رابطة القضاة (3): عندما كسب قضاة المغرب رهان توحيد القضاء وتعريبه


2015-10-20    |   

رابطة القضاة (3): عندما كسب قضاة المغرب رهان توحيد القضاء وتعريبه

تنشر المفكرة هنا الجزء الثالث من مقال القاضي أنس سعدون عن رابطة القضاة في المغرب. يمكن الاطلاع على الجزء الأول والجزء الثاني من هذا المقال على الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية. 

كان توحيد القضاء ومغربته وتعريبه من بين أهم المطالب المستعجلة التي رفعتها رابطة القضاة، التي أسسها قضاة مغاربة وطنيون. وقد استجاب لها المشرع حيث شرع في تنزيل هذا المطلب بشكل تدريجي رغم الصعوبات الفنية والمادية التي واجهته. وكانت أولى خطوة تم اعتمادها في هذا الصدد، هي الغاء القسم الجنائي العرفي بالمحكمة العليا[1]، وإحداث محاكم للحكام المفوضين في دائرة نفوذ المحاكم العرفية القديمة،[2] ثم توحيد المحاكم العصرية والمحاكم العادية بإدماج الأولى في الثانية بمدينة طنجة[3]. وامتد هذا النظام للمنطقة التي كانت تابعة للنفوذ الاسباني حيث أدمجت محاكم الصلح بمحاكم السدد[4]، والمحاكم الابتدائية بالمحاكم الاقليمية.[5] كما تم إلغاء المحكمة العليا الشريفة وضمت غرفها لمحكمة الاستئناف بالرباط[6]. وتمّ إحداث المجلس الأعلى الذي يشمل نفوذه جميع المحاكم المغربية على اختلاف أنواعها[7].

وبمقتضى هذه الاصلاحات الجزئية أصبح القضاء المغربي يشتمل على أربعة أصناف من المحاكم: محاكم عادية، محاكم عصرية، محاكم شرعية أو محاكم القضاة، محاكم عبرية[8].

إلا أن هذا الوضع الذي أدت إليه الاصلاحات وإن كان قد حقق خطوات أولية في سبيل توحيد المحاكم، إلا أنه ظل مشوبا بعدة عيوب أهمها: تعدد أنواع المحاكم، ووجود قضاة أجانب، والاستمرار في التقاضي باستعمال لغات أجنبية (فرنسية واسبانية) في المحاكم العصرية.

ويضاف إلى هذه العيوب اختلالات أخرى تشوب التشريع المطبق أمام هذه المحاكم المختلفة، حيث كان بدوره متعددا يختلف باختلاف المحاكم. كما أن أغلب النصوص التي كانت مطبقة أمام المحاكم العصرية لم تكن معربة، فكان من الضروري توحيد التشريع وتعريبه[9].
 
مؤتمرات رابطة القضاة والدعوة إلى توحيد القضاء وتعريبه ومغربته

كان موضوع التشرذم الذي تعرفه المنظومة القضائية المغربية الموروثة على عهد الحماية من بين المواضيع الهامة التي تضمنها الملف المطلبي لرابطة القضاة. فقد شغل حيّزا هامّا ضمن مؤتمراتها منذ الجمع العام التأسيسي وكذا في باقي المؤتمرات. وهكذا، تمّ التطرّق إلى هذا الموضوع في اجتماع مكتب الرابطة مع الملك الحسن الثاني. ونادى المؤتمر الثالث المنعقد بطنجة بتوحيد القضاء توحيدا كاملاوالتعجيل بمغربته، وتعريب التشريعات المطبقة أمام المحاكم. وقد حصل ذلك في جلسته الافتتاحية التي ترأسها الملك. وبتاريخ 16 فبراير 1964، عقد مكتب رابطة القضاة إجتماعا مطولا مع وزير العدل، استغرق أزيد من خمس ساعات من أجل مناقشة ملتمسات المؤتمر الثالث للرابطة، وتم التركيز على ضرورة بذل جهود أكبر من أجل مغربة القضاء وتوحيده، كتجسيد لفكرة استقلال البلاد، حيث تمت المناداة بضرورة الحرص على فتح مباراة جديدة لولوج القضاة المغاربة والاهتمام بتكوينهم لتعويض القضاة الأجانب وسد الخصاص الذي تعرفه المحاكم.

كما تطرق المؤتمر الخامس للرابطة المنعقد بفاس لواقع التنظيم القضائي في مغرب ما بعد الاستقلال. وجاء في كلمة رئيس رابطة القضاة: "أن تجربة عشر سنوات في إطار التنظيمات القضائية القائمة في المغرب أثارت انتباهنا إلى عدم ملاءمتها في كثير من جوانبها للواقع المغربي، بسبب تنوع الاختصاص في المحاكم، وتعقيد الاجراءات وتعطيل التوصل إلى الحقوق. ولذلك ارتأى مكتب الرابطة أن يدرس بتفصيل هذه النقطة بواسطة لجنة فرعية مختصة لتقديم التوصيات"[10].

وأضاف حول موقف رابطة القضاة من التشريعات المطبقة أمام المحاكم أن "كثيرا منها وخصوصا ما يتعلق بالمسطرة وشؤون التنفيذ تسبب بعض المشاكل، وتجعل القاضي المطالب بالسرعة في رفع الظلم وإقامة العدل عاجزا على القيام بواجبه".

وفي مؤتمر رابطة القضاة المنعقد بفاس وخلال جلسته الافتتاحية، زف الملك الحسن الثاني نبأ صدور تعليمات لوزيره في العدل باتخاذ الوسائل الضرورية لتحقيق مبدأ توحيد المحاكم ومغربتها وتعريبها[11]. وهكذا تم الاعلان عن تكوين لجنة من القانونيين والقضاة وأنيطت بهم مهمة تعريب التشريعات.
 
قانون مغربة القضاء وتوحيده وتعريبه الانتصار الكبير لتجمع القضاة

بتاريخ 02 يونيو 1964، حسم مجلس النواب مسألة توحيد القضاء ومغربته وتعريبه. ثمّ صادق بالإجماع على القانون المتعلق بهذه المسألة، ثم صوت مجلس المستشارين بالإجماع أيضا على هذا القانون بتاريخ 17 يونيو 1964. وتوجت مصادقة البرلمان بغرفتيه على هذا القانون بصدور أمر ملكي بتنفيذه بتاريخ 26 يناير 1965.[12]

لقد أقر قانون التوحيد في ميدان التنظيم القضائي مبادئ ثلاثة جوهرية:

التوحيد: أقره الفصل الأول من القانون المذكور الذي نص على أن: "جميع المحاكم المغربية باستثناء المحكمة العسكرية والمحكمة العليا للعدل المنصوص عليها في الباب السابع من الدستور أصبحت موحدة بالمملكة المغربية بمقتضى هذا القانون".

والتعريب: أقره الفصل الخامس الذي نص على أن: "اللغة العربية هي وحدها لغة المداولات والمرافعات والأحكام في المحاكم المغربية".

والمغربة أقرها الفصل الرابع الذي نص على أنه: "لا يمارس وظيفة قاضي بمحاكم المملكة المغربية من لم يحمل الجنسية المغربية".
وبمقتضى تنفيذ هذا النص، تم الاستغناء عن أكثر من 120 قاضياً أجنبياً (فرنسيين وإسبان)، قبل متم سنة 1965. وتم نقل الأعمال التي يقومون بها إلى قضاة مغاربة. ولعل تنفيذ هذا المقتضى كان من بين أصعب القرارات المتخذة على مستوى وزارة العدل. فعدد القضاة المغاربة لم يكن كافيا، كما أن تكوينهم لم يكن يساعدهم على البت في الملفات التي كانت من اختصاص القضاة الأجانب، خصوصاً تلك التي كانت تطبق فيها تشريعات أجنبية أو موروثة على فترة الحماية، كما هي حال مدونة التجارة، والقانون الدولي الخاص. وقد تمّ التنبّه لهذه المشكلة قبل الشروع في تنفيذ قانون المغربة. فقد وجهت وزارة العدل كتابا إلى رؤساء المحاكم لإشراك القضاة المغاربة في جميع الغرف ليتسنى لهم أن يشاركوا القضاة الأجانب في أعمالهم خلال الفترة التي تسبق تنزيل قانون المغربة[13].

في نفس السياق، تمّ ابرام اتفاقيتين مع الدولتين الفرنسية[14] والاسبانية[15] نصتا على بقاء عدد من القضاة الفرنسيين والاسبان لا بصفة قضاة، وإنما خبراء فنيين ليستعين بهم القضاة المغاربة في المسائل القانونية العويصة التي لم يسبق أن عالجوها[16].
وفي الميدان التشريعي، أقرّ القانون مبدأ التوحيد أيضا في الفصل الثالث الذي نص على أن "النصوص الشرعية والعبرية، وكذا القوانين المدنية والجنائية الجاري العمل بها حاليا، تصبح إلى أن تتم مراجعتها مطبقة لدى المحاكم المذكورة..".

وتطبيقا لهذه النصوص تم تنصيب رؤساء ووكلاء للدولة مغاربة للمحاكم الاقليمية الموحدة، بكل من الرباط، الدار البيضاء، مراكش، فاس، مكناس، وجدة، تطوان، وطنجة. وتم توحيد بنايات المحاكم (تساكن المحاكم الاقليمية العادية والمحاكم الابتدائية العصرية من جهة والمحاكم السددية والصلحية من جهة أخرى). كما تم توحيد كتابات الضبط لدى المحاكم والنيابة العامة.

إن توحيد المحاكم ومغربتها وتعريبها كان أهم حدث في تاريخ القضاء المغربي خلال الفترة التي أعقبت انتهاء عهد الحماية.لذلك فإن التغيير الجذري الذي عرفته المحاكم بعد دخول القانون المذكور حيز التنفيذ هو التعبير الصادق عن حقيقة هذا المظهر الهام من مظاهر السيادة الوطنية. وهو الذي يوضح مدى المجهودات التي بذلت في سبيل تحقيقه والصعوبات التي اعترضت هذا التطبيق. وقد كان دور القضاة بارزا في تنزيل هذا القانون، من خلال رابطتهم التي لم تكتف بالمناداة بإحلال العصر الوطني محل الأجنبي في اصدار الأحكام بل نادت بضرورة الحرص على تكوين القضاة، التكوين الجيد الذي يؤهلهم على القيام بمهامهم على أحسن وجه. كما اهتمت بضرورة اصلاح باقي التشريعات الأخرى حتى تكون قابلة للتطبيق. وهنا يبرز الدور الذي لعبته رابطة القضاة بوصفها قوة اقتراحية لم تقصر اهتماماتها على الأمور المهنية الصرفة، بل اهتمت من منطلق واجب المواطنة بكل الأمور الاصلاحية التي ترتبط بسؤال بناء الدولة المغربية الحديثة في ظل الاستقلال.

إن هذه الفكرة تجسدها المقولة الشهيرة التي قدمت أمام أعضاء المؤتمر الخامس للرابطة. جاء فيها: "لقد أصبح لزاما علينا كأعضاء في رابطة القضاة، وقد أصبح القضاء موحدا معربا وممغربا، أن نطالب، بل وأن نعمل، كل منا حسب طاقته، وبما لكل منا من خبرة وتجارب قانونية وقضائية لدراسة القوانين دراسة مستوفية كل جوانبها، لنقترح التعديلات الضرورية حتى تصبح ملائمة لطبعنا، مطابقة لواقعنا المغربي"[17]..
 



-[1]ظهير 7 مارس 1956.
-[2]ظهير 25 غشت 1956.
-[3]ظهير 11 أبريل 1957.
-[4]ظهير 12 غشت 1958.
-[5]قرار وزير العدل بتاريخ 23 دجنبر 1959.
-[6]ظهير 21 شتنبر 1957.
-[7]ظهير 27 شتنبر 1957.
-[8]بالإضافة إلى المحكمة العسكرية ومحاكم الشغل والمحكمة العليا للعدل.
-[9]من بين أولى التشريعات التي تم تعريبها قانون المسطرة الجنائية بمقتضى ظهير 10 فبراير 1959، والقانون الجنائي الصادر بظهير 20 نونبر 1962..
-[10]كلمة رئيس رابطة القضاة في مؤتمرها الخامس المنعقد بمدينة فاس، منشورة بمجلة رابطة القضاة، العدد الأول، السنة الثانية، يناير 1966، ص 20.
ويلاحظ في هذا السياق أنه ساد نوع من التردد داخل المشهد القانوني والقضائي المغربي غداة الاستقلال، حيث طرحت تساؤلات مشروعة بخصوص مآل القوانين التي ستطبق أمام المحاكم المغربية، هل يتم اعتماد القوانين الجاري بها العمل في المحاكم التي أحدتها المستعمر (المحاكم العصرية) ومن تم يتم تمديد العمل بها لتشمل أيضا بقية المحاكم، أم يتم وضع قوانين جديدة، وما هي المرجعيات التي ستعتمد في هذه الحالة،؟ لقد ظلت النظريات تتأرجح بين هذين الاختيارين، وكان لهذا التأرجح الأثر السيء على وضعية القضاة إذ استمرت المحاكم تشتغل على أساس التمييز الجنسي بين المتقاضين، فللمواطنين محاكم وقوانين خاصة بهم ، وللأجانب محاكمهم وقوانينهم، واستمر القضاة الأجانب يعملون بهذه المحاكم .
محمد بنجلون: دور القاضي ومهمته، مقال منشور بمجلة رابطة القضاة، العدد الرابع، السنة الأولى، أبريل 1964، ص 3.
-[11]مجلة رابطة القضاة، العدد الخامس، السنة الأولى، ص 3.
-[12]نشر بالجريدة الرسمية العدد 2727 بتاريخ 03 فبراير 1965، ص 208.
-[13]يتعلق الأمر بمنشور وزير العدل بتاريخ 03 يونيو 1965، وكذا منشوره بتاريخ 26 غشت 1965.
-[14]بتاريخ 20 ماي 1965.
-[15]بتاريخ 06 أكتوبر 1965.
-[16]ألقى وزير العدل السابق (عبد الهادي بوطالب)، حديثا أمام الاذاعة والتلفزة المغربية بتاريخ 28 ماي 1965 على اثر توقيع الاتفاقية مع فرنسا، مبينا الأهداف والأسباب التي دعت اليها.
-[17]أحمد السراج: ضرورة مطابقة تشريعنا لواقعنا المغربي، عرض ألقي أمام أعضاء المؤتمر الخامس لرابطة القضاة، منشور بمجلة رابطة القضاة، العدد الأول، السنة الثانية، ص 26.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، المغرب



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني