منذ انطلاقة الانتفاضة اللبنانية في 17 تشرين الأول، أتبادل وميرنا الرسائل الهاتفية عن أخبار حراك النبطية، ومنذ شهرين إلى اليوم، تنهي ميرنا رسائلها بعبارة: "النبطية بخير"، وأنا، لم أعرف حتى الآن، من أين تأتي ميرنا بهذا التفاؤل، رغم أن كل ما حولها، أو ما حول ساحة الحراك في النبطية، يستدعي التشاؤم، أو ربما الإحباط.
بنظرة استرجاعية، تشاؤمية، إلى يوميات الحراك في النبطية، يمكن أن نحصي سريعا: سقوط 25 جريحا، حريق، ثلاثة اعتداءات على المحتجين، وثلاثة أخرى على الخيمة، عدد غير قليل من الاستدعاءات والتحقيقات، تهديدات مباشرة وغير مباشرة للناشطين والناشطات، إضافة إلى رأي عام مصر على إبداء خصومة مجانية مع الحراك وأهله، حتى غدت ساحة الحراك، أشبه بمساحة منفصلة عن جغرافية المدينة، وروادها قلة قليلة من "الغريبين" عن سياقها الأهلي.
الأسباب السياسية للغربة التي يعاني منها حراك النبطية، مفهومة ومعروفة للجميع، فالثنائي الحاكم، يضع يده على الحياة السياسية في النبطية، بذريعة رص صفوف الطائفة وتحصينها وحماية مكتسباتها، وعمل على تعبئة جمهوره، ضد كل مختلف، بحيث صار كل من يتبنى رواية مغايرة للسائد، قابلا للتخوين. ظلّ الثنائي الحاكم طوال هذه الفترة، نائما على حرير الطمأنينة، فالناس في حساباته صنفان لا ثالث لهما، إما "حركي" وإما "حزبي"، وكلاهما مشدود إليه بوظيفة أو براتب، إلى أن حل يوم 17 تشرين الأول، فتفاجأ بصنف ثالث من الناس، لم يحسب له حسابا، صنف يرفض المنطق الطائفي والمناطقي، ويؤمن بمنطق الدولة فقط.
لم يفاجئ حراك النبطية الثنائي فقط، إنما شكل له صدمة سياسية واجتماعية، فسعى ومازال إلى خنقه وقمعه بكل الوسائل، بالقوة أحيانا كما حصل في بداية الحراك، وأحيانا أخرى، بالضرب والشتم وفبركة الملفات والضغوط النفسية والمادية.
لكن حراك النبطية مازال بخير، رغم النكسات التي تصيبه، والكبوات التي يمر بها، وما زال المحتجون يواكبون ما يجري في ساحات الإنتفاضة اللبنانية، في بيروت وطرابلس وصور وجل الديب وصيدا والهرمل وعاليه وكل المناطق.
فلم تغب النبطية، عن الأجواء التي واكبت الاستشارات النيابية، فنظمت عشية الإستشارات مسيرة، تلاقت مع أخرى قادمة من كفررمان، تضمنت دعوات إلى اختيار رئيس حكومة ووزراء من خارج المنظومة السياسية، وتشكيل حكومة ذات قرار داخلي وطني، وغير خاضعة لإملاءات الخارج، كما أعلنت باكرا، موقفها بخصوص التكليف والتأليف، حيث أجمع المحتجون بالتصويت، على عدم المشاركة في اليوم المفتوح، الذي أعده الرئيس المكلف حسان دياب، للقاء مندوبي الحراك. وكان الدكتور عمران فوعاني، تلقى دعوة هاتفية إلى هذا اللقاء، من دائرة المراسم في رئاسة مجلس الوزراء، كممثل عن حراك النبطية، فلم يلبها، باعتبار أنه (أي دياب) بدا غير مستقل عن السلطة.
ورغم أن النبطية كان لها موقفها الرافض والمستنكر لفيديو "الفتنة"، المسيئ لآل البيت، الذي انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن هذا الموقف لم يجنبّها غضب المحازبين و"الأهالي"، الذين اندفعوا بعد مشاهدة الفيديو، نحو ساحة الحراك، بالعشرات، وعمدوا إلى تحطيم الخيمة بالكامل، وتكسير الكراسي والطاولات والمنصة، وبعثرة محتوياتها وسرقة بعضها الآخر، وفي الصباح التالي ل"غزوة الخيمة"، نفذ الناشطون وقفة احتجاجية، أعلنوا فيها إصرارهم على المضي في درب النضال ضد الفساد والقمع والتشبيح، وهتفوا "يا نبطية قومي قومي، كرمال الناس المحرومة"، وهتافات أخرى، لكن عمليات الكر والفر لم تنته عند هذا الحد، فتحول حطام الخيمة ليلا، إلى مسرح لعملية انتقام جديدة، حيث أقدم "المناصرون" على إشعال النار فيها، وتبديلها في دقائق، إلى كتلة من رماد.
أما الحدث الأكبر الذي سجلته النبطية، في اليومين الماضيين، وما زالت تداعياته مفتوحة، هو استدعاء مخفر النبطية للشاب مازن أبو زيد إلى التحقيق، بتهمة شتم وزيرة الداخلية والبلديات ريا الحسن وعناصر الدرك و"زعماء"، خلال المظاهرة الغاضبة، التي شهدتها المدينة كردة فعل على حرق خيمة الحراك، في حين تظهر كل مقاطع الفيديو، التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، أن أبو زيد كان يهتف: "مش حنخاف مش حنطاطي، كل شبيحتك – كل زعرانك – كل كلابك ع صباطي"، ولم يسمّ أحدا من المسؤولين أو الزعماء، كما تثبت فيديوات أخرى، أن عناصر الدرك تعاملوا بخشونة مع المتظاهرين وصلت إلى حد الضرب.
وفي هذا الشأن، قالت السيدة ليلى سرحان والدة مازن في اتصال مع "المفكرة" إن "محامي الحراك تكفلوا في الدفاع عن مازن بالتنسيق مع نقيب المحامين ملحم خلف، وتم تعيين المحامي مازن حطيط لمتابعة القضية"، مشيرة إلى أن "هناك تفاصيل تتعلق بسير القضية، لا يمكن الكشف عنها حاليا، بانتظار ما ستؤول إليه التحقيقات". وقد حضر حطيط اليوم لدى معاون مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بمعية محاميه مازن حطيط وتم تركه.
في النبطية…يبدو أن معنى عبارة "النبطية بخير"، هو نفسه معنى أسطورة طائر الفينيق، فبعد كل هجوم، يجدد حراكها ولادته، ويعود أكثر عزيمة وصلابة من قبل، وكترجمة عملية لهذا المعنى، لملم الناشطون، صباح اليوم التالي للمحرقة، ما تبقى من آثار خيمتهم، وصنعوا منه تمثالا يحاكي شكل الطائر الأسطوري، الذي ينبعث من رماده، كما قرروا استعادة خيمتهم، فجمعوا التبرعات، وأحضروا بعضا من أثاث بيوتهم، واحتفلوا أمس مساء، ببناء خيمة جديدة أحلا من سابقتها، إضافة إلى نصب شجرة ميلاد كبيرة تعكس عناد رعية صغيرة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.