“هذه هي المناسبة المثلى لأعلن كرئيس للجمهورية، إيماني بضرورة الإنتقال من النظام الطائفي السائد إلى الدولة المدنية، العصرية، حيث الانتماء الأول هو للوطن وليس للزعماء الطائفيين”. وردت هذه الكلمات على لسان رئيس الجمهورية ميشال عون بتاريخ 31 آب 2019 في سياق إعلانه عن تهيؤ الدولة لاحتفالات المئوية الأولى لقيام لبنان الكبير في 2020. هذه العبارة تستدعي ملاحظتين أساسيتين:
أولا، توصيف النظام على أنه نظام زعماء
من اللافت أن رئيس الجمهورية رأى أن الانتقال إلى الدولة المدنية يفترض تغليب الولاء للوطن، ليس على الولاء للطائفة كما اعتدنا على سماعه في الخطابات الرسمية، إنما على الولاء للزعماء الطائفيين. ويعكس اختيار مفهوم “الزعماء الطائفيين” تشخيص الرئيس عون لوضع النظام السياسي السائد في لبنان: فهو ليس أو لم يعُد نظاما طائفيا يقوم على ضمان حقوق المجموعات وبخاصة الأقليات منها (الطوائف) وفق ما نستشفه من نص الدستور وروحيته، إنما نظاما يقوم قبل كل شيء على تحصين امتيازات الزعماء الذين باتوا يختزلون في أشخاصهم الطوائف التي يدّعون الانتماء إليها. وتوصيف النظام السياسي من قبل رئيس الجمهورية على هذا النحو، وهو حسب علمي الأول من نوعه، يلتقي مع القناعات التي عبّرت عنها مرارا انطلاقا من تحليل السياسات والقوانين المعتمدة منذ انتهاء حرب 1975-1990. ولا نبالغ إذا قلنا أن هيمنة هذا النظام (أي نظام الزعماء) وصلت مؤخرا حدّ التوتاليتارية، بحيث باتت سلطة الزعماء والتحاصص والتنافس فيما بينهم تنسحب على مجمل التعيينات والتشكيلات والشؤون العامة: وعليه، وفيما يهمل مثلا التوظيف على أساس المباراة، يدرج ما يصطلح على تسميته “التوظيف العشوائي” أي التوظيف على أساس القرب من هذا الزعيم أو ذاك. وفيما يستباح القضاء وتروج ثقافة التدخل في أعماله، تتم التشكيلات القضائية على أساس لوائح حزبية تضمن ترقية المقربين لهؤلاء بمعزل عن كفاءتهم. ولا نبالغ إذا قلنا أن مراكز القضاء والجامعة اللبنانية تحوّلت من جراء ذلك من مراكز لأداء رسالتي العدالة والتعليم إلى مراكز لأداء طقوس الولاء لهذا الزعيم أو ذاك.
ونتائج هذه الهيمنة وتداعياتها السياسية والاجتماعية كثيرة. فعدا أنها تهدد الديمقراطية بدرجة كبيرة، فإنها تؤدي إلى شرذمة السلطة وتجزئتها بين أقطاب يتنافسون ويتحاصصون فيما بينهم، كلا لتوسيع دائرة نفوذه أو للحفاظ على ما يعدّه حصة مكتسبة بأقل تقدير، بمنأى عن اعتبارات الصالح العام. وعليه، يصبح الطموح الدستوري في تجاوز الطائفية السياسية في خبر كان: فبدل أن تشكل الدولة وإدارة الشؤون العامة مساحة مشتركة يطمئن لها ويلتقي فيها الجميع، نشهد على العكس من ذلك تنامي الأطراف والأقطاب في موازاة اضمحلال المساحات المشتركة. وبكلام آخر، بدل أن تشكل الدولة رافعة لإرساء شروط أكثر ملاءمة لتجاوز الانقسامات الطائفية أو التخفيف من حدتها عملا بهذا الطموح، تراها تستخدم على العكس من ذلك كأداة لترسيخ هذه الانقسامات وتعميقها.
ثانيا: خطاب قسم للنصف الثاني من العهد؟
ثانيا، من خلال هذا التوصيف، بدا الرئيس عون وكأنه يؤدي خطاب قسم جديدا عنوانه الأساسي السعي لوقف نظام الامتيازات والاستقطاب ومعها كل الممارسات التي تؤدي إلى تعزيز مقام الزعامات على حساب المواطنين والدولة. فبمعزل عن مدى رضاه عن السياسات المتبعة خلال النصف الأول من عهده والتي أخذت في العديد من مفاصلها شكل توسيع نفوذ “الزعامة المسيحية” والدوائر التي تشملها المحاصصة، فإنه يعبّر (أقله هذا ما نفهمه من ظاهر خطابه) عن قناعة بوجوب اعتماد سياسات مغايرة في المستقبل. وفيما يمتنع عن توضيح المسار الزمني الذي سيستغرقه الانتقال الموعود إلى “الدولة المدنية”، فإن خطورة توصيف النظام الحالي وحماسة الخطاب توحيان بأن الرئيس يأمل أن يكون هذا الانتقال عنوانا للنصف المتبقي من العهد وفاتحة للمئوية الثانية من تاريخ لبنان. وهذا ما سنستكشفه من توجهات الرئيس خلال الأسابيع القادمة والتي يجدر متابعتها بانتباه وقياس مدى انسجامها مع هذا الخطاب.
ولعل الاستحقاق الأقرب لاستكشاف نوايا الرئيس ومدى جدية إعلانه بوجوب تحقيق الدولة المدنية هو موعد الجلسة المحددة في المجلس النيابي لمناقشة طلبه الموجه للمجلس بمناقشة المادة 95 من الدستور. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب يخالف بما تضمنه أو لم يتضمنه من معطيات جذريا ما جاء في خطابه الأخير كما يخالف أي احتمال لقيام الدولة المدنية، حيث اعتبر الرئيس فيه أن اعتبارات الوفاق (المناصفة) تعلو على أي اعتبار آخر، بما فيها ضمنا حسن سير المرفق العام ومصلحة الدولة. فهل يرجع الرئيس عن كتابه هذا؟ هل يعيد تصحيحه أو توضيحه بما يدعم خطابه الأخير أم يتمسك به بما يعكس ازدواجية في الموقف، فكأنه يضع قدما في الدولة المدنية وقدما في دولة الزعماء؟
من الاستحقاقات القريبة الهامة أيضا، تسريع مناقشة اقتراح قانون استقلال القضاء وشفافيته في لجنة الإدارة والعدل، بما يعكس رغبة بتحقيق طمأنينة المواطن في حقوقه وحرياته، بمعزل عن أي انتماء. ومنها أيضا، إعلان الحكومة التمسك بالشفافية وبحق المواطنين بالوصول إلى المعلومات وكشف الفساد خلافا لقراراتها الأخيرة، بما يتيح للجميع المشاركة في الدفاع عن الصالح العام ضد ممارسات المحاصصة والفساد، التي تقوى بفعل العتمة ويؤمل أن تضعف بقوة الضوء.
هذه هي أهم الملاحظات على كتاب رئيس الجمهورية والتي سنعتبرها بمثابة مقياس نقيم على أساسه ما سيصدر من مواقف عامة على طول احتفالات المئوية. فهل حقا نتهيأ لعملية الانتقال للدولة المدنية كما نفهم من الخطاب أم تستمر السلطات العامة على نهجها في تعميق الانقسام خلافا لطموحات الدستور، على نحو يفتت الدولة القائمة ويمهد لتفجيرها؟ فلنراقب.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.