ظنّ حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة أنه اكتشف السّلاح الأقوى لتعطيل الملاحقة ضده، وهو يتمثل في مخاصمة قضاة الهيئة الاتهامية في بيروتً أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز، عملًا بالمادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية. فمن شأن هذا السلاح أن يكفّ يد الهيئة الاتهامية عن النظر في الدعوى القضائية المقدمة ضدّه سابقًا (المتعلقة بعمولات شركة فوري) إلى حين نظر الهيئة العامة لمحكمة التمييز في جديّة دعوى المخاصمة. كما من شأنه بفعل تعطيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز بعد تقاعد غالبية أعضائها ومنع تعيين بدائل عنهم بقرار سياسي، أن يؤدّي إلى تعطيل النظر في دعوى المخاصمة، ومعها الدعوى ضد سلامة، إلى أمد غير معلوم. وهو الأمر الذي ما فتئت المفكرة القانونية تنبه وتحذر منه.
وحين لجأ رياض سلامة إلى هذا السلاح، ارتاح إلى تعطيل قضية فوري التي تبلغ قيمتها قرابة 10 مرات قيمة القضية المرفوعة ضده اليوم أمام قاضي التحقيق الأوّل في بيروت بالإنابة بلال حلاوي. إلا أنّ الملاحقة الجديدة ضدّه وما فرضته من مستجدّات غيّرت من مصلحة الرجل ودفعتْه في اتجاه آخر وذلك لسببين:
الأول، إنه موقوف ولا يمكن إخلاء سبيله إلا بقرار قاضٍ. وعليه، وتبعًا لرد طلب إخلاء سبيله من القاضي حلاوي، لم يعد أمام الرجل إلا اللجوء إلى المرجع الاستئنافي الصالح في فسخ هذا القرار، وهي الهيئة الاتهامية في بيروت. وهذا الأمر يقتضي وجود هيئة اتهامية فاعلة غير معطلة.
الثاني، إنه تبعًا لمخاصمة عدد كبير من قضاة الهيئة الاتهامية الأصيلين والمناوبين (ومن بينهم رئيسها القاضي ماهر شعيتو)، تمّ إحالة استئناف هيئة القضايا ضدّ قرار استبعادها عن القضية الجديدة إلى غرفة الرئيس نسيب إيليا بعد أن تنحّت غرفة الرئيس شعيتو عن النظر فيه بسبب مخاصمة قضاتها من قبل سلامة في قضية فوري، وينتظر تاليًا أن يحوّل إليه أي طلب في استئناف قرار قاضي التحقيق بردّ طلب إخلاء السبيل. كما أنه تمّ إحالة ملف فوري بأكمله إلى غرفة هذا الأخير. ويبدو أن سلامة وجد إذاك أن له مصلحة في إعادة القضية إلى غرفة رئيس الهيئة الاتهامية الأصيل ماهر شعيتو، اقتناعًا منه أنها قد تكون أقل تشددًا إزاءه بفعل استفادة شعيتو السابقة من قرضين مصرفيين مدعومين من مصرف لبنان وبقرار من الحاكم سلامة نفسه (بلغت قيمتُهما قرابة 2.26 مليون د.أ)، فضلا عن كون شعيتو أحد القضاة المقربين من رئيس مجلس النواب نبيه بري.
وعليه، اكتشف سلامة أنه ربما أخطأ في حساباته، وأنه قد يكون من الأسلم له إعادة النظر في بعض دعاوى المخاصمة التي كان قدمها (وهي تزيد عن 10) وتحديدًا في اتجاه التراجع عن مخاصمة القضاة الذين يراهم الأقل تشددًا إزاءه. وهذا ما دفعه أمس إلى تقديم طلبات رجوع عن دعوى المخاصمة المقدمة ضد عدد من القضاة وضمنًا قضاة غرفة الرئيس ماهر شعيتو، آملا أن يؤدي ذلك إلى كفّ كفّ أيديهم، وتاليًا إلى تمكينهم من النظر مجددًا في القضايا المتصلة به، وتحديدًا في طلبات إخلاء سبيله.
والسؤال الذي يطرح تاليًا: هل يؤخذ بطلبات الرجوع عن المخاصمة بمجرّد تقديمها ممّا يؤدي إلى تمكين غرفة الرئيس شعيتو من النظر في ملفات سلامة أم أنه يتعين أن يحظى طلب الرجوع بمصادقة الهيئة العامة لمحكمة التمييز التي هي معطلة وغير قادرة على اتّخاذ أيّ قرار؟ وأكثر من ذلك، وعلى فرض انتهاء مفاعيل المخاصمة بمجرّد تقديم طلب الرجوع، هل يمكن لغرفة القاضي شعيتو استعادة الملفات المحالة إلى غرفة القاضي إيليا؟ وألا يخالف ذلك مبادئ استقلالية القضاء التي تتعارض مع أيّ ممارسة مؤداها رفع يد القضاة عن النظر في الدعاوى العالقة أمامهم؟ وألا يؤدّي ذلك في حال حصوله إلى تظهير جانب عبثي آخر لتطبيقات المادة 751 بحيث يصبح بإمكان المتقاضين التلاعب بالقضاة والمحاكمة ليس فقط تعطيلًا وإنما أيضا تسييرًا كما يشاؤون، على وقع مصالحتهم ونزواتهم؟
يبقى أن القرار لن يكون هنا بيد غرفة الرئيس شعيتو وحده، ولكن أيضًا بيد غرفة الرئيس نسيب إيليا، مما يشكل ضمانة ثانية دون مزيد من الغرق في العبث، وكل ذلك تحت أنظار هيئة القضايا ممثلة الدولة اللبنانية والتي ما برحت تتقاقم محاولات إبعادها عن ملفات سلامة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.