رحلة البحث عن مفقودي العدوان: 15 مفقودًا في بيروت وضاحيتها الجنوبية و79 أشلاء 


2024-12-27    |   

رحلة البحث عن مفقودي العدوان: 15 مفقودًا في بيروت وضاحيتها الجنوبية و79 أشلاء 
المدخل إلى مكان الغارة على مبنى أيوب قرب العاملية في حارة حريك حيث انتشل 7 جثامين في الأسبوع الماضي

في العدوان الإسرائيليّ على لبنان، كتبت عن الشهداء عن ألسن من عرفوهم وأحبّوهم. عدّدتُ الخسارات ووثّقتها كي لا نخسرها في ذاكرتنا، لكنّها المرة الأولى التي أجد فيها نفسي غير قادرة على العدّ. ففي رحلة البحث عن المفقودين الذين لا عدد رسميّ لهم، يخبرني مصدر أمنيّ أنّه لا يزال هناك: 79 قطعة أشلاء موجودة في المستشفيات الحكومية لا تزال تخضع لفحص الحمض النووي. لقد عدّوا الأشلاء أمّا أنا فسأختار البحث عن المفقودين، عن أسمائهم، عن أماكن فقدانهم، عمّن ينتظرهم، والنتيجة التي توصّلت إليها: 15 مفقودًا ومفقودة في منطقة بيروت والضاحية الجنوبية. كانت وجهتي الأولى وزارة الصحة ثمّ بيانات الدفاع المدني اللبناني، وبعدها وزارة الداخلية والبلديات والجهات الأمنية، وأخيرًا وجّهت السؤال إلى الأصدقاء “هل تعرفون أحدًا له مفقود في الحرب؟”، ومنه إلى الميدان، حيث بدأت الرحلة مع أسماء مفقودين جمّعتها من هنا وهناك، ومع المنتظرين على ناصية الأمل لسماع أيّ خبر عنهم. رحلة مليئة بالانتظار.

المفقودون في الغارة على مبنى في منطقة القائم في الضاحية الجنوبية لبيروت في 20 أيلول الماضي التي بلغت حصيلة شهدائها 55، بحسب وزارة الصحة، هم: الطفلة نايا غازي (4 سنوات)، الطفل جلال فارس (سنتان)، الشاب موسى السموري (30 سنة)، السيّدة ابتسام فوّاز وابنها، بالإضافة إلى مفقود آخر، لم تُعرف هويّته، بحسب المسؤول الإعلامي للدفاع المدني التابع لجمعية الهيئة الصحية الإسلامية، محمود كركي. المفقودون في الغارة على منطقة حارة حريك التي استهدف فيها الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله في 27 أيلول، أربعة عرفنا منهم علي الحاج علي (68 سنة). المفقودة وفاء عبدالله في غارة على مبنى في شارع رعد في منطقة الغبيري. مفقودان في منطقة المريجة، ومفقود في حيّ الأميركان، بحسب كركي، ما يجعل العدد التقريبيّ 14 مفقودًا ومفقودة في الضاحية الجنوبية. يضاف إلى هؤلاء مفقودة واحدة في مجزرة البسطة الثانية بشارع المأمون، تمّ الإبلاغ عن فقدانها بعد أسبوعين من المجزرة وهو ما أكّده لنا مخفر المنطقة. وقد علمنا أثناء إعداد هذا التحقيق من الدفاع المدني بالعثور على أشلاء في موقع الغارة ولكن لا تزال تخضع لفحوصات الحمض النووي للتحقّق ممّا إذا كانت تعود للمفقودة الأخيرة.

يقول كركي لـ “المفكرة” إنّه “مع دخول قرار وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في 27 تشرين الثاني، كان عدد المفقودين في منطقة بيروت هو 28 مفقودًا، ومع انتشال 7 جثامين/أشلاء من منطقة حارة حريك بالقرب من العاملية في 20 و21 كانون الأول الجاري (الشارع الموازي لموقع اغتيال السيّد نصر الله)، وغيرهم في مناطق أخرى، أصبح عدد المفقودين التقريبيّ 17 مفقودًا ومفقودة”، ولكنّه شدّد على ضرورة اعتبار العدد “تقريبي”، فلا شيء برأيه مؤكّد. الحال نفسه مع الدفاع المدني اللبناني الذي أكّد لنا أنّه “ليس هناك من عدد محدّد للمفقودين”، في الوقت الذي تقول فيه وزارة الصحة إنّها لا تمتلك أيّ معلومات عنهم، فيما يشير مصدر في قوى الأمن الداخلي إلى أنّ القوى الأمنية بدورها لم تتلقَّ أيّ بلاغات عن مفقودين. وبالتالي قرّرنا اعتماد العدد الذي توصّلنا إليه للمفقودين أي 15 مفقودًا ومفقودة لأنّ لدينا أسماءهم أو أماكن استشهادهم. 

على صعيد لبنان، الأمر أصعب، مع تعذّر وصول فرق الإغاثة إلى القرى الحدودية بسبب تواجد الجيش الإسرائيليّ فيها، ومن المناطق التي لا زالت تجري فيها عمليات رفع الأنقاض وانتشال الجثامين في الجنوب هي الخيام حاليًا، وليس هناك من عدد محدّد للمفقودين بحسب الدفاع المدني اللبناني الذي يوضح أنّ “عمليات رفع الأنقاض للبحث عن مفقودين تتوقّف عند العثور على المفقودين أو عندما يكون الدخول إلى منطقة معيّنة ممنوعًا لأسباب أمنية، وتُستأنف عمليات البحث وفقًا لأي معلومات تردنا حول وجود أشخاص في موقع ما لم يكشف مصيرهم بعد”.

يقول المصدر في قوى الأمن الداخليّ لـ “المفكرة” إنّه “ليس هناك مبلّغين حاليًا عن وجود مفقود لهم خلال الحرب”، مشيرًا إلى الأشلاء التي تمّ العثور عليها في مختلف المناطق. ويضيف أنّ مكتب المختبرات الجنائية أخذ عيّنات من الأشلاء الموجودة في المستشفيات الحكومية، وأجرى لها فحوصات الحمض النووي، مما يسهّل عملية التعرّف على هويّاتها في حال تقدّم من لهم مفقودون لإجراء فحص الحمض النووي، وبحسب المعلومات الأخيرة السابقة لتاريخ نشر المقال، يشير المصدر إلى أنّه “كان هناك 218 أشلاء في المستشفيات، وبعد تقدّم 106 أشخاص بفحوصات الحمض النووي الخاصّة بهم في المراكز المعتمدة، تمّ التعرف على 139 من هذه الأشلاء، ليتبقّى 79 قطعة منها بانتظار من يبحث عنها”. وتكون هذه الأشلاء عادة عبارة عن أجزاء كبيرة أم صغيرة غير واضحة المعالم، وقد يعود أكثر من جزء واحد منها لشخص واحد، ومن الممكن أيضًا أن يكون بعضها أجزاء من جثامين دفنت سابقًا، بحسب المصدر الذي لفت إلى أنّه “بعد مرور فترة من الزمن يتمّ جمع الأشلاء المتبقية المجهولة الهوية لتُدفن جميعها في مكان واحد”.

“ما قدرت أعمل قبر لبيّي”

حاولت الاستعداد نفسيًا قبل الاتصال بسالينا التي لا يزال والدها الشهيد علي الحاج علي مفقودًا في موقع الغارة التي استهدفت السيّد نصر الله في 27 أيلول. لم أتوقّع أن يبدأ حديثي معها بسؤالها لي “معقول تقدري تساعديني نلاقي بابا؟!” بمجرّد أن عرّفتها عن نفسي. كانت سالينا تنتظر أيّ اتصال من أيّ جهة لتعرفَ خبرًا عن والدها، تيقّنت حينها أكثر أنّ لنا مع المفقودين رحلة شخصية أخذناها على عاتقنا. والحقيقة أنّه منذ الظهور الأخير لوالدها على “واتساب” عند الساعة 6:05 من مساء يوم الجمعة 27 أيلول، وهو تقريبًا توقيت الغارة وبعد علمها بموقع الاستهداف في حارة حريك، حاولت سالينا الاتصال بوالدها من دون أن تلقى ردًّا منه، فتأكّدت حينها أنّه فقد في الغارة، وهي منذ ذلك اليوم تتفقّد هاتفها، بانتظار أن تسمع أيّ خبر عن والدها المفقود.

“حاولنا معه كثيرًا، لكنّه لم يرضَ أن يترك منزلنا في حارة حريك، قلت له قبل أيام: شو بحملك وباخدك؟  فابتسم وأجابني: هيدي بس اغتيالات، وما في شي هون، إذا سمعت شي صوت بفلّ دغري”، تقول سالينا مستعيدة حديثها مع والدها قبل ثلاثة أيام من الغارة. كلّ ما حصل لم يكُن متوقّعًا. في اليوم نفسه، وقبل ساعات قليلة من تنفيذ الاستهداف، زار علي ابنته سالينا وزوجته التي نزحت إلى منزل ابنتها في منطقة الأشرفية، اطمأنّ عليهما، أبقى على بعض المستندات المهمّة مع زوجته التي سلّمته بدورها “طبخة” كانت حضّرتها له، فصحّته هي الأهمّ بالنسبة لها، حمل علبة الطعام معه وعاد أدراجه إلى المنزل. وبمجرّد وصوله إلى هناك طمأن ابنته للمرة الأخيرة أنّه قد وصل بخير. “لما سمعنا الخبر راح خيي عالموتو لعنده، شاف النار طالعة، ما قدر يفوت ورجع، وبابا ما رجع حكانا، هون كل شي خلص”، تقول سالينا. ورغم يقينها هي وعائلتها بأنّ والدها كان متواجدًا في المنزل وقت الغارة، إلّا أنّهم طلبوا الاطّلاع على إحدى كاميرات المراقبة الموجودة في المبنى، لعلّ أمرًا ما قد دفعه لترك المنزل مجدّدًا، ولكنّ والدها ظهر في الفيديو وهو يصعد الدّرج عند الساعة 5:49 مساءً، وهو يحمل الكيس الذي حمّلته إيّاه زوجته قبل مغادرته. كان هذا دليلًا قاطعًا أكّد المؤكّد.

سافرت سالينا مع والدتها إلى خارج لبنان ليبقوا مع شقيقتها، هربوا من الحرب لفترة وجيزة، وعادوا بعدها ليستكملوا رحلة البحث. “صحيح بابا هو شخص بس، بس هيدا بيّي بيحقلّي لاقيه. نحنا لهلأ ما قادرين نعمل قبر لبيّي!”، تقول سالينا بعدما زارت مكان الاستهداف الذي وجدت أنّه قد تحوّل إلى “مزار”. ففي الوقت الذي كانت تستكمل فيه عمليات البحث عن المفقودين السبعة في مبنى أيوب في الشارع الموازي لموقع منزل عائلتها، كانت سالينا تقف عاجزة أمام الدمار الذي خلّفته الغارة مكان  استهداف نصرالله، حيث كان والدها وحيدًا في المبنى الذي يتواجد فيه منزلهم. تراقب زوّار الموقع، تسمع صوت الآليات التي تحفر في الشارع الموازي، وتفكّر لو كان بإمكانها هي أن تحفر بيديها مكان منزلهم. قد تبدو الفكرة غير منطقية، ولكن ما ليس منطقيًا أيضًا بالنسبة للشابة العشرينية كان أن تجد أثرًا للمنزل وألّا تجد أثرًا لجسدٍ “شفت بلاطة من حمام غرفة النوم عند أهلي، إذا البلاط إلو أثر، كيف بابا ما بدو يكون إلو أثر؟”، تسأل، وتتابع “في ناس بتقول ما في أمل لأن الضربة كانت قوية، بس إذا في قصص كتير التقت أكيد هوّي رح يلتقى”.

تخشى سالينا أن يصبح موضوع البحث عن والدها في خبر كان، قلِقة من أن “يكون المكان قد تحوّل إلى مزار كما حصل في مرفأ بيروت بعد انفجار 4 آب، وأن تكون عمليات البحث لم تتابع بشكل جديّ”، مضيفة “سألنا كتير وما في جواب وما بعرف شو عم يصير على أرض الواقع”. 

حملنا هواجس سالينا إلى مدير العمليات في جمعية الهيئة الصحية الإسلامية في منطقة بيروت، محمد فرحات، الذي قال إنّ “عمليات البحث تستكمل تباعًا، قبل اختتامها، حيث من المفترض أن تستكمل في منطقة حارة حريك خلال الأيام المقبلة لإجراء إعادة تقييم، وتحديدًا في المبنى الذي يتواجد فيه المفقود علي الحاج علي بالإضافة إلى ثلاثة مفقودين آخرين في الموقع”. وأكّد فرحات أنّ الفرق الخاصة بالجمعية قد حاولت سابقًا البحث عن جثمان الحاج علي أو إيجاد أيّ أثر له، قائلًا “شلنا البناية من مكانها، حفرنا حتى ما بقى قادرين نحفر أكتر، ورغم ذلك سوف نكمل عمليات البحث”.

عائلات سورية من آخر المفقودين الذين تمّ انتشالهم

من مكان استهداف نصرالله توجّهنا نزولًا نحو مبنى أيوب قرب العاملية، وهو واحد من بين ستّة مبانٍ استُهدفت هناك، حيث استقبلتنا صور كبيرة مركّبة لعدد من الشهداء والشهيدات الذين قضوا بالغارة، وحاجزًا حديديًا علّقت عليه ورقة صغيرة تحمل تحذيرًا بعدم الاقتراب “خطر الموت”. بعد الحاجز، كان الغبار يلفّ المكان جرّاء عمليات إزالة الرّدم، وعلمنا أنّ فرق الإغاثة انتشلت قبل وصولنا أي السبت 21 كانون الأوّل 4 شهداء وكانت في اليوم السابق انتشلت 3. بدا المكان باردًا بعدما بردت قلوب من كانوا يبحثون عن مفقوديهم السّبعة وبعدما غادروا المكان. والمفقودون هم ستّة أفراد من عائلة سورية كانت قد نزحت من الجنوب قبل أيام قليلة من الغارة وسكنت في الطابق الأول من المبنى، أمّا الجثمان السابع فيعود لسيّدة من الجنسية البنغلادشية كانت موجودة في غرفة الناطور.

خبر انتشال جثامين شهداء العائلة السورية في مبنى أيوب بعد ما يزيد عن شهرين ونصف الشهر على الغارة، ذكّرنا بانتشال جثامين الشهداء السوريين الناطور حمادي الحمّادي، وزوجته أمل موسى إسماعيل، وطفليهما يوسف (10 سنوات) ويحيى (12 سنة) في مجزرة البسطة الثانية بعد إصرار شقيق الشهيدة مَي شحيمي التي كانت مفقودة، على مواصلة البحث عن جثمان شقيقته، واضطراره إلى القيام بـ “وساطات لتزويد فرق الدفاع المدني بالآليات اللازمة لاستكمال عمليات البحث”، على حدّ قوله. ولولا إصراره لما كان أفراد عائلة أبو يحيى سيحظون بقبور تخلّد ذكراهم. 

وفاء عبدالله “مفقودة الأثر”

حين وصلنا إلى شارع رعد في منطقة الغبيري كانت الجرّافة تزيل آخر الرّكام الذي خلّفته الغارة على مبنى “أبو جهاد الخنسا” بعد أن تعذّر العثور على أيّ أثر للمفقودة وفاء عبدالله، السيدة الستينية، ابنة بلدة الخيام الجنوبية. إلى جانب موقع المبنى كان أصحاب محلّات ومنازل في المبنى نفسه يبحثون عن أثر لأيّ من ممتلكاتهم بين كومة ردم عند زاوية الطريق. “لا يوجد الكثير هنا، وكأنّ كلّ شيء قد تبخّر، أعتقد أنّه من الصعب جدًا أن يجدوا أيّ أثر لوفاء هنا. تلاشت… تلاشت”، يقول أحد هؤلاء لـ “المفكرة”، وهو ما أكّده فرحات أيضًا “لقد أزلنا المبنى بالكامل ولم يعد هناك مكان إضافيّ لنبحث فيه، وفاء مفقودة الأثر”.

وفي تفاصيل فقدان وفاء التي جمعناها من سكّان الحي، أنّ بعض أبناء المنطقة ومن ضمنهم وفاء التزموا منازلهم ومحالهم وكانوا يتركونها فقط في حال إصدار إنذارات ما عدا وفاء التي كانت مصرّة على عدم ترك منزلها “خوفًا من أن تخسره”، بحسب بعض الجيران. بقيت في منزلها في الطابق السادس من المبنى المؤلّف من سبع طبقات، وكانت في خضمّ إجراء بعض التحسينات في غرفة نومها. “شفتها قبل بيوم من الغارة حاملة كيس، سألتها شو عم تعملي يا وفاء؟ قالتلي عم تعمل ديكور وتدهن غرفتها”، يقول قاسم، صاحب محلّ تجاريّ في المبنى المقابل للمبنى الذي كانت تسكن فيه وفاء، لافتًا إلى أنّها كانت ترسل له رسالة قبل أن تستخدم المصعد الكهربائيّ لكي تجد من يساعدها على الخروج في حال انقطاع التيار الكهربائيّ فجأة، نظرًا لتواجده في المنطقة في كثير من الأحيان. نجت وفاء من “العلقة” بالمصعد الكهربائيّ لكنّها لم تنجُ من الغارة. يقول جارها إنّه طلب من فرق الإنقاذ أن يبحثوا أوّلًا داخل المصعد علّها تكون عالقة هناك، لكن لم يجدوها فيه ولم يجدوا أثرًا لها في أي مكان. 

6 مفقودين في غارة القائم

نصل إلى منطقة القائم في الضاحية الجنوبية، هنا لا يزال هناك ستة أشخاص مفقودين تحت أنقاض المبنى الذي استهدفته إسرائيل في 20 أيلول الماضي. هنا اغتالت إسرائيل قائد “قوّة الرضوان” في حزب الله إبراهيم عقيل وعدد من أعضاء “القوة”، ولكن معهم زهقت أرواح 55 مدنيًا وأصيب أكثر من 60 بجروح، وهو ما يخالف مبدأ التناسب في شنّ الهجمات العسكرية خلال الحرب.

يعمّ الصمت في المكان. الآلية المستخدمة للبحث عن المفقودين متوقّفة عن العمل بانتظار إعادة تزويدها بالوقود، في هذا الوقت يأخذ أهالي المفقودين “استراحة محارب”، فيتراجعون بضع خطوات إلى الوراء، كما فعلت خالة الطفل المفقود جلال فارس (سنتان)، التي تزور المكان بشكل شبه يوميّ لمتابعة عمليات البحث في الموقع بعد استئنافها في 18 كانون الأول الجاري بعد توقّفها خلال الحرب جرّاء صعوبة العمل في ظلّ الغارات الإسرائيلية العنيفة. في حالة الانتظار، تكتفي خالة جلال بالصّمت، ثم تقول باختصار “رح يضلّوا يبحثوا ولكن المتوقع ما يبقوا فترة طويلة إذا ما لقوا شي”. تعود الآلية للعمل، فتستأذن الخالة وتقترب مجدّدًا لمراقبة عمليات البحث عن كثب من خلال الغبار الذي يعمّ المكان الذي بات محفورًا بشكل شبه كليّ.

على الجهة الأخرى، وعلى حافّة الحفرة العميقة، تقف والدة الطفلة المفقودة نايا غازي. عرفتها من كثرة ما شاهدت الفيديو الذي توجّهت فيه إلى الناس لتطلب ألّا ينعوا ابنتها قبل العثور عليها. تُحدّق الوالدة في الحفرة، تبدو كأنّها تحاول رصد أيّ أثر لطفلتها التي تبلغ من العمر أربع سنوات، صاحبة الضحكة الجميلة والشّعر المخوْتم. هنا كان منزلهم الآمن، وهنا أيضًا خسرت والدة نايا أمانها: زوجها وطفلتها. يصعب عليها أن تفارق المكان ولو للحظة، وإن فعلت، تحرص على أن تُعلم أحد الموجودين “أنا رايحة شوي وراجعة، خبّرني إذا لقيتوا شي”. 

بالإضافة إلى الطفلين جلال فارس ونايا غازي، لا زال هناك ثلاثة مفقودين بحسب أبناء المنطقة، وأربعة مفقودين بحسب المسؤول الإعلامي لجمعية الهيئة الصحية الإسلامية، ومنهم: الشاب موسى السموري (30 سنة)، والسيدة ابتسام فواز وابنها.
وبحسب مدير العمليات في منطقة بيروت، محمد فرحات، فإنّ عمليات رفع الأنقاض بحثًا عن المفقودين لم تتوقّف خلال الحرب، إلّا في اللحظات التي كان يهدّد فيها العاملون في هيئات الإغاثة، فكانت تضطرّ حينها الفرق لعدم المخاطرة بحياة العناصر فقط في حال كانوا متأكّدين من عدم وجود أحد على قيد الحياة في الغارة، وكانوا يعودون مباشرة لمتابعة عمليات الإغاثة فور زوال الخطر. “ما وقفنا عمليات البحث خلال الحرب، ولكن أحيانًا كان يصير في ضرب علينا”، يقول كركري مضيفًا “ما يميّزنا عن غيرنا من الجمعيات أنّنا نقوم بمهام الإسعاف والإنقاذ والإطفاء في آن معًا، وبالتالي نحن موجودون لدى حصول أي غارة وفي أيّ مكان، وهذا ما يمنحنا القدرة على التواجد على الأرض لإدارة الميدان بشكل عام منذ اللحظات الأولى وحتى اختتام عمليات البحث عن مفقودين”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، أجهزة أمنية ، فئات مهمشة ، لبنان ، مقالات ، جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني