كان مرج بسري تاريخياً يُعرف بمرج عماطور لما للبلدة التي تتصدر قرى الشوف الأعلى، من أملاك فيه. حقيقة تعكسها نسبة الأراضي المستملكة من عماطور والبالغة 31% من 5 ملايين و700 متر مربع جرى استملاكها لصالح السد والبحيرة.
هذه المساحة أوجدت تاريخياً علاقة بنيوية بين أبناء البلدة والمرج، حيث اعتاش منه عدد كبير من الأجداد الذين أورثوا أراضيهم إلى أبنائهم وانتقلت إلى الجيل الجديد، برغم أسبقية حقيقة يفتخر بها أبناء البلدة بإقبالهم باكراً جداً على العلم مع إنشاء أول مدرسة فيها في 1870. وكذلك مع استضافتها أول مدرسة رسمية في المنطقة لم تعلّم أبناءها فقط بل معظم المقبلين على العلم في محيطها آنذاك.
وبالتالي فإنّ تملّك عماطور في المرج والسلطة التاريخية التي تمتعت بها عائلتاها الأساسيتان عبد الصمد وأبو شقرا، أناطا بهاتين العائلتين حصرية الأمانة على حراسة المرج حيث ما زال أبناؤهما حتى اليوم يتناوبون على تولّي مهمة السهر على المرج وتنظيم الري ومراقبة المخالفات فيه بشغل منصب ناطور المرج وحارسه. والدليل الأكبر على حجم ملكية عماطور للأراضي في المرج، هو أنّ 31% من مساحة البحيرة التي سيقام عليها السد، أي نحو مليون و750 ألف متر مربع، تم استملاك أراضيها من أهالي عماطور.
وعلاقة عماطور بالعلم والوعي تعود أيضاً، وفق الدكتور سناء أبو شقرا أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية وعضو المكتب السياسي السابق في الحزب الشيوعي اللبناني، “إلى تميُّزها منذ 1850 مع سلطة رؤساء العاميات فيها، وتحديداً عائلتيها عبد الصمد وأبوشقرا اللتين امتلكتا أو مُلّكتا 24 قرية بين جزين وصيدا وصولاً إلى تخوم النبطية. يُسرٌ انعكس على وضع عماطور بين المناطق الأخرى وإنشاء مدارس خاصة ساهمت في تكوّن جيل من المتعلمين الذين انفتحت ذريتهم لاحقاً على الفكر السياسي والتحزّب وخصوصاً الأحزاب العلمانية والتقدمية منها. الأحزاب نفسها عادت وساهمت في تطوير عماطور عبر المنح الدراسية الجامعية التي حظي بها أبناؤها لترفع نسبة حاملي الشهادات الجامعية بينهم”.
يخبرنا الدكتور أبو شقرا وهو إحدى أهم الشخصيات في عماطور التي يتطلّع الناس إلى رأيها أنّ 90% من أراضي عماطور مزروعة بالزيتون ويوجد نحو 5 آلاف كعب زيتون على الأقل، عدا عن عشرات آلاف الأشجار المثمرة في قضاءي جزين والشوف وقرى الإقليم المطلّة على المرج. ويقول إنّ إنتاج الزيتون ليس تفصيلاً في حياة الريفيين، فعلى سبيل المثال يبلغ الإنتاج في المواسم العادية نحو 3 آلاف صفيحة زيت زيتون في عماطور مثلاً، لا يقل ثمنها عن 300 ألف دولار كحد أدنى.
ويرى أبو شقرا، ردّاً على القائلين بعدم اهتمام أهالي القرى بالزراعة، أنّ المشكلة في التصريف وفي السياسة الرسمية لإدارة القطاع الزراعي التي تدفع الناس إلى عدم الإهتمام بالزراعة وهجر الريف نحو المدن. ويلفت إلى أن هذا الواقع الذي فرضته الإدارة الرسمية للقطاع “يضرب منظومة علاقة الإنسان بالأرض، فالإنتاج الجيد والتصريف الملائم يحفّزان المزارع على مزيد من العناية بالأرض وتطوير زراعاته”.
وبرغم تخفيف رئيس البلدية وليد حسيب أبو شقرا من أهمية إنتاجية الزراعة في عماطور، يبيّن استعراضه التاريخي لمميزات بلدته، علاقتها المتينة بالقطاع: “كانت عماطور التي تبلغ مساحتها 5 ملايين و770 ألف متر مربع مع أملاكها في بسري من أغنى القرى خراجاً ومالاً في الجبل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. انتشرت فيها معاصر العنب والزيتون ومحلات الصباغة والحياكة ومنشآت صناعية وحرفية”. ويضيف “بعض زيتونها الشهير المعمّر ما زال موجوداً منذ أيام الأمير فخرالدين”. وتُضمّن بلدية عماطور وفق رئيس البلدية حرج الصنوبر الموجود في أملاكها وفيه 5 آلاف شجرة صنوبر جوي مثمر، بـ85 مليون ليرة في الموسم. بالمقابل، يصّر أنّ أبناء بلدته “قطعوا علاقتهم بالمرج من خمسين سنة”، وهم يعتمدون في معيشتهم على الوظيفة في القطاعين العام والخاص.
أي موقف للقرية من سد بسري؟
إذا استثنينا مبادرة شبان وشابات عماطور التي انطلقت حديثاً لمواجهة أخطار سد بسري على البلدة خاصة وقرى حوض المرج ولبنان عامة، لا يمكن إلّا طرح سؤال عن موقع عماطور من معركة الناشطين ضد مشروع سد بسري. فهذه البلدة التي تحتل صدر الشوف الأعلى متربّعة على رأس طلّته نحو مرج بسري طالما تمتعت بخصوصية في علاقتها مع زعامة المختارة، خصوصاً الخلف وليس المعلّم الشهيد كمال جنبلاط. لم تتوانَ عماطور السبّاقة في العلم والتي طالما اختزنت شخصيات يسارية وازنة، عن قول رأيها في المسائل الحساسة والدقيقة وفي قضايا مهمة حتى وإن اختلف عن رأي المختارة، وأيضاً عن كل آراء الزعامات التقليدية.
يقول البعض إنّ وليد جنبلاط نفسه الذي يمارس السياسة “لم يواجه موقف عماطور وخصوصيتها عامة”، كما يؤكد الدكتور سناء أبو شقرا، بل طالما تعامل معها على قاعدة احترام الإختلاف. “هو يدرك في عمقه أنّ الموقف المعارض للنخبة العماطورية لا يصب في خانة المنافسة على الزعامة بقدر ما هو الحفاظ على حرية الموقف واستقلالية الفكر لشخصياتها السياسية”.
يرتاح جنبلاط أيضاً إلى بعض التوازن في العلاقة مع عماطور مع استمرار وجود جيل من أبنائها كان ولا يزال يتعامل مع زعامة المختارة من منطلق أب الطائفة وحامي العشيرة.
ولكن الأساس في بُعد عماطور عن موقف نقدي بنّاء ومعارض للسد ينسحب أيضاً على عدم إدراك القاعدة الشعبية مبكراً لخطورة السد وتأثيره المدمّر على المنطقة، بخاصة وأنّ حملة المعارضة له لم تتفعّل سوى منذ فترة قصيرة لا تتجاوز العام. وعليه نجد في عماطور اليوم بذور مجموعة شبابية تسعى جاهدة لبناء ملف متكامل عن السد لتبدأ حملة معارضة “تحمي الأرض والقرى والمرج للأجيال المقبلة”، كما تقول إحدى الناشطات في الحملة سوزان أبو شقرا لـ”المفكرة”. ويخطّط هؤلاء لإطلاق الحملة من عماطور نحو القرى الشوفية الأخرى انسجاماً مع تحوّل قضية مرج بسري مع الثورة إلى قضية رأي عام على مستوى الوطن.
يبدو د. سناء أبو شقرا اليساري المخضرم مسكوناً بهاجس تأمين المياه لبيروت، هو الذي يخرج بتفكيره واهتمامه من الإطار الضيّق لمصلحة المنطقة إلى مستوى المصلحة الوطنية، والمنفعة العامة التي يُنفذ السد من أجلها وهي “تأمين مياه الشفة لبيروت والضاحية الجنوبية وجزء كبير من مناطق جبل لبنان”، وفق ما يرى. ومع ذلك يقول أبو شقرا إنّ أولوية تأمين المياه لبيروت والضاحية مربوطة بمسائل عدة أبرزها “البدائل المتوفرة والممكنة لتأمين مياه هاتين المنطقتين وكلفتها في حال وقف السد، وضرورة توافر دراسات موثوقة بموضوع الزلازل ومخاطرها نتيجة السد، وتكوين المرج الجيولوجي وعدم سماحه بتجميع المياه، وكذلك المخاطر على الزراعة في كامل منطقة الحوض، حيث هناك معطيات حالياً تتحدث عن مخاطر ورؤى أخرى تخفف من أهميتها”.
ويتابع أبو شقرا “كان مرج بسري مركزاً لزلزالين على الأقل آخرهما في 1956 وهناك دراسات تؤكد نشاط فالقي روم وبسري الزلزاليين وإمكانية تحرّكهما بسبب السد، وهذه معطيات تم الحديث عنها قبل نشوء معارضة للمشروع، كما أنّ كمية المياه التي تصل إلى المرج صيفاً تصبح أقل من جدول، فماذا سيحل بالسد في فصل الصيف؟ وهل يكفي الماء الموجود لتخزين الإحتياجات المرتجاة؟ خصوصاً وأنّ المياه المنوي استجلابها من القرعون غير صالحة للإستخدام”. كما يطالب بمسح جدي للآثار المهمّة في المرج وكيفية التصرّف تجاهها.
هذه الهواجس يبددها رئيس البلدية الذي وافق بصفته رئيس السلطة المحلية على مشروع سد بسري. واللافت أنه يستنجد لهذه الغاية بمعلومات صادرة عن مجلس الإنماء والإعمار ومفادها أن “الزلازل قديمة والبحيرة واطية ما بتعمل زلزال، بس البحيرات العالية خطرة، والقرى بعيدة عن البحيرة ولن تتأثر زراعاتها بالرطوية”، وفق ما يقول من دون أن يكون لديه دراسة واحدة تؤكد كلامه. وهذا ما تولّى عدد من الخبراء دحضه، وفق مقالات ننشرها في هذا العدد الخاص بمرج بسري بالذات.
وفي الاتجاه نفسه، يستبعد رئيس البلدية أن يلحق أي ضرر بالزيتون: “في ناس بترش أدوية لمرض عين الطاووس، نحن منفضل نترك الشجرة تقاوم بمناعتها”. كما أنّه يعتبر أن “لا وجود لشجر حساس في المنطقة يمكن أن يتأثر بالرطوبة، بما فيه الصنوبر المثمر الذي تمتلكه البلدية”.
وحين نسأله عن حرج الصنوبر الذي يقع على كتف بحيرة السد، يجيب: “صح هو أقرب من حرج بكاسين ع البحيرة، بس ما بعتقد في خطر” يقول. ويشير إلى أنّ لديه اتفاقية شفهية مع مجلس الإنماء والإعمار عن منح عماطور كهرباء من محطة توليد كهرباء السد علماً أن مدير المشروع إيلي موصللي أكد لـ”المفكرة” أنهم سيولدون 2.0 ميغاوات فقط وهي تكفي لتشغيل منشآت السد وإضاءته ليس إلاّ، أي أنّ لا كهرباء طبعاً لقرى الحوض كما وعدهم المجلس.
- نشر هذا المقال في العدد | 62 | كانون الثاني 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
مرج بسري في قلب الإنتفاضة