أصدر المجلس الدستوري في تطور لافت توصية بتاريخ 11 تموز 2023 موجهة إلى رئيس مجلس النواب تتعلق بالأصول المتّبعة في عملية انتخاب رئيس الجمهورية تقضي “بعدم تلف أوراق الاقتراع إلا بعد 24 ساعة تلي إعلان نتيجة الانتخاب، وفي حال وجود طعن، تأجيل التلف إلى ما بعد صدور قرار المجلس الدستوري”.
وقبل تحليل أبعاد هذه التوصية، لا بد من التذكير باقتراح سابق تطرق إلى الموضوع نفسه سبق وأن تناولته المفكرة القانونية بالتحليل في مقال خاص ويتعلق أيضا بفرز أوراق الاقتراع في انتخابات رئاسة الجمهورية.
وقد برر المجلس الدستوري مطلبه هذا انطلاقا من اعتبارين: الأول قانوني يتعلق بضرورة الحفاظ على شفافية الانتخابات في مجلس النواب كون المجلس الدستوري، الذي يتمتع عملا بالمادة 19 من الدستور بصلاحية البت في الطعون الرئاسية، يحتاج كي يتمكن من القيام بدوره إلى معاينة أوراق الاقتراع المستخدمة وإلا سيتمّ الحدّ كثيرا من جدّية وفعالية رقابته على هذه الانتخابات.
أما الاعتبار الثاني فهو تطبيقي ويتعلق بالسوابق إذ أعلن المجلس الدستوري صراحة التالي: “وبما أنّه من العودة الى جلسة انتخاب فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في 31/10/2016، وجلسة الانتخاب رقم 12 في 14/6/2023، تبين وجود لغط في احتساب الأوراق لا يزال يتردد صداه في كثير من الأوساط السياسية والاجتماعية”.
وما فاقم من خطورة الأمر ليس فقط وجود لغط في كيفية فرز واحتساب الأوراق لكن أيضا المادة 12 من النظام الداخلي لمجلس النواب التي تنصّ على تلف أوراق الانتخاب فور إعلان النتائج، ما يعني ضياع الدليل المادي الذي يسمح للمجلس الدستوري بالنظر في وقائع الانتخابات الرئاسية ما يعطل رقابته ويفاقم من التشكيك في نزاهة الانتخابات وصدقيتها، لا سيما وأن الطعن لا يمكن أن يتمّ إلا خلال 24 ساعة من إعلان النتائج بينما تلف أوراق الاقتراع يحصل فورا، أي حكما قبل تقديم الطعن من قبل المراجع المختصة.
ولا شكّ أنّ هذه التوصية تعتبر تطورا مهما في وعي المجلس الدستوري لدوره القضائي بخصوص الانتخابات الرئاسية إذ أنها المرّة الأولى منذ مباشرة المجلس لمهامه سنة 1994 الذي يصدر فيها هذا الأخير موقفا يدافع فيه بهذا الشكل عن صلاحياته الدستورية وينبّه ضمنيّا إلى ضرورة تعديل النظام الداخلي لمجلس النواب كي يصبح أكثر انسجاما مع المنطق الدستوري السليم.
وقد سبق للمفكرة القانونية أن بينت بإسهاب الاعتباطية التي طبعت جلسات انتخاب رئيس الجمهورية كما حللت في مقال منفصل الإشكالية التي أثارها المجلس الدستوري في توصيته بخصوص جلسة الانتخاب رقم 12 بتاريخ 14 حزيران المنصرم. وعلى الرغم من أن هذه التوصية جاءت متأخرة بعض الشيء، لكن صدورها هو بحدّ ذاته تطوّر إيجابي يشي بأن العشوائية في إدارة جلسات الانتخاب باتت تتفاقم بشكل لا يمكن السكوت عنه بعد اليوم.
من جهة أخرى، تقوم هذه التوصية بكل بساطة من دون أن تعلن عن ذلك بتطبيق الأحكام القانونية نفسها المنصوص عليها في المادة 108 من قانون انتخاب أعضاء مجلس النواب التي تعلن التالي: ” تحفظ لدى مصرف لبنان، بصورة سرية، أوراق الاقتراع ضمن رزم تشير إلى الأقلام الواردة منها، وذلك لمدة ثلاثة أشهر من تاريخ إعلان النتائج، ثم تتلف من قبل وزارة الداخلية والبلديات بموجب محضر وفق الأصول ما لم تكن موضوع مراجعة أو طعن أمام المجلس الدستوري”.
فهذه المادة تكرس مبدأ ضرورة حفظ أوراق الاقتراع تمكينا للمجلس الدستوري من القيام بدوره. وهذا أمر بديهي إذ لا يعقل منح هيئة قضائية ما صلاحية محددة ومن ثم حرمانها من الوسيلة الضرورية التي تتيح لها تحقيق الغاية منها. وبإمكان من يتصفّح كتاب العلامة “أوجين بيار”[1] المُخصّص للقانون البرلماني أن يلاحظ سريعا أن الكاتب الذي يعالج الانتخابات النيابيّة وما ينجم عنها من إشكاليات قانونية خلال فرز أوراق الاقتراع يطبق الحكم نفسه على الانتخابات التي يجريها مجلس النواب، أي أن المبادئ القانونية العامة التي ترعى الانتخابات النيابية يجب أن تنسحب على الانتخابات داخل البرلمان سواء كان انتخاب رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس النواب أو سائر أعضاء مكتب المجلس إلا في حال وجود نص صريح مخالف.
وتندرج هذه التوصية في الحقيقة في التوجّه الذي تم اعتماده عندما جرى تعديل الدستور سنة 1990. فالمادة 30 القديمة من الدستور كانت تمنح مجلس النواب الصلاحية الحصرية للبتّ في صحة نيابة أعضائه عملا بمبدأ السيادة الشعبية المتجسدة في البرلمان. وقد تم إلغاء هذه المادة مع إنشاء المجلس الدستوري إذ باتت صلاحية النظر في الطعون الانتخابية من صلاحية هذا الأخير ما يعني أن الدستور لم يعد يأخذ بمبدأ سيادة البرلمان الذي لا يعبّر عن السيادة الشعبية إلا ضمن الحدود التي يرسمها له الدستور. وبما أن المادة 19 من الدستور منحت المجلس الدستوري صلاحية البت في الطعون الرئاسية فإن ذلك يعني قياسا على الانتخابات النيابية أن أصول انتخاب رئيس الجمهورية (وكذلك رئيس مجلس النواب) يجب أن تكون خاضعة لرقابة المجلس الدستوري.
لكن من الواجب التنبيه إلى نقطة مبهمة في هذه التوصية ترد قبل فقرتها الختامية إذ يقول المجلس الدستوري التالي: “وحرصاً على سلامة وشفافية جلسة الانتخاب الرئاسية، في حال إتمامها” ما قد يفهم منه أنه ليس للمجلس اختصاص إلا إذا أفضتْ الجلسة إلى انتخاب فعلي لرئيس الجمهورية، بينما الجلسات التي تنتهي من دون نتيجة لا يمكن الطعن بها. وهذا تفسير لا يجب الركون إليه كون المادة 23 من قانون إنشاء المجلس الدستوري تنصّ على أن هذا الأخير يتولّى “البتّ في الطعون والنزاعات” الناشئة عن صحة انتخابات رئاسة الجمهورية، أي أن المجلس مختصّ للنظر في كل النزاعات المتولدة عن دورات الاقتراع وليس فقط في حال أسفر الاقتراع عن انتخاب رئيس للجمهورية. فالمجلس الدستوري قد يقرر أن اقتراعا ما تم تفسيره بشكل لا يؤدي إلى نتيجة قد يكون في الحقيقة قد أدى إلى انتخاب رئيس في حال جرى احتساب الأوراق بطريقة مختلفة. لذلك كان من الملح جدا تنبيه المجلس الدستوري أن توصيته لا يجب أن يتم تفسيرها بشكل يحصر صلاحيته فقط في حال وجود انتخاب فعلي.
في الختام، تعيد هذه التوصية التذكير مرة جديدة بضرورة خضوع النظام الداخلي لمجلس النواب لرقابة المجلس الدستوري لوضع حد نهائي للممارسات الاعتباطية التي تتذرع بعقيدة “المجلس سيد نفسه” من أجل تبرير مخالفة الدستور خدمة للمصالح السياسية للجهات المهيمنة على البرلمان . فالمادة 12 من هذا النظام هي المثال الساطع على التضارب المحتمل دائما بين الدستور والنظام الداخلي ومدى إمكانية تعطيل النص الدستوري عبر تفخيخ النظام الداخلي بمواد تؤدي إلى التحايل على آليات الرقابة. فقد بادر اليوم المجلس الدستوري من تلقاء نفسه كي يقول للسياسيين أن الدستور ليس مجرد نتيجة حتمية لما تتوافقون عليه، بل هو أحكام ملزمة لا تتبدل وفقا لأهوائكم السلطوية ومصالحكم السياسية.
[1] Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Librairies-Imprimeries réunies, Paris.