقديري- هو ما توزّع بين الحوارات عن علاقة جعيط بالسلطة، وأساساً الرئيس الحبيب بورقيبة، والتي تُلخّص، في جانبٍ منها، علاقة المثقف بالسلطة في عصر الحزب الواحد والزعيم الأوحد.
الطفل الذي رأى ثعلبَ الصحراء
يسأل كارم يحيى هشام جعيط قائلاً : “هل فَكّرت يوما أن تكتب سيرتك الذاتية”، فيُجيب : “لم أفَكّر، كنت أرى دائما أن هناك أولويات في الكتابة أهم بالنسبة لي”. لم يكن جعيط مهتماً بتاريخه الوجودي الصغير، لكن هذا التاريخ -على صغره- هو ما سيقوده لاحقاً إلى الاهتمام بالتاريخ الكبير للأمم والأديان. وُلدَ في عام 1935 في عائلة كان عميدها من كبار شيوخ المالكية في جامع الزيتونة، وجَدّه لأمِّه من كبار شيوخ المذهب الحنفي. لكن أول ومضات الذاكرة عنده كانت صور مُفرّقة من الحرب العالمية الثانية، التي دارت بعض فصولها في تونس. مع اشتداد الحرب قرّرَت العائلة اللجوء إلى ضاحية حمام الأنف، الضاحية الجنوبية للعاصمة تونس، بعد سقوط قنبلة قرب بيتهم في مدينة تونس القديمة، حيث اعتُبرَت الضاحية، بوصفها مكاناً للإقامة المؤقتة للمنصف باي أمير البلاد في ذلك الوقت، ملاذاً آمناً. وفي تلك الفسحة الآمنة سيرى الطفل ذو السبع سنوات المارشال إرفين روميل قائد القوات الألمانية في شمال إفريقيا : “رأيت روميل بنفسي . لم نكن نسكن بعيداً عن قصر الباي. و يوماً ما سمعت أو استرقت السمع أن الباي سيستقبل الجنرال روميل و قادته بعدما جاءوا لوداعه في حمام الأنف قبل أن يغادروا إلى ألمانيا. وهذا على بعد خمسين متراً من دارنا. وأخذنا نتفرج . ورأيت سيارات الألمان قد نزلوا مرتدين الملابس الجلد .ثم دخلوا القصر (…)كل هذا نسيته على الفور. لكن عندما كبرت وعيت بمعنى الحرب”.
تزامنت الحرب مع دخول الصبي إلى قسم الصغار في المدرسة الصادقية دون أن يمرّ كأقرانِه في ذلك الوقت بمرحلة الكُتاب. فلم يكن تردّده على التعليم الديني إلا في عطلات الصيف، حيث أودَعَته العائلة في كتّاب قريب من باب سويقة، أين سيلتقي أول مرةٍ بوجوه من حزب الدستور: “عَرفت قادة هذا الوسط الوطني ورموزه وأنا صغير. وحتى بورقيبة عرفته وأنا عمري 14 سنة. هؤلاء “أولاد الحومة”. ومثل ما يقول نجيب محفوظ، هم أولاد حارتنا”. كان ذلك بتأثيرٍ من والده “الشيخ الزيتوني العصري” كما يصفه، والذي كان ميّالاً نحو الثقافة الغربية في تفاصيل الحياة : “كان يعيش نمط الحياة العصري. وهو الذي أحبّ أن يُدخلني الصادقية. مَثلاً عمومتي، ولم يكن بيني وبينهم فارق كبير في العمر والسنوات، أدخلهم جدي جامع الزيتونة بعدما تجاوزوا سنوات قليلة بالتعليم الابتدائي. وحتى من جهة بيت أمي كلهم ذهبوا ودرَسوا في جامع الزيتونة. ولم يعرفوا تعليماً عصرياً (…) كنا نأكل على طاولة على النمط الفرنسي بالملعقة والسكين والشوكة. وكنت منذ صباي ألبس ملابس أوروبية (…) حتى أمي كانت تلبس داخل الدار على الموضة الباريسية”.
في الوقت نفسه كان هذا الميل نحو الحداثة يقابله تشبثٌ بالسمةِ التقليدي –الديني والمحافظ– داخل العائلة، التي تستمد موقعها الاجتماعي والطبقي من اشتغال رجالها بالعلوم الشرعية. فكان الصبي الذي يرتدي الملابس الأوروبية الحديثة مجبراً على وضع الطربوش المجيدي على رأسه منذ أن بلغ الثلاثة عشر عاماً: “كان التقليد أن الرأس العارية عيب. وهذا تقليد قديم من جدّي. لا أنسى أنه مرةً غضب على واحد من أخوالي، وكان شابا صغيراً، لأنه دخل عليه دون شاشية. أي رأسه عارية. وأنا عمرى 13 سنة اشترى لي أبي شاشية مجيدي اسطنبولي عالية، كما طه حسين وبورقيبة. وهو ما كان يلبسه الأعيان. وفي المدرسة الصادقية كان الأولاد زملائي خليطاً. يلبس أغلبهم الشاشية التونسية وأقلّهم الشاشية المجيدي. نحن في دارنا لم نكن نلبس الشاشية التونسية.كنا نعتبرها للشعب”.
سَيَترك هذا الجد المحافظ في نفس الصبي أثراً كبيراً. فقد كان متصوفاً ومحدثاً ومواضباً على القراءة بصوتٍ عالٍ لحفيده الصغير من عيون الحديث النبوي “لم يكن يجبرني على السماع. فقد أحببت ذلك”. وربّما هنا وُلِدَ شغف هشام جعيط بالشخصية المحمدية، التي صرف لها وقتاً وجهداً، هو الأطول والأكبر في مسيرته.
بين عالمين مختلفين، سوف تتشّكل شخصية جعيط. عالم البيت العائلي المتحدث بالعربية الفصحى والمُهتم بالعلوم الشرعية الإسلامية، والمغروس في قوقعة طبقية معزولةٍ محيطها الأساسي عوائل الأرستقراطية وأوساط البلاد الحسيني، وعالم المدرسة الصادقية، مزدوج اللغة، المنفتح على عوالم طبقية جديدة من البرجوازية الكبيرة والصغيرة، ومن أولئك القادمين من بعيد، أبناء أعيان الريف والأطراف الساحلية. مُوزعاً بين هذين العالمين سيقع الطفل في غرام التاريخ، حيث لم يُثنيه النظام التعليمي الصارم والمكثف في الصادقية عن قراءة التاريخ بنهمٍ لن يفتر حتى وفاته: “أحبَبت التاريخ من الصغر. وجدت في دارنا وبيت عمي كتباً في التاريخ أهم مما كنا نتعلمه من كتب المدرسة. كنت أقرأها بشغف. كتلك الكتب عن حياة نابليون. وظلّ غرامي بالتاريخ الى حدود البكالوريا. وبالصدفة وجدت في الدار محاضرات الخضري. وقرأتها وعمري 12 أو 13 سنة. وعرفت جيدا وقائع الجمل وصفين. كنت أعرف في التاريخ أكثر من زملائي، وآخذ في مادة التاريخ عشرين من عشرين. كان أبي بدَوره مغرماً بالتاريخ. لكن من سوء حظه أنه يُعلّم الفقه”.
قادَه شغفه بالتاريخ إلى دار المعلمين العليا بباريس، عكس رغبة والده الذي كان يُريده أن يُصبح أستاذاً في القانون، فدراسَة الحقوق كانت الطريق الأقصر للسياسة في ذلك الوقت، وربما ما زالت في تونس كذلك. لكن القَدر حَرف مساره نحو السوربون، الذي مكث فيها من خريف العام 1955 حتى سنة 1962، عندما تخرَّج منها حاصلاً على الليسانس والماجستير ثم شهادة التبريز. وبين دار المعلمين والسوربون، في شوارع الحي اللاتيني، تعرَّف على زوجته هوغيت، التي كانت طالبة في قسم اللغة والأدب الإسباني: “كان لقائي معها مهماً وأساسياً. لم يكن لديها أي فكر عنصري. كانت بالنسبة لي فتحاً بالمعنى القرآني. فتح من الله. كان الباب مغلقاً ففتَحه الله. والمهم في هذه الآية هي المسألة الروحية”.
بين جعيط وبورقيبة
لم يكن هشام جعيط، بانشغاله التاريخي والفكري مهتمّا يوماً في السياسة. لكنه لم يكن بعيداً عنها يوماً. يمشي بحذرٍ على الحواف المُدببة للحدود الفاصلة بين الفكر والسياسة. متصلاً بها ومنفصلاً عنها. بعد عودته من باريس، ظلّ جعيط خمس سنوات أستاذاً في كلية الشريعة وأصول الدين، ويرى أنه قد تم تعيينه “لاستبعاده من كلية العلوم الإنسانية، والتي في رأيهم هي مركز الجامعة علمياً”. وهذا الاستبعاد ناجم من مزاجية محمود المسعدي. لكن ظل مراراً يطالب بحقه بوصفه -مبرزاً في التاريخ وتونسياً- في تدريس التاريخ بكلية العلوم الإنسانية. “بينما هناك بضعة فرنسيين ليس لهم قيمة يدرسون بالكلية. واعتبرتُ وقتها أنني مظلوم. حتى أن أعضاءً بالحكومة يرون أن المسعدي ظلمني”. في الوقت نفسه شرع جعيط في الكتابة لمجلة الفكرّ، التي كانت المجلة الثقافية الأبرز في ذلك العصر، والتي أراد منها صاحبها محمد مزالي أن تكون نواةً لتشكيل نخبة جديدة. لاحقاً عندما أصبح مزالي مديراً للإذاعة، فتحَ لمن كانوا في دائرة مجلة الفكر باب الحديث من خلال الراديو. وكان هشام جعيط من بينهم، فكان يتحدث عن التاريخ والأدب. ولأن بورقيبة كان مفتوناً بالإذاعة، فقد صادف يوماً حديثاً لجعيط فأعجبه، وفي اليوم التالي تحدّث عنه في مجلس الوزراء: “عَلِمت أنه وبَّخَ المسعدي مُشيداً بشخصي. وقال نصًّا كما بلغني يِلزِمْ هذا الشاب يكتب.. دَعه يكتب.. عنده أفكار.. دعه يكتب. وبعدها أعطاني المسعدي مهلة ستة أشهر من البحث خلال عامي 1965 أو 1966 أتفرغ فيها للكتابة العلمية والفكرية. وكي أكتب كتباً لم يكن بورقيبة يعرف بحكاية الكلية. وفي هذه المهلة كتبت دراسة علمية طويلة عن تاريخ أفريقية الإسلامية ظهرت في مجلة استشراقية كبرى اسمها دراسات إسلامية. ولأسباب متعددة فهمَ المسعدي أنني محمي من طرف بورقيبة. وفي عام 1967 تراجع عن موقفه ونقلني إلى كلية العلوم الإنسانية”. كما أعجِبَ بورقيبة بكتابه “الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي” بعد أن حدّثه الملك المغربي الحسن الثاني عنه وقال له: “أهنّئكم بأن لديكم فيلسوفاً في عهدكم”. بَلغَت العلاقة بين جعيط وبورقيبة أوجها بين 1965 و1968، حيث عيّنه الرئيس في اللجان العلمية والثقافية للدولة. لكن حبل الودّ لن يلبثَ أن انقطع.
خريف العام 1967، وعلى هامش اجتماع اللجان العلمية في قصر قرطاج، أسَرّ بورقيبة لجعيط برغبته في أن يكون كاتب سيرته وتاريخه. لكن جعيّط اعتذرَ متعللاً بأن المؤرخ يجب أن يأخذ مسافة زمنية عمّا يَدرسه ويكتب عنه، وأنّ تونس لا تملك أرشيفاً يسمح بذلك: “اعتذرت لأنّه لم يكن ممكنا من الناحية المنهجية الاستجابة لرغبته (…) لم أرد أن أكون ككثيرين غيري مؤرخاً للبلاط”. كان تَملّص المؤرخ من الزعيم بداية الجفاء بينهما وبين جعيط والسلطة. وقد دفع لتستيقظ الأحقاد الطبقية القديمة بين الطرفين: “جماعة الحزب لم يكونوا يحبونني ولا يحبون الأوساط الاجتماعية التي جئت منها. لأن الحزب كان ضد الأرستقراطية القديمة التي ارتبطت بالملكية قبل الاستقلال. كما أن عائلتي بالأساس دينية. والبورقيبية أساساً لا دينية تقريبا. ومع هذا كان لبورقيبة على المستوى الشخصي علاقة قديمة مع عمي الشيخ عبد العزيز جعيط، وعيّنَه مفتياً للجمهورية”. ثم تعمّقَت القطيعة بعد نشر جعيط مقالا نقديا للنظام في مجلة جون أفريك عام 1967.
انسحب المؤرخ بهدوء إلى الجامعة، لكن الجامعة في العام التالي 1968، هي التي كانت مدار الصراع بين السلطة ومعارضيها الجدد. بدأت القوى الشبابية اليسارية، بقيادة منظمة آفاق في التعبئة الطلابية ضد النظام وتصاعَدت التعبئة والقمع المضاد لها على نحو واسع بعد هزيمة جوان 1967، لتبلغ ذروتها في ربيع 1968، وتطال أعضاء هيئة التدريس: “وقَعَ قمعي مع العديد من الجامعيين أبناء جيلي. هذا حدث بالأساس لمجموعة برسبكتيف اليسارية في الجامعة. مع أنني لم أكن منهم (…) فلا أجد منطقاً لقمعها بشدة والحكم على مُنتسبيها بأحكام بالسجن مشددة. فقد عبّرت عن احتجاجي على هذا كأستاذ جامعي مع غيري. فهدّدُونا بوضعنا نحن أيضاً بالسجن إذا زدنا في الاحتجاج (…) حينها ذَكرَني بورقيبة بالاسم في التلفزيون، وقال زارني هشام ويجب الضرب على أيدي المفسدين. وربما لم يكن يعرف اسما من الجامعيين غيري. وحقيقة لم يكن لي علاقة مع برسبكتيف. لكن الشرطة أقلقتني كثيرا وقتها لأن الرئيس تحدث عني بالاسم. وكأنها تلقّت الضوء الأخضر لتتبّعي ومضايقتي. وطلبوني إلى مركز الشرطة. وفي الواقع كان مدير الشرطة يريد نوعاً من المساومة. أي نكفّ عن مضايقتك وتكتب تاريخ بورقيبة. كان الأمر واضحاً على هذا النحو. وقلت له لو عندك شيء اذهب به إلى المحكمة. وبالفعل رفعُوا دعوى بخصوص أمور لا تتعلق بآرائي أو أفكاري. وانتهت الدعوى إلى عدم السماع”. وهو الحكم نفسه الذي ناله، بعد محاكمته في بداية عهد زين العابدين بن علي، بسبب مقالٍ نقدي نشره في مجلة حقائق (النسخة الفرنسية).
هناك جانب آخر في شخصية هشام جعيط، نراه لافتاً في كتاب كارم يحيى، وهو اهتمامه بالشرق العربي. فقد أثّرَ اهتمامه بالتاريخ الإسلامي المبكر في شغفه الشخصي بالمشرق العربي، تاريخاً وأشخاصاً وأماكناً. حدثَ التّماس الأول في منتصف السبعينات خلال مهمة علمية تابعة لليونسكو قادته إلى صنعاء في اليمن، مرَ خلالها بالقاهرة وبيروت. والطريف أن وسيلة بورقيبة، زوجة الرئيس بورقيبة، هي التي نصحته بزيارة المشرق والتعرف عليه عن كثب: “كُنت أشاطر أغلبية أقراني من المثقفين التونسيين التصور أن المشرق العربي غير مهم. في بيروت عرفوني على نحو خاص لأنهم يقرأون بالفرنسية. وتعرفت على صاحب مجلة قضايا عربية ومدير دار نشر كبرى. كان بعثياً. جاءني دون سابق معرفة في الفندق. وأبلغني أن الأستاذ، ميشيل عفلق، قرأ كتابي وأعجبه”. قبل جولاته المشرقية تعرّف جعيّط في باريس على مثقفين مصريين مثل أنور عبد الملك. لكن لم يخف أبداً إعجابه بمؤسس حزب البعث، ميشيل عفلق، الذي أفردَ له جزءاً من كتابه “الشخصية العربية الإسلامية” لمناقشة فكره القومي: «ذهبت إلى بغداد كثيرًا وعدة مرات في عهد صدام حسين، وإنما استصغرت نفسي أن أطلب مقابلة شخصية مع ميشيل عفلق. اعتبرت أنني صغير بالنسبة إليه. وطبعًا لا أقصد الفارق في العمر (…) لكن لم ألتق به مطلقا، وإن استقبلتني عند زيارتي لبغداد شخصية سورية تتولى القيادة القومية في البعث العراقي، وكان مقرباً من عفلق، وهو إلياس فرح. لكن عفلق لم ألتقِ به إلا أنني حضرت جنازته في بغداد”. لكنّ إعجاب جعيط الشخصي بعفلق يُوازِيه نقد لفكره، فقد كان معارضاً لتوجّه عفلق في توصيف الرسول محمد كنبي قومي عربي، وكان ناقداً لتباين النظرية عن الممارسة في تجربتي البعث السوري والعراقي ذلك أن ما حدث في البلدين كان “نوعاً من الدكتاتورية”.
كل مراجعةٍ أو عرضٍ، مهما كان مسهباً أو طويلاً، لا يمكن أن يحاصر موضوع أي كتاب. فضلاً عن أن يكون هذا الكتاب حواراتٍ تجمع بين الحكي الممتع والمعرفة مفتوحة الآفاق، كالتي أجراها كارم يحيى مع هشام جعيّط.