بعد انتظار دامَ عدة أشهر، أصدرَ رئيس الجمهورية قيس سعيّد الأمر عدد 403 المؤرخ في 2 جويلية 2024، المتعلق بدعوة الناخبين للانتخابات الرئاسية 2024. الاقتراع سيكون يوم 6 أكتوبر القادم بالنسبة للناخبين داخل البلاد وأيام 4 و5 و6 أكتوبر بالنسبة للتونسيين المقيمين خارجها، وفي حالة عدم حصول أحد المرشحين على الأغلبية يتمّ تنظيم دور ثان -لم يَرِد ذكره في الأمر الرئاسي، بل في قرار الهيئة العليا المستقلة للانتخابات- بعد أسبوعين من الإعلان عن النتائج الرسمية النهائية للدور الأول.
ولئن لم تتجَاوز الدّعوة الآجال الدستورية لصدورها (يوم 20 جويلية 2024 الذي يُوافق السابق لبداية الأشهر الثلاثة الأخيرة من العهدة الرئاسية الحالية) فإنها تأخرت كثيرا ولم يكن هناك ما يمنع قانونيا وعمليا الإعلان عنها في الأشهر الفائتة. تأخير اعتبره كثيرون مناورة قانونية من قبل السلطة لتعطيل المنافسين المحتملين للرئيس سعيّد وتقليص الوقت المُتاح لهم لتحضير ملفات ترشحاتهم وتنظيم حملاتهم. كما يرى عدد من الملاحظين أن هذه “المناورة” ليست الوحيدة، بل واحدة في قائمة طويلة من العوائق القانونية والسياسية التي تعترض المترشحين. وعلى الرغم من أن سعيّد لم يعلن بعد ترشّحه الرسمي لعهدة رئاسية ثانية فلا أحد في تونس يتوقع أن يكتفي الرئيس الحالي بعهدة واحدة، وقد سبقَ له أن أعلن في أكثر من مرة أنه “ليس مستعدًّا لأن يسلّم الوطن لمن لا وطنية له”، كما حذَّرَ التونسيين، خلال اجتماع مع وزير الداخلية يوم 10 جويلية الجاري، من “اللوبيات التي تشارك من وراء الستار في العملية الانتخابية خلال هذه الأيام الأخيرة”.
النصوص القانونية المنظمة للانتخابات: غربال ما انفكَّت ثُقوبه تضيق
بعد ساعات من صدور أمر دعوة الناخبين، أصدرت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات القرار عدد 543 المؤرخ في 4 جويلية 2024 والمتعلق بروزنامة الانتخابات الرئاسية لسنة 2024، والذي نصّ على أن تنطلق الفترة الانتخابية يوم 14 جويلية وتستمر إلى حين إعلان النتائج النهائية للانتخابات، مع فتح باب الترشحات ما بين 29 جويلية و6 أوت والإعلان عن الملفات المقبولة يوم 10 أوت قبل منح فرصة الطعن في قرارات الهيئة وإصدار القائمة النهائية للمترشحين في أجل أقصاه 02 سبتمبر. وحسب نفس القرار فإن الحملة الانتخابية في داخل تونس ستمتد ما بين 16 سبتمبر و4 أكتوبر، وما بين 12 سبتمبر و2 أكتوبر في الخارج. روزنامة مكتظة تَجعل المترشحين في سباق ضد الوقت.
في كل المحطّات الانتخابية التي عاشتها البلاد ما بين أكتوبر 2014 وديسمبر 2023 شهد القانون الانتخابي تنقيحات اختلفت أهميتها ومنطلقاتها. وعلى الرغم من أن دستور 2022 أقرَّ شروطا للترشح لمنصب رئيس الجمهورية يختلف بعضها عن الشروط الواردة في دستور 2014 فإن الرئيس سعيّد يرفض تنقيح القانون الانتخابي، إذ اعتبر، خلال لقاء جمعه برئيس هيئة الانتخابات في 6 مارس 2024، أنه “ليس هناك أي مبرر للحديث عن إدخال تنقيحات على القانون الانتخابي. فلا وجود لتعارض بين أحكام الدستور والقانون الانتخابي”. دستور 2022 يُحدّد السن الدنيا للمترشح بـ40 عاما بعد أن كانت 35، ويَمنع التونسيين الذين يحملون جنسيات أخرى من الترشح بعد أن كان بإمكانهم ذلك شرط التعهد بالتخلي عن الجنسية الثانية في صورة الفوز في الانتخابات. وأضاف شرط تمتع المترشح بجميع حقوقه المدنية والسياسية، وأسقط تزكيات رؤساء البلديات مقابل إضافة تزكيات أعضاء المجالس المحلية والجهوية والإقليمية. قد يرى البعض أن هذه الأمور مجرد شكليات، لكن لا يمكن قول نفس الشيء عن القرارات الترتيبية الصادرة عن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فـ”الشيطان يكمن في التفاصيل”.
مع كل محطة انتخابية تُصدر هيئة الانتخابات قرارات تفصيلية تتضمن روزنامة العملية الانتخابية وشروط الترشح -والتزكية عندما يتعلق الأمر بالرئاسيات- والوثائق التي يجب على كل مترشح أو قائمة تضمينها في ملفات الترشح. وبعيد صدور مرسوم دعوة الناخبين لرئاسيات 2024 نشرت الهيئة على موقعها جملة من الوثائق ذات الصلة والتي تتضمن عدة إضافات مقارنة بوثائق الترشح لرئاسيات 2019. فمطلب الترشح الجديد يتضمن خانات لتحديد جنسية الأب والأم والجد للأب والجد للأم وهو ما لم يكن موجودا في مطلب الترشح لسنة 2019. أما أنموذج وصل استلام ملف الترشح الذي أعدته الهيئة للانتخابات القادمة، فوردت فيه جملة من الوثائق التي لم تكن تطلب من قبل: ما يفيد الجنسية التونسية للأب والأم والجد للأب والجد للأم، وبطاقة السوابق العدلية للمترشح (البطاقة عدد 3 كما تعرف في تونس) وأصول استمارَات التزكية التي جمعها المترشح.
الإضافات التي فرضتها الهيئة اعتبرها كثير من المرشحين المُحتَملين والملاحِظين تضييقات إضافية، وإن لم تكن تعجيزية في بعض الحالات فإن إنجازها يتطلب وقتا زمنيا أكثر من الآجال التي وضعتها الهيئة، كما أنها تضع المترشحين تحت رحمة الإدارة، فبعض الوثائق مثل “البطاقة عدد 3” لا يُمكن تسلمها بشكل فوري، بل بعد تقديم مطلب والانتظار لمدة أسابيع وحتى أشهر. أما استمارات التزكية فاشترطت الهيئة أن تكون أيضا مطابقة لأنموذج محدد ومكتوب بحبر جاف لا يَقبل الفسخ، وأكّدت رفضها استلام نسخ أو صور ضوئية. ومع الأخذ بعين الاعتبار حقيقة صعوبة حصول المترشحين المنافسين للرئيس الحالي لتزكيات من أعضاء المجالس النيابية المساندة بقوة للسلطة الحاكمة فإن أغلب المرشحين سيبحثون عن التزكيات الشعبية مما سيُصعّب مهمتهم أكثر. وقد تتعقّد الأمور أكثر بالنسبة للمترشحين بخاصة بعد إعلان الهيئة نيّتَها نشر قائمات المُزكين، ممّا قد يَجعل كثير من الناخبين يُحجِمون عن التزكية خوفا أو تفاديا للإحراج.
هناك نقطة قانونية أخرى حاضرة بالغياب في مسار الترشّح وخوض السباق الرئاسي: التمويل العمومي. لم تتمّ الإشارة إلى هذه النقطة في وثائق وقرارات هيئة الانتخابات، لكن الناطق الرسمي باسمها محمد التليلي المنصري، أكّدَ في عدة تصريحات خلال الأيام الفائتة حرمان المترشحين من التمويل العمومي والاكتفاء بالتمويل الذاتي والخاص الذين سيتمّ تسقيفهما في قرار لاحق. وبَرّرَ المنصري هذا الإلغاء بالاشكاليات التي لاقتها الدولة في استرجاع المبالغ التي صرفتها في محطات سابقة لمترشحين لم يبلغوا عتبة 3% من أصوات الناخبين. وهذه ليست المرة الأولى التي يُحرم فيها المترشحون لمختلف الانتخابات من التمويل العمومي، إذ تمّ إقرار هذا الإلغاء قبيل الانتخابات التشريعية الأخيرة (ديسمبر 2022– 2023). في الوقت الذي يرى البعض هذا القرار حماية للمال العام، فإن كثيرين يعتبرونه تضييقا على الناشطين السياسيين والأحزاب وتجفيفًا لمنابع المنافسة الانتخابية، بشكل يُقلّص حظوظ المعارضين للسلطة.
إعلام مُكَبّل
يُفترض أن يكون الإعلام الحر دعامة أساسية لأي ديمقراطية ومواطنة حقيقيتين، ويُصبح دوره أكثر حيوية عندما يتعلق الأمر بالمحطات الانتخابية التي تحدّد وجهة الدول والمجتمعات لسنوات طويلة. ولا تقتصر مهامه على التعريف بالمترشحين ومَنحهم مساحة للتعبير عن رؤاهم والتعريف ببرامجهم، بل تشمل أيضا تمكين الرأي العام من المفاتيح اللازمة لقراءة المشهد السياسي والرهانات والتحالفات وتسليط المجهر على مسيرة كل مترشح وخلفياته، إلخ. كل هذا الكلام “النظري” يبدو أقرب إلى الخيال في ظل الواقع الذي يعيشه الإعلام التونسي اليوم. هذا الوضع بعض أعراضه قديمة وسابقة لـ25 جويلية 2021، لكنها تفاقمت بشكل سريع بعده.
في 05 جويلية الجاري نَشر فرع النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في “وكالة تونس أفريقيا للأنباء” العمومية بيانا عبّر فيه عن احتجاجه على ممارسات الرئيس المدير العام للمؤسسة والمدير العام المساعد للتحرير على خلفية حجب خبر يتضمن إعلان الوزير السابق منذر الزنايدي قراره الترشح للانتخابات الرئاسية، وكذلك إلغاء تغطية صحفية لندوة الحزب الدستوري الحر المَعني هو الآخر بالانتخابات الرئاسية. ونبَّهَ البيان إدارة التحرير من “مخاطر الانحراف بالخط التحريري حفاظًا على استقلالية الخط التحريري وضمانًا لتغطية نزيهة ومستقلة للمسار الانتخابي وحفاظًا على الشفافية ومبدأ تكافؤ الفرص بين المترشحين”. وليست هذه المرة الأولى التي يشتكي فيها صحفيون من الوكالة من ممارسات الرقابة القبلية والبعدية، إذ سبق إن أصدروا بيانات تُندد بالأوضاع داخل المؤسسة خلال فترة إدارة المتصرف المفوض نبيل قرقابو، وبعد تولي ناجح الميساوي منصب الرئيس المدير العام في مارس 2023. هذه الأمور تحدث في وكالة أنباء لا تنتج مواد سمعية-بصرية موجّهة للجمهور العريض، فما بالك بالضغوطات التي قد يتعرض لها العاملون في القنوات والإذاعات العمومية.
وكانت السلطة قد أعلنت في جوان 2023 على جملة من التغييرات على رأس مؤسستي الإذاعة والتلفزة التونسيتين بعد فترة من التعيينات المؤقتة التي تلت “25 جويلية 2021”. ولم يتردد الرئيس سعيّد في توضيح ما يتوقعه من هاتين المؤسستين ومن القائمين عليهما، فالكل يتذكر كيف استدعى في أوت 2023 الرئيسة المديرة العامة لمؤسسة التلفزة التونسية ووبّخها بشكل علني وعبّر لها عن غضبه من المحتوى الذي تبثه القنوات العمومية التي يجب أن “تكون مؤسسة وطنية في خدمة الوطن والشعب” على حد تعبيره.
وليس حال الإعلام الخاص بأفضل. إذ شهدت عدة قنوات وإذاعات خاصة في الأشهر الفائتة إيقافات لعدد من الصحفيين والمعلقين المتعاملين معها، الذين حُوكموا ومازالوا يُحاكمون تحت طائلة قوانين مختلفة على رأسها المرسوم عدد 54 لسنة 2023 الذي أصبح كالسيف المسلط على رقاب التونسيين سواء الفاعلين في الحقل الإعلامي والسياسي أو من المواطنين “العاديين” الذين يُعبّرون بشكل أو بآخر عن آراء ومواقف يتفاعلون بها مع الشأن العام. وهذا دون الحديث عن المُضايقات اليومية التي يتعرض لها الصحفيون الميدانيون أثناء ممارستهم لمهنتهم على غرار صعوبة التواصل مع الجهات الرسمية والنفاذ إلى المعلومة وحملات الشيطنة والتحريض المتواصلة التي تستهدف العاملين في الإعلام والصحافة. كما شملت الإيقافات أصحاب وسائل إعلام خاصة على ذمة قضايا مختلفة، مما يؤثر بالطبع على حسابات بقية الملاك والمساهمين، وجلهم رجال أعمال تُحركهم حسابات الربح والخسارة.
ومن بين المعطيات التي يقدمها التقرير السنوي لواقع حرية الصحافة في تونس الذي أصدرته النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في ماي 2024 نجد أنه تم تسجيل 211 اعتداء على صحافيين وصحافيات ومراسلين ومصورين صحفيين ما بين ماي 2023 وماي 2024، وإحالة الصحفيين على خلفية أعمالهم في 39 مناسبة بقوانين زجرية كقانون مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال، ومجلة الاتصالات، والمجلة الجزائية والمرسوم 54.
من الصعب مع هذه الضغوط والمخاوف توقع دور مهم للإعلام التونسي خلال الانتخابات القادمة. ومن السهل ملاحظة تأثير مناخ الخوف على المحتوى الإعلامي من خلال التراجع الحاد لعدد البرامج الحوارية المعنية بالشأن السياسي، مُقابل تزايد هائل في المحتوى الترفيهي والرياضي والتسويقي في شبكة برامج أغلب وسائل الإعلام الخاص.
أي ضمانات للمشاركين في السباق الرئاسي؟
سنحاول فيما يلي أن نستعرض بشكل مقتضب أوضاع أهم الهيئات والمؤسسات والهياكل التي يكون لها عادة أدوار مختلفة الأهمية في المسار الانتخابي، ونتبين إن كانت قادرة على القيام بالمهام المنتظرة منها. وبالتالي توفير شروط المساواة والإنصاف لمختلف المترشحين. ونتحدث هنا بالأساس عن هيئتين تربطهما علاقة مباشرة بالعملية الانتخابية:
-الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا): أحدِثت، في ماي 2013، لتَخلف الهيئة الوطنية المستقلة لإصلاح الإعلام والاتصال التي أنشأت بعد ثورة 2011 بهدف مرافقة ومراقبة الإعلام السمعي البصري في تونس خلال رحلة تحرره من القيود التي فرضتها عليه الديكتاتورية طيلة عقود. وكانت “الهايكا” حاضرة في كل المواعيد الانتخابية منذ سنة 2014، ولعبت دورا -تختلف التقييمات حول أهميته وحياديته- في مراقبة المحتوى الإعلامي المُتعلّق بالانتخابات والتأكّد من احترامه شروط التوازن والمهنية. لكن منذ سنة 2022 وعلى خلفية مواقفها من سير عملية الاستفتاء على الدستور ثم الانتخابات التشريعية دخلَت علاقتها بسلطة “25 جويلية” منطقة اضطرابات شديدة انتهت بتجميد الهيئة عمليا لكن دون قرار رسمي مُعلَن. في مطلع سنة 2023 تمّت إحالة رئيس الهيئة، نوري اللجمي، على التقاعد دون تعيين شخصية أخرى لتخلّفه، وفي الشهر الأخير منها تلقى بقية أعضائها إشعارا من الحكومة بقرار وقف صرف رواتبهم. لم تُلغَ الهيئة بعد، لكنها اليوم شبح لا دور له في تعديل الإعلام خلال الفترة الانتخابية ولا في أي وقت آخر.
-الهيئة العليا المستقلة للانتخابات: أحدِثَت هذه الهيئة الدستورية الدائمة بمقتضى القانون الأساسي عدد 23 لسنة 2012 لتُنهي تحكّم وزارة الداخلية في العملية الانتخابية وتضع الأمور بين أيادي هيكل مستقل عن السلطة التنفيذية والأحزاب السياسية. وطيلة فترة الانتقال الديمقراطي كانت دائما محل تجاذب بين القوى السياسية وانتقادات من جهات عدة، لكن مع توافق عام حول ضرورة وجودها. لكن بعد 25 جويلية 2021 تحوّلَت الضغوط ومحاولات التأثير إلى تدخّل مباشر، وكانت البداية بإصدار المرسوم عدد 22 لسنة 2022 الذي أدخلَ عدة تعديلات على تركيبة الهيئة من حيث عدد الأعضاء (من تسعة إلى سبعة) وطريقة اختيارهم (من الانتخاب من قبل مجلس نواب الشعب إلى التعيين بأمر رئاسي). وظهرَ جليًّا انسجام أعضاء الهيئة الجديدة مع السلطة التنفيذية بشكل تسبّب في توتر علاقتها مع هيئات أخرى مثل “الهايكا” وجمعيات معنية بالعملية الانتخابية وحتى أحزاب وشخصيات سياسية. كما أن الهيئة أصبحت تتفاعل بشكل حاد مع التصريحات التي تنتقد عملها وطريقة تسييرها وقدّمت عدة شكاوى إلى القضاء شملت حتى أعضاء سابقين عملوا صلبها طيلة سنوات مثل زكي الرحموني وسامي بن سلامة.
القضاء تحت ضغط السلطة
يُفترض أن يَلعب القضاء دورًا مهمّا خلال المسار الانتخابي، فهو الذي يَنظر في مختلف الطعونات والقضايا الاستعجالية التي يدفع بها المتضررون من الخروقات المحتملة. لكن الأزمات التي تعصف بالقطاع في السنوات الأخيرة (حل المجلس الأعلى للقضاء، عزل 57 قاضي في جوان 2022، حركة النقلة القضائية في 2023، النقل التأديبية التعسفية، تركيز الخطاب الرسمي على دور القضاة في “تطهير البلاد”) وتتالي الأحكام الصادرة في حق معارضين سياسيين وناشطين مدنيين خلال الأشهر الفائتة ليست بالمؤشرات المطمئنة.
إلى حد الآن لعب القضاء ومازال يلعب دورا كبيرا في إقصاء عدة مترشحين سبق وأعلنوا نيتهم منافسة الرئيس سعيّد في الانتخابات القادمة. ونذكر من بينهم مرشحة الحزب الحر الدستوري عبير موسي التي صدرت في حقها 3 بطاقات ايداع بالسجن منذ اعتقالها في أكتوبر 2023، ومنذر الزنايدي الذي أعلَنَ ترشحه في الربيع الفائت ويخضع اليوم لتتبّعات عدلية متصلة بشبهات فساد واستغلال نفوذ يعود بعضها إلى سنة 2011 وما قبل، ولطفي المرايحي الذي أعلنَ ترشحه في 2 أفريل الفائت وألقيَ القبض عليه مطلع شهر جويلية الجاري بتهمة تبييض أموال وتهريب مكتسبات إلى الخارج، والصافي سعيد الذي أعلن ترشحه في 17 أفريل وصدر بتاريخ 27 جوان حكم غيابي في حقه يقضي بسجنه 4 أشهر في قضية تتعلق بتزوير تزكيات شعبية في الانتخابات الرئاسية لسنة 2019، وعبد اللطيف المكي الذي أعلن ترشحه مطلع شهر جويلية وتحصّلَ على أنموذج التزكية الشعبية قبل أن تُصدر المحكمة الابتدائية بتونس في 12 جويلية الجاري قرارا بمنع ظهوره في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام وتحجير السفر عليه ومنعه من مغادرة الحدود الترابية لمعتمدية “الوردية” حيث يقع مسكنه. وطبعا لا ننسى “قضية التآمر على أمن الدولة” التي مسّت عشرات الناشطين السياسيين وبعضهم أمناء عامون لأحزاب، وتطول القائمة أكثر وأكثر عندما نضيف إليها أسماء المُحاكمين تحت طائلة المرسوم 54 ومجلة الاتصالات والمجلة الجزائية وغيرها من النصوص.
المراقبون والملاحظون
من بين السنن الحميدة التي أقرتها فترة “الانتقال الديمقراطي” تواجد آلاف المراقبين والملاحظين، المتدربين والناشطين صلب جمعيات ومنظمات مختصة في الشأن الانتخابي، في مكاتب الاقتراع، بالإضافة إلى المراقبين الممثلين للمترشحين. وعلى الرغم من الانغلاق المتزايد للمجال السياسي وانهيار نسب الإقبال الشعبي على مراكز الاقتراع بعد 25 جويلية 2021 (حتى بلغت أقل من 10 % في بعض المحطات الانتخابية) مازالت بعض المنظمات الوطنية تَبذل جهودا للحضور في المسارات الانتخابية وضمان حد أدنى من المراقبة والشفافية. وكانت إحدى كبرى المنظمات المعنية بمراقبة الانتخابات، جمعية “عتيد”، قد اشتكت سابقا من أن العلاقة مع هيئة الانتخابات أصبحت تقنية بحتة في السنوات الأخيرة بعد أن كانت تشاركية. ويذكر هنا أن رئيس هيئة الانتخابات قد تحدث في 15 جويلية 2023 عن إمكانية سحب اعتماد بعض الجمعيات الناشطة في المجال لأنها “أصبحت تلعب أدوارا سياسية أو تحولت إلى أحزاب” وهو ما أثار غضب المنظمات المعنية بالأمر ودفعها إلى إصدار بيان مشترك بعنوان “الحق في ملاحظة الانتخابات: مكتسب لا تراجع عنه”. ويُنتظر أن تعيش أغلب هذه الجمعيات -التي لا تتمتع بدعم مالي عمومي- صعوبات جمة ربما تُعيق عملها تماما في صورة تنقيح قانون الجمعيات وتعقيد شروط الحصول على التمويل الأجنبي. وبمناسبة الحديث عن “الأجنبي” فإن الرئيس سعيّد عبر في مناسبات متعددة عن رفضه تواجد مراقبين أجانب وأوضح أنه يمكنهم “الحضور لمتابعة الانتخابات كملاحظين، لكنهم لن يأتوا لتونس للمراقبة، لأن التونسيين وحدهم سيراقبون الانتخابات”. وفي نفس السياق وقَعَت هيئة الانتخابات التونسية مذكرة تعاون مع نظيرتها الروسية في 15 مارس 2024 بهدف تبادل الخبرات والتجارب في المجال الانتخابي.
في ظل العقبات التي عددناها يَصعب الحديث عن تساوي حظوظ المترشحين لرئاسة الجمهورية. فبالإضافة إلى الأفضلية التي يحوزها عادة شاغلو المنصب الطامحون إلى عهدة إضافية هناك مناخات قانونية وسياسية نفسية تصبّ في مصلحة الرئيس الحالي قيس سعيّد. كثيرون يعتبرون أن التنافس شبه محسوم وأن “المزاج الشعبي” يميل إلى استمرارية السلطة الحالية ومازال لم يتصالح بعد مع “نخب” ما قبل 25 جويلية 2021، بخاصة وأن المعارضات لم تناقش أو لم تتفق بعد على مرشح واحد أو عدد محدود من المرشحين الذين يتمتعون بمقبولية شعبية وحظوظ جدية في المنافسة، وبعضها مثل حزب العمال أعلن مقاطعته لهذه المحطة الانتخابية. لكن، يرى آخرون أن حالة الاستنفار التي تعيشها السلطة الحاكمة وسعيها إلى تعقيد الطريق أمام منافسي سعيّد يشي بخوف من مفاجآت قد يفرزها الصندوق.
وإلى حدود 11 جويلية بلغ عدد المترشحين الذين سحبوا مباشرة أو عبر ممثلين لهم استمارة التزكية في تونس وخارجها أكثر من 40 مرشّحا حسب ما أدلت به نجلاء العبروقي العضوة في الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. كم واحد منهم سيصمد ويستطيع النفاذ من ثقوب الغربال؟