رفيف سوني تروي العنف والذاكرة


2020-01-24    |   

رفيف سوني تروي العنف والذاكرة

خلال المواجهات بين المتظاهرين ومكافحة الشغب أمام ثكنة الحلو قبل أيام، تعرّضت إبنة راشيا، الناشطة رفيف سوني لاعتداء عنيف على يد عناصر مكافحة الشغب أدّى إلى فقدانها الوعي ونقلها إلى مستشفى الجامعة الأميركية. بعد ساعات من الحادثة، عاد إلى إبنة الرابعة والعشرين وعيها، ولكن مشوشاً وبدون قدرة على التذكر والرؤية بشكل جيد، بسبب قوة الضربة التي أصابت اسفل رأسها (من الخلف) وأدت إلى تضرر شبكية العين كاد يفقدها بصرها. ما تبقّى في ذاكرتها، هو مشهد الإعتداء عليها بشكل وحشي من قبل أحد رجال الأمن الملثّمين، بالإضافة إلى صور وومضات قليلة من واقعها السابق، مرتبطة بشكل أو بآخر بالحادث.

عُرفت رفيف بنشاطها الطلابي سواء في فترة دراستها الحقوق في الجامعة اللبناينة (فرع زحلة) أو خلال دراستها الإعلام في الجامعة اللبنانية الدولية LIU، وهي صاحبة مبادرات عدّة في المجالين الإعلامي والطلابي، بينها مشاركتها في تأسيس منصة "الوضع مش طبيعي" عام 2016 التي بدأت كصفحة مطلبية في جامعتها في زحلة تندد بعدم بناء جسر للمشاة بعد وفاة عدد من الطلاب، قبل أن تتحول إلى حراك طلابي كبير يشكّل ضغطاً على الإدارة ويشمل كليات عدّة (زحلة، بيروت، طرابلس). وآخر مبادرتها صفحة على فيسبوك تنقل أحداث الإنتفاضة بشكل يومي.

تنتمي رفيف إلى عائلة يسارية – عروبية، عُرفت بمناصرتها للقضية الفلسطينية. اختبرت التظاهر للمرة الأولى في عمر الخمس سنوات، عندما كان والدها يأخذها للمشاركة في الاحتجاجات على العدوان الأميركي على العراق التي استمرت لعام تقريباً. وكان ذلك قبل سنوات من سلسلة احتجاجات ستشهدها العاصمة بيروت في عام 2011 للمطالبة بإسقاط النظام الطائفي وتحقيق مطلب الزواج المدني وقد شاركت رفيف بفعالية في الحركتين. الأمر نفسه ينطبق أيضاً على حراك 2015 الذي انخرطت فيه بقوة. وواصلت في الوقت نفسه نشاطها الطلابي، توجّته بمشاركة فعالة ضمن حراك الجامعة اللبنانية الذي انفجر نهاية العام الدراسي 2018-2019. ومع اندلاع الإنتفاضة الأخيرة، نشطت رفيف في مكان غير بعيد عن "الحركة الشبابية للتغيير" التي تعتبر اليوم من المجموعات الناشطة على الأرض، إن كان في التظاهرات أو من خلال الإقتحامات التي قامت بها لمؤسسات رسمية ومصرفية.

إلتقيت رفيف يوم الإثنين 20 كانون الثاني في مستشفى الجامعة الاميركية حيث تتماثل تدريجياً للشفاء. في هذه الشهادة، أنقل تفاصيل من التجربة الصعبة التي مرّت وتمر بها إبنة الرابعة والعشرين، بأسلوبي ولكن بالإعتماد على روايتها التي أخبرتني إياها من سريرها في غرفة المستشفى.

 

1

بينما كنت على سطح أحد المباني، ألتقط مشاهد بالكاميرا لشارع ثكنة الحلو المتلاشي بسبب كثافة دخان القنابل المسيلة للدموع، اتصل بي أحد أصدقائي وأعلمني أنه قد أصيب بفعل ضرب رجال مكافحة الشغب له، ويجب أن آتي بسرعه لمساعدته. نزلت واتجهت إلى الأمام، حيث الضباب كان أشد كثافة والإشتباك مع الأمن يأخذ طابعاً أعنف. شعرت فجأة بيد أحدهم تمسكني من شعري من الخلف وتديرني نحوه. كان رجلاً ملثماً بيده عصا كبيرة وعيونه تقدح حقداً. تعرّف على وجهي بسرعة، وبدأ يشتمني ويضربني بقوة على جسمي ورأسي. قال لي إنه يريد قتلي بسبب نبضي العالي في التظاهرات، ولا أعرف من خلّصني من بين يديه.

بعدها، مشيت قليلاً. كنت أظنّ أني بخير ولم يحصل لي مكروه، لكن بعد وقت قصير شعرت بالدوار، ثم صرت عاجزة عن الرؤية بشكل جيد، ووقعت على الأرض. قالوا لي إنهم وجدوني جالسة على حافة الرصيف، لكني لا أتذكر شيئاً من ذلك، سوى أني استفقت في المستشفى وأنا عاجزة عن رؤية شيء سوى اللون الأبيض. كانت الأصوات ثقيلة وصاحبها طنين مزعج لم أكن قادرة عن إيقافه.

 

2

عندما استيقظت وبدأت استعيد النظر تدريجياً، لم أستطع التعرّف على الأشخاص الموجودين قربي في المستشفى وما الذي يربطني بهم. كنت خائفة وشعرت أنّي محاطة بغرباء، من ضمنهم أبي وأمي وإخوتي ومن قال لي أنه أعز أصدقائي. الشيء الوحيد الذي استطعت تذكره هو وجه أختي الصغيرة التي عرفت من أبي أنها توفيت منذ زمن بعيد، بالإضافة إلى صور أخرى متفرقة مرتبطة بأحداث لا أستطيع تبيّن سياقاتها، صارت تأتيني مثل ومضات، منها الحادثة التي كسرت فيها يدي (إثر دخولها مع ناشطين إلى مبنى أوجيرو في بداية الإنتفاضة) وأخرى حرقت فيها عيني بفعل قنبلة صوتية (إحدى تظاهرات 2015). ولاحقاً مع تعرّفي مجدداً إلى الأصدقاء المصابين في الغرف الأخرى من المستشفى، صارت تأتيني ومضات لأحداث حصلت سابقاً، منها مثلاً أن شخصاً وقع مرّة من مكان عالٍ (أحد رفاقها في "الحركة الشبابية للتغيير") وبأن شخصاً آخر قد حرق يده وإحدى الفتيات قد تلقت ضربة على أنفها، طبعاً بدون أن أستطيع معرفة الأشخاص أو السياقات التي حصلت فيها هذه الحوادث.

أصبح عالمي هو جميع أولئك المصابين الذين تعرّضوا للضرب من القوى الأمنية، لدرجة أني عندما تلقيت الورود التي بعثها جورج عبدالله ظننت أنه أيضاً واحدٌ من المصابين الذين كانوا يتظاهرون معنا، لكنه كان عاجزا عن المجيء لأن الأمن اللبناني كان قد احتجزه.

 

3

منذ دخولي المستشفى، يحيط بي أصدقائي ويساعدوني على التذكّر قدر الإمكان، سواء عبر الصور والفيديوهات التي يعرضونها عليّ وأظهر فيها أهتف وأغني أو عبر القصص والحكايا التي أسمعها منهم عنّي. لكن في الوقت نفسه، صرت أحياناً أشعر بالسوء بسبب عدم قدرتي على التذكّر وصرت أتعب بسرعة لكثرة المجهود الذي عليّ أن ابذله لاستعادة أشياء ربما هي موجودة في إحدى زوايا رأسي، لكن من المتعذّر أن أصل إليها الآن. لذلك لم يعدودوا يضعوني تحت ضغط التذكّر كي لا أنزعج، وصارو يتركوني أكتشف وحدي من هي تلك الفتاة التي كنتها، أو يمررون لي القصص والذكريات بشكل غير مباشر وبدون أن أنتبه.

من الأشياء الإيجابية أني تمكّنت من تذكّر بعض الهتافات بدون كثير من المجهود، أحياناً بمساعدة من كلمة يقولها أحدهم، كما حصل عندما قيلت أمامي كلمة "إشتباك" التي ذكرتني بهتاف "يا سلطة الإرتباك … جايي جايي الإشتباك"، وأحياناً بمساعدة لحن الهتاف نفسه الذي يذكرني مباشرة به. لم أنسَ أيضاً هتاف "رصّوا الصفوف رصّوا الصفوف (ضرب النضال طويل طويل)" الذي كنا نردده قبل دقائق من اعتداء الأمن علينا.

من الجيد أيضاً أني تمكّنت من تذكّر فلسطين بسبب صورة أظهر فيها وأنا أضيء الشموع. قالوا لي إنّي كنت أحبها كثيراً وفرحت أني استطعت تذكّرها. لكن لا أزال عاجزة عن تذكّر لماذا أحبها أو لماذا نزلنا إلى الشارع كما أني لا أستطيع تبيّن سياقات السياسة في لبنان ومن هم أولئك الأشخاص الذين يظهرون على التلفزيون. حتى أنني نسيت ما أحب وما أكره. على سبيل المثال، استغرب أصدقائي عندما سألوني إن كنت أريد الموز وأجبتهم نعم رغم أني كرهته كل حياتي كما يقولون.

 

4

لا أزال عاجزة عن النظر إلى شاشة الهاتف لوقت طويل بسبب المشكلة في عيوني، لكني رأيت كم التضامن معي على فيسبوك وفرحت بالصور التي وضعها الناس لي على حسابي. أحبّ أن أفتح من وقت لآخر لأتفرج على  الصور ولأعرف ما هي الصلة التي تربطني بهؤلاء الأشخاص، لكن ليس للتكلّم مع أحد أو الرد على الرسائل لأني أخاف أن أصاب بالإحراج بسبب عدم قدرتي على التعرّف عليهم. أفضّل أيضاً أن يرد أصدقائي على التلفون عندما يرن، وأتركرهم يتكلمون مع من يريد الإطمئنان عليّ. لكن، إن أصر الشخص على التكلّم معي آخذ الهاتف وأسأله أن يعرّف عن نفسه لي، وأتكلم معه قليلاً ليس أكثر كي لا أتعب نفسي بمحاولة التذكّر.

هناك أصدقاء لم يفارقوني أبداً منذ دخولي المستشفى، منهم محمد الذي تذكرت البارحة وأنا آكل معه، أننا كنا نأكل سوياً في السابق، وبأنه رافقني أكثر من مرة إلى المستشفى وكان معي خلال حصول أحداث سيئة لي. أثق بما يقوله لي عن نفسي، ما ينطبق أيضاً على حنان التي كانت صديقتي الحميمة، وأستطيع الإعتماد عليها لتخبرني أشياء عن نفسي وعن الأشخاص المحيطين بي وأعرف أنها ستقول الحقيقة.

لكن من سوء حظي أنّ ما بقي في رأسي هو تلك الدقائق الأخيرة التي لا تملّ من تكرار نفسها في ذهني خلال الوقت الذي أمضيه وحيدة. أحياناً أستيقظ في الليل وأنا أشعر بالخوف لأنّي حلمت بعنصر الأمن الذي كان يضربني، أو لأني شعرت أن شيئاً ربما سيحصل فجأة، مثلاً مجيئه إلى هنا للقيام بشيء سيئ لي.

 

5

عندما أخرج، الشيء الوحيد الذي أريده هو أن أمر إلى الساحة التي كنا نتظاهر فيها، ولو لدقائق، لأني رأيت كثيراً من الصور التي تجمعني بالأصدقاء فيها، وهناك ومضات في ذاكرتي لخيمة كنت أمضي الوقت داخلها. أرغب بالتواجد ولو قليلاً في تلك الساحة، لسماع الهتافات وعيش اللحظات التي يظهر في الصور أني كنت سعيدة فيها، محاطة بأشخاص كثيرين يعرفوني. أريد أيضاً أن أشتبك مجدداً مع الذين ضربوني وأنظر في عيون عنصر الأمن الذي اعتدى عليّ لأني متأكدة أني سأتذكره. أريد الإنتقام لكل المصابين معي في المستشفى، من الشبيحة الذين أرادوا منعنا من النزول مجدداً إلى الساحات بسبب حقدهم علينا…

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني