تعيش بعض بلدات قضاء البقاع الغربي تقنينا قاسيا للتيار الكهربائي، فيما تنعم بلدات أخرى في القضاء نفسه بالكهرباء على مدار الساعة في مخالفة صريحة ل “عرف ووعد” شفهيين أطلقته ونفّذته المصلحة الوطنية لنهر الليطاني لصالح سكان المنطقة المحيطة بسد القرعون وبحيرته عندما أُنشئت في أوائل الخمسينات، ومعها معمل مركبا لتوليد الطاقة الكهرومائية عام 1962 كتعويض لهم عن مساحات واسعة من أراضٍ خسروها لصالح البحيرة والمعمل والقناة 900 المخصصة لريّ المحاصيل الزراعية، وكامل المنشآت التابعه للسد ومرفقاته.
بازار انتخابي
فسد القرعون الذي يعتبر الأضخم وأيقونة سدود لبنان نجاحا (إذا لم نتطرق إلى اغتياله بالتلوث مع نهر الليطاني وناسه) وتخزيناً للمياه (220 مليون متر مكعب) وتوليد الطاقة عبر ثلاثة معامل: المهندس ابراهيم عبد العال – مركبا، وبولس أرقش – بسري، ومعمل شارل الحلو على نهر الأولي قرب صيدا. لكن هذه النعمة المتمثلة بتزويد البلدات جارة السد ومعامل الكهرباء، دخلت مؤخراً بازار الانتخابات النيابية والزبائنية والاستقطاب رغم أنها حق مكتسب للمواطنين. وتُرك استخدام الكهرباء كوسيلة تمنين وتقديمه كخدمة للمقترعين لأهالي بعض المناطق تداعيات سلبية على حياتهم ونشاطهم الاقتصادي. إنما الأخطر هو التسبّب ببعض الحساسيّات الطائفية والمذهبية بين بلدات كانت فيما مضى تتغنى بالعيش الواحد فعلا وعملا.
وفق العرف السائد، تشمل التغذية بالتيار من معمل مركبا قرى سُلخت منها أراضٍ لصالح المشروع وهي جبّ جنين، لالا، بعلول، القرعون، سحمر ويحمر (تعرف بالشريط الشرقي)، كذلك خربة قنافار، عين زبدة، باب مارع، عيتنيت، ومشغرة (الشريط الغربي). ولاحقا ومع الشروع بإنشاء القناة 900، ري البقاع الغربي، واستمرار العمل على القناة 800 (ري أكثر من 50 قرية في الجنوب) منذ التسعينات ولغاية اليوم، ضُمّت قرى جديدة إلى خريطة القرى المستفيدة من إنتاج الطاقة من معمل مركبا قرى وهي زلايا، قليا، ميدون، لوسي، عين التينة ولبايا، ومرافق وقرى أخرى في الجنوب.
عمليا، كان مجموع هذه البلدات يستفيد من تغذية مستدامة بالتيار الكهربائي لغاية العام 2000 تقريبا. منذ ذلك التاريخ، حلّت مولدات خاصّة كبديل للتغذية بالتيار في مركز القضاء جب جنين، وبلدات لالا، بعلول، كفريا، كامد اللوز والجوار لسد ساعات تقنين لامست اثنتي عشرة ساعة يوميا، وأحيانا ست عشرة ساعة، وبقيت التغذية مستدامة في البلدات الأخرى. استمرّ هذا الواقع حتى العام 2018 فشلت خلالها مساع ومراجعات لإدارة المصلحة الوطنية لنهر الليطاني ولسلطة الوصاية المتمثلة بوزارة الطاقة لإعادة التغذية الى ما كانت عليه.
ربط … وقطع
في عام 2019، وبموازاة زيارة لرئيس التيار الوطني الحرّ النائب جبران باسيل إلى البقاع الغربي، أنجزت فرق فنية تابعة لمؤسسة كهرباء لبنان بإشراف القيادي في التيار الوطني الحر شربل مارون (المكلف ملف الكهرباء في المنطقة من دون أن يكون له أي صفة وظيفية في وزارة الطاقة أو مؤسسة كهرباء لبنان) والمرشح اليوم عن المقعد الماروني في دائرة البقاع الغربي وراشيا، ربط قرى يتمتع فيها التيار الوطني الحر بحيثية وازنة وهي عميق، عانا، تل ذنوب الجديدة ودير طحنيش، كهربائيا بشبكة استجرار الطاقة من معمل مركبا، ووُفّرت لها التغذية بالتيار على مدار الساعة ، مع العلم أنها قرى بعيدة عن الليطاني، ولا تدخل ضمن القرى التي استملكت أراضيها واستخدمت لصالح الليطاني وسدّه. وأبقت وزارة الطاقة والمصلحة الوطنية لنهر الليطاني التقنين على حاله في جب جنين، لالا وبعلول .
تفاعلت عملية توسعة التغذية إلى من لم يكن مشمولاً وفق العُرف القديم بمفهوم المحرومين منها، وبدأت تأخذ أبعادا طائفية غير سليمة، زاد من حدّتها، تقنين مستدام لجب جنين لالا وبعلول، وحرمان حي يُطلق عليه إسم تل ذنوب القديمة – يقطنه عرب ومجنسون – من التغذية بالتيار. فيما جرت تغذية حي تل ذنوب الجديدة الذي لا يسكنه العرب والمجنسون على مدار الساعة، فيما المسافة بين الحيين لا تزيد عن 500 متر تقريباً، ويحتاج خط استجرار الطاقة للأول إلى وصلة كهربائية تُقاس بالأمتار.
وقد تسبب هذا الإجراء بتحركات في الشارع وعبر وسائل التواصل الإجتماعي وعلى منابر المساجد. وبقيت تل ذنوب القديمة من دون كهرباء إلى أن تدخل النائب عبد الرحيم مراد مع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل فجرى وصلها بالتيار الكهربائي منذ شهرين تقريبا، أي على أبواب الإنتخابات.
احتجاجات شعبية وتقاذف اتهامات
ومع اقتراب الاستحقاق الانتخابي الذي يأتي بعد مرحلة عصيبة اقتصادياً وتستفحل يوماً بعد يوم، ومع وصول تسعيرة فاتورة اشتراك المولّدات الخاصّة في البلدات الخاضعة للتقنين، وخروج مولدات أخرى من الخدمة، ارتفعتْ وتيرة الاحتجاجات الشعبية، وسُجلت عمليات قطع طرقات ومحاولات اقتحام محطة توزيع الكهرباء في جب جنين. وفعّلت لجان أهلية من مراجعاتها لوزارة الطاقة وإدراة المصلحة الوطنية لمياه نهر الليطاني ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي. كل ذلك لم يثمر عن تبدّل للواقع حيث بقي التقنين مستداما في جانب، والتغذية مستدامة في جانب آخر.
هذه الاجواء لم تكن منفصلة أبدا عن سجالات إعلامية شكل أركانها كل من نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي والقيادي في الوطني الحر شربل مارون ومدير عام المصلحة الوطنية لمياه نهر الليطاني الدكتور سامي علوية. يلقي الأول (الفرزلي) باللائمة على وزير الطاقة وممثله في المنطقه شربل مارون، فيما يتهم الثاني (مارون) الفرزلي بتسييس الملف لغايات انتخابية وبإيعاز من الرئيس نبيه بري، ورفع علوية المسؤولية عن نفسه عبر كتاب وجهه إلى وزارة الطاقة يؤكد فيه أن المشكلة ليست بإنتاج الطاقة بل بتوزيعها مذيلاً بعبارة: “نحن لسنا مسؤولين عن التوزيع”. وشرح ذلك فنيا وتقنيا عبر الإعلام المرئي، وكشف أن منطقة الجمهور حيث القصر الجمهوري تتغذى بالطاقة من مشروع مركبا.
ولم تكن خلفية السجال تخفى على أحد. فممثل التيّار الوطني الحر شربل مارون سعى إلى استغلال موضوع التغذية انتخابيا، وربطه به حصرا دون الفرزلي وعلوية على خلفية الخلاف السياسي بين التيار الوطني من جهة وحركة أمل والفرزلي من جهة ثانية، ولسان الثلاثة يقول: “ما حدا بيبيعها لحدا”، على ما يتداول مراقبون لما يحصل.
برج سحمر واتهامات بالتطييف
وفي خضم اشتباك حلفاء الأمس في السياسة والتموضع وقد صاروا حلفاء اليوم إنتخابيا في لائحة واحدة (الغد الافضل)، وضعت وزارة الطاقة حلا عبر شربل مارون وموافقة مهندسي المصلحة الوطنية خلال لقاء جمع أيضا الى وزير الطاقة نواب المنطقة، يقضي بإنشاء برج حديدي في سحمر لاستكمال مدّ وجرّ الطاقة من مركبا. وبرروا تأخّر إنشاء هذا البرج، وبالتالي عدم تزويد القرى المحرومة بالكهرباء، بعدم توفّر إمكانيات مادية. هنا دخل اتّحاد بلديات بحيرة القرعون، المنضوية في إطاره البلديات المعنية بالتعاون مع فاعليات جب جنين ولالا وبعلول على خط البرج، وأنجزوه خلال فترة قياسية ليزيلوا ذريعة يتلطّى خلفها الجميع. وفي هذا الإطار، قال رئيس الاتّحاد يحي ضاهر ل “المفكرة”: “أنجزنا إنشاء البرج ووضعنا إمكانياتنا المادية بالتعاون مع المجتمع المحلي لتوفير ما يحتاجون إليه لإعادة التغذية إلى ما كانت عليه من قبل، ورفعنا كتاباً بهذ الخصوص إلى وزارة الطاقة، ولكننا حتى الأمس القريب لم نلقَ جواباً”.
وبرغم مبادرة الأهالي واتحاد بلديات البحيرة، تواصل شدّ الحبال في ما بين وزارة الطاقة وحركة أمل والمرشح النائب إيلي الفرزلي. وصدرت بيانات عن الجميع بهذا المضمون، من بينها بيان لمرشح التيار شربل مارون نشره على موقع التيارالوطني الحر يتّهم فيه أطرافا بشنّ حملة إعلامية على مكون أساسي من مكونات البقاع الغربي، في إشارة إلى استهداف أبناء طائفة معينة. وربط استجرار الطاقة بتوفّر المياه في البحيرة واستبدال محوّل سحمر رقم 2 بآخر أقوى، مستندا في ذلك إلى كتب المصلحة الوطنية لنهر الليطاني. وبالتالي طارتْ ذريعة بناء البرج وحطت مكانها مشكلة المياه والمحول الجديد.
هذا الكلام دفع أهالي جب جنين للردّ عبر بيان رفضوا فيه اختلاق حجج جديدة، واستنكروا اتهامهم بالطائفية والمذهبية، واصفين كلام مارون بـ “التضليلي والتهرب من المسؤولية. وذكّروا بأن التقنين الدائم بدأ “مع بداية العهد القوي”، وأن جب جنين بلدة مختلطة مدنية .. واعتبروا أن إلقاء اللوم على المصلحة الوطنية لنهر الليطاني محض تهرب من المسؤولية.
ومع حرب البيانات وتواصل الاحتجاجات الشعبية، برز عامل جديد غير متوقع هدد لُحمة المجتمع المحلي، لا بل وسّع من الشرخ القائم بفعل الخلافات السياسية. وتمثل بتنظيم تظاهرات في بلدتيْ سحمر ومشغرة رُفعت خلالها شعارات تطالب بمنع إيصال الطاقة الكهربائية إلى مركز القضاء (جب جنين) وبلداته المجاورة. وهدّد المتظاهرون بتصعيد التحرّك واستخدام المناسب من الأساليب لتحقيق أهدافهم.
تلك التحركات تعتبر نادرة الحدوث، وقد رُفعت فيها شعارات مناقضة تماما لأيّ حراك شعبي مطلبي، وهي ما كان لها أن تحصل من دون ضوء أخضر سياسي لقوى نافذة في البلدتيْن. ولكن لماذا؟ وما هو سبب إنزال الناس إلى الشارع في بلدات تتمتع بتغذية كهربائية على مدار الساعة؟
رئيس مصلحة الليطاني يحذّر
وإذ ذكّر المدير العام للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني سامي علوية أن مؤسسة كهرباء لبنان هي المسؤولة عن توزيع الطاقة الكهربائية المنتجة من معامل الليطاني، فإنه أكّد دخول مصالح انتخابية على خط الملف “المتنافسين صار بدهن يزيدو قرى جديدة، والزيادة لا يمكن أن تتم من دون استيفاء الشروط الفنية وهذا من مسؤولية كهرباء لبنان”.
وأشار علوية إلى أنه في عهد الرئيس شارل حلو (أوائل الخمسينات) تم تخصيص القرى المحيطة بالمعامل بالإستفادة من الإنتاج الكهربائي في إطار التنمية المحلية آنذاك، ولأن كهرباء لبنان لم يكن لديها محطات قرب المعامل. وعليه أنشأت مؤسسة كهرباء لبنان محطّات توتر متوسط على 15 كيلو فولت في استملاك المصلحة، واعتمدوا التوزيع بواسطة موظفي الليطاني منذ 1950 ولغاية اليوم، بذريعة أن مؤسسة كهرباء لبنان ليس لديها موظفون. يومها، وفق علوية، كان عدد القرى الموصولة كهربائيا لا يتجاوز 40 قرية من بينها القرعون وجزين وغيرها من القرى القريبة من المعامل . مع تقدّم السنوات صارت كهرباء لبنان ووزراء الطاقة المتعاقبون من بعد اتفاق الطائف، يضيف كل منهم قرية بحجة أن القرى المستفيدة من كهرباء المعامل سواء في قاديشا – البحصاص أو الليطاني تتمتع بتيار كهربائي مستدام، ولأنها غير موصولة بمخارج المعامل المُشغّلة بالفيول، كما أنها لا تعاني من أعطال التوتر العالي بسبب ربطهم مباشرة. ويؤكد علوية أن الزيادة كانت تتم بحسب طائفة الوزير، وعلى قاعدة 6 و6 مكرر حتى بلغ عدد القرى المستفيدة من معامل الليطاني أكثر من 100 قرية بتغذية تتراوح بين 18 و20 ساعة.
ويحذر علوية من قطع التيار الكهربائي عن قرى محيط المعامل، مبدياً أسفه لطلب مماثل من كهرباء لبنان، وفيه أنها تريد قطع الكهرباء عن هذه القرى. وبناء على طلب الشركة جاء رد مصلحة الليطاني، وفق علوية، ب “عدم قدرتها على تحمل الضغط الشعبي إذا ما أقدمت كهرباء لبنان على هذه الخطوة”. وتابع “ليتفضلوا ويأخذوا قرارا بهذا الشأن في مجلس الوزراء، وليطبقوه بحماية الجيش. لماذا يريدون وضعي بمواجهة 120 بلدة، وأنا كمصلحة كل عملي ضمن هذا النطاق؟”
وسأل رئيس مجلس إدارة مصلحة الليطاني (علوية) ما هو السبب لمثل هذا التوجه عند وزارة الطاقة ؟ ليجيب أن هذه القرى “دفعت ضريبة التلوث والاستملاك وضريبة عدم ربط كهرباء لبنان لهذه القرى بشبكة التوتر العالي بشكل ملائم”. وبالتالي، رددت مصلحة الليطاني عبر كتب رسمية موجهة إلى وزارة الطاقة ومؤسسة كهرباء لبنان بأن الحلّ ليس عندنا، بل عند كهرباء لبنان، وأنتم مسؤولون عن التوزيع، لذا تفضلوا باستلام المحطات وواجهوا الناس، وليتفضل مجلس الوزراء ووزارة الطاقة لأخذ مثل هذا القرار”.
ورأى أن الحل الطبيعي يكمن في توفير الكهرباء لكل الناس “نحن ننتج بمعدل 100 ميغا ونعطي القرى المجاورة للمعامل 30 ميغا والباقي 70 ميغا للشبكة العامة، ليؤكد أنه يجب الحفاظ على تغذية القرى المحيطة بالمعامل، “لأننا إذا أردنا توزيع إنتاج المعامل المائية على كل المدن والبلدات اللبنانية فإن التيار لا يكفي دقيقة لكل منطقة”.
وفي موضوع تغذية قرى بالتيار الكهربائي من معامل الليطاني وحرمان أخرى، يرى علوية “أن مسؤولية توزيع الطاقة المنتجة من معامل الليطاني تقع على عاتق مؤسسة كهرباء لبنان. ولا يمكننا زيادة عدد القرى المستفيدة اليوم والذي يلامس مائة قرية إلا إذا قامت كهرباء لبنان بإنشاء 6 مسارب إضافية لمحطة الأولي، وزيادة قدرة المحولات وتحديث الشبكة”. ويؤكد أنه “عندما تقوم المؤسسة بهذه الإجراءات، يمكننا مضاعفة العدد وتوفير الطاقة لإقليم الخروب وأقليم التفاح وجزين وراشيا وباقي البقاع الغربي، وعندها ينتفي التمييز المتأتي من عدم التحديث وهذه مسؤولية مؤسسة الكهرباء”. ويؤكد علوية وجود فائض في إنتاج الطاقة من معامل الليطاني، لكن “الكهرباء لا تُعبأ بأكياس، ولا طائفة لها ولا لون، وإنما تحتاج إلى تحديث الشبكة والمحطات والمحولات”.
عملات رقمية ..
على خط ثانٍ، يربط البعض تحركات بعض القرى بالتراشق بين المتساجلين سياسيا وانتخابيا، وتخفي وراءها مستفيدين كثراً من إنشاء “مزارع” تفريخ دولارات “فريش” بواسطة تشغيل ماكينات تعدين البيتكوين (تحويلها إلى عملة فعلية) في بلدات مشغرة وسحمر ويحمر وقليا وميدون وعين التينة ولوسي. وتحتاج ماكينات التعدين هذه إلى طاقة كهربائية وإنترنت على مدار الساعة، وتستهلك الماكينة الواحدة حاجة خمسة منازل، بحسب المشغلين وحجمها، فكيف إذا ما كان هناك مزارع تضمّ مئات ماكينات العملة الرقمية ومنازل فيها العشرات منها؟
ويبدو أن سوق التشغيل لا يقتصر على ما سبق من القرى بل ينتشر أيضا في عيتنيت، صغبين، خربة قنافار، عميق، عانا وباب مارع التي تتغذى بالتيار الكهربائي على مدار الساعة. وفيها انتشرت ليس فقط مزارع التعدين بأعداد لا يستهان بها، بل رافقتها حركة استثمار متنامية لشقق ومستودعات لصالح مشغّلين حيث لامس إيجار الشقة 500 دولار شهريا، وهو رقم كبير جداً نسبة لبدلات استئجارالشقق في الريف والذي لا يتجاوز في أحسن الحالات مليون ليرة لبنانية شهرياً.
وأصاب انتشار ماكينات التعدين في هذه القرى شبكات النقل ومحطات التحويل بأعطال متكررة. ومرد ذلك، بحسب مهندسي مصلحة الليطاني، هو عدم قدرة الشبكة على تحمل طاقة سحب هائلة متأتية من مزارع ماكينات التعدين، أو من تلك الموجودة في المنازل.
هذه الإشكالية دفعت بلديتي سحمر ومشغرة إلى إصدار بيانات توجّهت فيها للأهالي تقول ب “ضرورة ترشيد استخدام الكهرباء”، وهي بيانات رفع عتب ليس أكثر. فالمستفيدون كثر، وعلى أبواب الانتخابات النيابية لا بد من إبداء تساهل أكبر وحتى تأمين تغطية سياسية وأمنية وحتى شعبية. الأمر عينه ينسحب على قرى الشريط الغربي. الفارق بينهما أن شبكة نقل التيار إلى الشريط الغربي مع المحولات حديثة العهد، وعدد المشغلين قياسا إلى عدد السكان لم يبلغ حتى اليوم مرحلة حرق محولات أو أجزاء من الشبكة.
وإلى جانب المستثمرين من السكان المحليين وحزبيين ونافذين وبخاصة المتمولين من بينهم، برزت ظاهرة منذ سنة ونيف تمثلت بإقدام عشرات المودعين في المصارف بسحب ما تيسر من ودائعهم لتشغيلها في بلدات تتوفر فيها شروط عمل ماكينات التعدين. حتى أن متقاعدين من الجيش وقوى الأمن وغيرهم دخلوا سوق العمل لاستثمار مدخراتهم ومواجهة الأعباء الاقتصادية المتزايدة يوما بعد يوم، بعدما فقدت رواتبهم قيمتها الشرائية.
ملاحقة سارقي الكهرباء يوقفها الاستحقاق الانتخابي
في أواخر العام الماضي، وتحديدا خلال شهري تشرين الثاني وكانون الأول، ادعت المصلحة الوطنية لمياه نهر الليطاني على أفراد وجماعات تقوم بسرقة كهرباء من شبكة النقل الممتدّة من معمل مركبا حتى القرعون وبعض قرى الشريط الغربي. وربطت بين نسبة استهلاك الطاقة وأعطال الشبكة من جهة وتشغيل ماكينات التعدين حتى ولو كان هذا التشغيل قانونيا لجهة اشتراك المشغل بالتيار الكهربائي من جهة أخرى. وكذلك اشتكى رئيس اتحاد بلديات البحيرة رئيس بلدية القرعون يحي ظاهر لدى النيابة العامة المالية بالمضمون عينه. آنذاك، تحركت القوى الأمنية ونفذت عمليات دهم وختمت بالشمع الأحمر مجموعة مزارع ومنازل وأفرغت القرعون من كل المشغلين لتنتظم بعدها عملية التغذية بالتيار في القرعون من دون مشاكل تذكر.
ذلك الإجراء قد يكون يتيما. فلم تتخذ المصلحة الوطنية لنهر الليطاني والبلديات المعنية ومنذ شهرين تقريبا وحتى اليوم، أي إجراء مشابه للذي نُفذ في القرعون، اذ بقيت الأمور على حالها سواء لجهة أعطال الشبكة والمحولات، أو لجهة المشغلين. وبحسب متابعين فإن أعداد المشغلين إلى ازدياد مع اقتراب موعد الاستحقاق الإنتخابي حيث لا يجرؤ أي حزب أو تيار على زعل أيّ مشغل. فالصوت التفضيلي عزيز في دائرة البقاع الثانية حيث المعركة حامية، فكيف إذا كان مدجّجا ب “دولارات البتكوين”.
المدير العام للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني سامي علوية برّأ المصلحة من التواطؤ مع أطراف سياسية محلية لتغطية مشغلي ماكينات التعدين. وقال ل “المفكرة”: “القانون لم يحدد إن كان تشغيل ماكينات التعدين جرما جزائيا أو ماليا أم لا وهذا ما يعيق عمل القوى الأمنية. نحن تابعنا مراقبة سرقة الكهرباء من الشبكة وبنينا إنذاراتنا على هذا الأساس، وسطّرنا، وما زلنا مذكرات بحق المخالفين”. وبما أن البداية كانت بالتعاون مع اتحاد بلديات البحيرة في البقاع الغربي، لكنها، وفق علوية، “تواصلت في إقليمي التفاح والخروب وجزين”، ليضيف: “بصراحة هناك بلديات تعاونت مع القوى الأمنية، وبلديات لم تتعاون”. ويتحدّث علوية “عن ثغرات ثلاث اعترضت مكافحة الظاهرة وهي هيئة التحقيق الخاصة التي لم تحدد ما إذا كان التعدين الرقمي يشكل انتهاكا لقانون النقد والتسليف أم لا، كما لم تتجاوب كهرباء لبنان لأنها لا تملك داتا خاصة عن مواقع السحب الزائد، وكذلك لم تأخذ هيئة أوجيرو التي ترتبط بها الإنترنت دورها أبدا”، وفق ما يقول.
ردّ الأهالي: طاقة شمسية
أمام ما سبق من إهمال ومحاصصة وزبائنية، وبعدما بلغ مستوى اليأس من وزارة الطاقة ومؤسسة كهرباء لبنان والمصلحة الوطنية لنهر الليطاني ومشغلي ماكينات التعدين مبلغا عاليا، انصرف أهالي جب جنين ولالا وبعلول وكامد اللوز وغزة والخيارة والمنصورة عن متابعة الاتّصالات مع المسؤولين واتّجهوا نحو تركيب مستلزمات إنتاج الطاقة من الشمس والضوء. وأمكن رصد تجهيز نحو 40% من عدد الوحدات السكنية في هذه المنطقة البالغ (نحو 10000 وحدة سكنية) مما يؤشر إلى مستوى الإحباط الذي فرضته السلطة وأحزابها. كثيرون ممن استعانوا بالطاقة الشمسية باعوا أراضي خاصة، سيارة، أو استثمروا في ما ادّخروه لأيامهم السوداء من احتياط نقدي أو حلي ومجوهرات.