
بطريقة تُحَاكي الطوابير والتجمّعات أمام المحلات التجارية ومغازَات التغذية العامة، وقَف عدد من الناخبين والنّاخبات صباحا أمام مراكز الاقتراع يوم الأحد 06 أكتوبر، في مراكز حي السعادة ونهج النخيل بدائرة باردو الانتخابية وسط العاصمة تونس. جرَت العادة في المخيال الجمعي أنّ المُبكِّرين والمُبكّرات بالاقتراع هم من الفئة العمرية الّتي تفوق الخمس وأربعين سنة، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال الصفوف الممتدّة أمام مكاتب الاقتراع المُخصَّصة لمن هم فوق الأربعين، خلافًا للمكاتب الأخرى الّتي كانت خاليةً تمامًا سوى من أعوان هيئة الانتخابات ومراقبيها. ولم تكن الأرقام التي أعلنت عنها هيئة الانتخابات يوم الاثنين 07 أكتوبر مُفاجِئةً بخصوص ضعف إقبال “الشباب” على الاقتراع مقابل ارتفاع نسبة إقبال من هم بين 35 و60 سنة، حيث ذكرت في ندوة صحفية خُصّصت للإعلان عن نِسَب المُشاركة الأوليّة أنّ نسبة إقبال الفئة من 18 إلى 35 سنة لم تتجاوز 6% من العدد الجُملي للمقترعين والمقترعات، بما يُمثّل تقريبًا 162 ألف، فيما ترتفع نسبة مشاركة الفئة الأخرى إلى 65%، أي ما يُعادل مليون و700 ألف.
وحسب النتائج الأولية التي نشرتها هيئة الانتخابات، فإن الرئيس الحالي قيس سعيد فاز بالانتخابات الرئاسية بنسبة 90.69 بالمائة، في حين تحصّل المرشح السجين العياشي زمال على المرتبة الثانية بنسبة 7.35 بالمائة، أما المرشح زهير المغزاوي فقد تحصل على المرتبة الثالثة بنسبة 1.97 بالمائة. وقد لاقت هذه النتائج انتقادا من عديد الأحزاب والجمعيات المعارضة للرئيس، والتي اعتبرت في معظمها أن انتهاك حقوق الترشح والسيطرة على الإعلام العمومي وإغلاق فضاءات النقاش العمومي وإشاعة مناخ التخويف، أدّت إلى صناعة هذه النتائج المختلّة لصالح الرئيس سعيد. في حين قالت هيئة الانتخابات في بيان نشرته ليلة البارحة أن “كل اتهام مجاني لهيئة الانتخابات بتدليس أو تزوير النتائج تصريحا أو تلميحا سيتم معاينته بصفة قانونية وإحالته للنيابة العمومية من أجل بث ونشر الأخبار الزائفة و نسبة أمور غير قانونية لموظف عمومي دون الإدلاء بما يثبت صحة ذلك طبق القوانين الجاري بها العمل”.
تصويت لقيس سعيد: “من نعرفه أفضل ممن لا نعرفه”
لا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة إلى حي الزهور الرابع وحي ابن خلدون ودوّار هيشر والملاسين والتضامن والبطان، الأحزمة الشعبية المحيط بوسط العاصمة التونسية، إذ أن الحركة حثيثة أمام مراكز الاقتراع، لأنّها تَقَع في أحياء سكنيّة يُقبِل متساكنُوها مع طلوع النّهار على التسوّق أو التردّد على المقاهي لتجاذب أطراف الحديث حول الكرة والسياسة وحصيلة أسبوع من العمل. وإجمالًا، كانت أغلب الوافدات على أحد مراكز الاقتراع في دائرة دوّار هيشر التابعة لولاية منوبة، ربّات بيوت تَحملن أكياس الخُبز وقفّة الخضروات وحافظة النّقود. تقول فاطمة التي تجاوزت السّبعين من عمرها إنّ قيس سعيّد أفضل خيار لأنّه دفع كلّ الديون الخارجيّة المُتخلّدة بذمّة الدّولة التونسيّة، وإنّ المَساجين ظُلمًا سيُطلق سراحُهم “بإذن الله”. وعلى الأرجح دعاية خروج تونس من المديونية تم الترويج لها من قبل أنصار الرئيس في منصات التواصل الاجتماعي، ولاقت تصديقا، في حين أن الوقائع تُشير إلى هيمنة الاقتراض الخارجي على موارد ميزانية الدولة في السنوات الثلاث الأخيرة.
أحد المارّة أسرّ إلينا، خوفًا من خرق الصمت الانتخابي في حضرة رجال الجيش والشرطة الواقفين بأسلحتهم لحراسة مكتب الاقتراع “شاكر 1” بدوار هيشر، “أنا انتخبت قيس سعيد، بدأنا معه وسنكمل معه”. وكان مرورُنا من أمام أحد المقاهي بدوّار هيشر مع وجود حبر الانتخاب باعثًا على الرّيبة، ربّما كُنّا نظهر من ممثّلي السلطة أو الإدارة، خاصّةً وأنّنا كُنّا نتثبّت مثل الآلة الماسحة في أصابع الأيادي اليُسرى لروّاد المقهى، محاولين عدم لفت الانتباه لذلك. رضا صاحب المقهى رحّب بنا، وأبدى إعجابه بالسبّابة المُخضّبة بالحبر الانتخابي، وقال مُستبقًا: “أنا أيضًا سوف أنتخب، لكن ليس الآن. مازال اليوم طويلا”. فيما كانت مجموعة من الشباب العشرينيّين متحلّقين حول الطاولة، ولا يكاد أيٌّ منهم يرفع بصره عن هاتفه خوفًا من أن يخسر شوط مباراة كرة القدم التي يلعبها على الأنترنات. سألناهم على عجل دون التشويش عليهم، “هل ستصوّتون”؟ فكانت الإجابة فوريّة وجازمة: “لا”. بالنسبة إليهم، يوم الأحد هو يوم العطلة والاسترخاء والابتعاد تمامًا عن منغّصات الحياة، والاكتفاء بلقاء الجيران والأتراب في المقهى وتقاسم ألعاب الفيديو وكرة القدم “الرّقمية”.
لكنّ الكهلَيْن الواقفَيْن أمام مركز الاقتراع أبديَا أكثر حماسًا، رغم أنّ أحدهما انصرف وغاب في الزّحام مؤكّدًا أنّه سيقوم بواجبه الانتخابي، وكأنّه فهم من سؤالنا أنّ فيه دعوة مبطّنة للاقتراع. طمأنّاه بأنّنا لا نريد استمالته أو تغيير موقفه، فيما أكّد الرجل الآخر الّذي غزا الشّيب شعر رأسه أنّه سينتخب رغم كلّ ما قد يُقال عن لا جدوى عمليّة الاقتراع، وأنّ الوضعين الاقتصادي والاجتماعي يستدعيان الإدلاء بصوته. وأثناء متابعتنا لنتائج الاقتراع لا حظنا أن محضر الفرز الأولي لمكتب الاقتراع “الغزالي” في دوار هيشر الذي نشرته هيئة الانتخابات يدلّ على أنّ قيس سعيّد اكتسح عدد الأصوات، بحصوله على 340 صوتًا، مقابل حصول كلّ من زهير المغزاوي والعياشي زمال تِباعًا على ثلاثة أصوات و15 صوتًا.
أمّا دائرة “البطان” الانتخابية التابعة لولاية منوبة القريبة من العاصمة تونس، فيقول منتصر أحد متساكني المنطقة إنّه لاحظ أنّ نسبة الإقبال على الاقتراع في هذه الانتخابات الرئاسية مرتفعة أكثر من الاستفتاء والانتخابات التشريعية، وإنّ أغلب الأصوات تصبّ في خزّان قيس سعيّد، سواءً كانوا “يحبّونه أو لا يحبّونه” من منطَلَق “من تعرفه أفضل ممّن لا تعرفه”. وهو انطباع سائد بسبب غياب الحملة الانتخابية لمنافسَيْ قيس سعيّد وسيطرة مناخ الخوف وردّ الفعل السياسي إزاء التضييق على المنافس العياشي زمال وإثارة القضايا ضدّه وإصدار حُكم باثنَتَيْ عشرة سنة ضدّه في قضايا تتعلّق بشبهات تزوير التزكيات الشعبية، عوضًا عن الاشتغال على الحملة والتعريف بالمترشّحين وبرامجهم.
ويُذكر أن المحكمة الابتدائية في تونس أصدرت حكما بـ 12 سنة سجن ضد المرشح العياشي الزمال، قبل 5 أيام فقط من إجراء الانتخابات الرئاسية، ونفس الحكم صدر ضد الشابة سوار البرقاوي، المتطوعة في حملته الانتخابية.
شباب “خارج الصندوق”
تكاد الممارسة الديمقراطية في تونس تنحصر في بُعدها الرئاسي، وهو ما يُفسّر، من جملة عوامل أخرى، إقبال الناخبين والناخبات على الاقتراع في هذه الانتخابات الرئاسية، التي قدّرتها هيئة الانتخابات بمليونَيْن و700 ألف شخص. ويُفسّر أستاذ علم الاجتماع محمّد الجويلي ذلك في تصريح أدلى به للمفكرة القانونية بأنّ البُعد الرّمزي مازال فاعلًا في العمليّة الانتخابية، لأنّ الرئيس استثمر في سرديّة “النقاوة” و”نظافة اليد” ومازال إلى الآن يتغذّى منها، رغم تآكل هامش الحقوق والحريّات وتتالي الإيقافات وارتفاع نسب التضخّم وانقطاع الماء والكهرباء والموادّ الأساسية وغير ذلك. بالإضافة إلى تسليط نوع من “العقاب الانتخابي” على المترشحين الّذين “لا نعرفهم”، أو الّذين جاؤوا من أُطر التنظّم الحزبيّة الكلاسيكيّة.
فيما يرى محدثنا أيضا أنّ الانتخاب يُعدّ بالنسبة إلى شريحة من الشباب عمليّة “مناولة” sous-traitance، كأنّه يُفوّض أمره لغيره، والحال أنّه يسعى إلى بناء مشروعه وتكوين تجربته بنفسه والتفكير في حلول بديلة فرديّة، مثل الهجرة. ناهيك أنّ الدولة في نظر البعض منهم تُختَزَل في القمع وبناء الحواجز والترتيبات الإجرائية والإدارية، وهو ما يسمّيه محمّد الجويلي “دولة القُفْل”. فضعف نسبة المشاركة إذًا هي موقف سياسيّ بسبب ركود الأوضاع أو رفض الواقع أو التفكير في حلول أخرى وأفق أرحب، ولا يمكن اعتبارُها “عزوفًا”، لأنّ العزوف مفهوم تستخدمه السلطة لضمّ الشباب إليها، وفق تحليل أستاذ علم الاجتماع.
متوفر من خلال: