رأي مخالف في محكمة التمييز: الحقيقة بقلم القوة


2011-10-03    |   

رأي مخالف في محكمة التمييز: الحقيقة بقلم القوة

ورد رأي مخالف لاحد مستشاري محكمة التمييز (غادة عون) في ذيل القرار الصادر عنها بالأكثرية بتاريخ 12-7-2011، ومفاده عدّ المتهم (وهو شخص يعمل في كاراج) الذي ادانته الاكثرية، بريئا لعدم كفاية الدليل. وقد ركز الرأي المخالف على مقارنة الاثباتات على ضلوع متنفذ (صيرفي) في هذه الجناية والتي استبعدتها الاكثرية بالاثباتات الآيلة الى ادانة المتهم والتي رآها هو غير قابلة للتصديق.
وبمعزل عن الحقيقة الواقعية، والتي لا يمكن الجزم بها في هذا المحل، يشكل هذا القرار نموذجا يستحق الدرس بشأن اختلاف المعايير في تقويم الاثباتات المتوفرة، وفق مكانة الشخص المعني. فالى جانب دراسات عدة بشأن كيفية تعامل القضاء مع التهميش (وهو امر تعمل المفكرة على توثيقه وتحليله)، من المهم ايضاً النظر في كيفية تعامل القضاء ازاء القوة. فماذا يحصل في حال وجود شبهات حول قيام متنفذ او معدم بجرم معين؟ هل يقوم القضاة الاثباتات المتوفرة بعين مجردة ووفق المعايير ذاتها ام ان القوة تشكل قرينة براءة والضعف قرينة تورط؟ وهل تقرأ القوانين والاعمال القانونية بعين مجردة ام ان ثمة انحيازا هنا ايضا؟ وما يميز هذه القضية ايضا انها تبرز تصميم اكثرية المحكمة على اتخاذ توجه معين رغم ممانعة اقلية فيها، مما يسمح بالقول ان وجهتهم قد حددت بنتيجة تفكر وليس بنتيجة مواقف محددة سلفا. كما من المهم القول ان هذا المقال لا يهدف الى تقويم القرارات في نتائجها (التي ربما تكون مطابقة للواقع) لكن الى تقويم المنهجية المعتمدة للتوصل اليها، من الزاوية المشار اليها اعلاه. لذلك هو نقد للمنهجية القضائية في تقويم المسؤوليات اكثر منه نقد لقضاة معينين.
وتفيد وقائع الدعوى بان شخصين حاولا سرقة صيرفي. فسرق احدهما منه الكيس الذي كان يحمله وهم بالهرب، فلاحقه الصيرفي واطلق عليه عيارا ناريا من الخلف حسب اعترافه. فسقط الشخص المذكور في الحرش الذي يبعد 30 مترا من بيت الصيرفي، ثم سمع طلق ناري ثان ومن بعدها فارق المصاب الحياة. فمن هو القاتل؟ شريك المغدور في محاولة السرقة وفق اكثرية المحكمة خوفا من افتضاح امره، الصيرفي وفقا الرأي المخالف في مسعاه الى منعه من الهرب. فما هي الاثباتات التي انقسم عليها اعضاء المحكمة على هذا الوجه؟
اثباتات على مسؤولية الصيرفي
هنا، تجدر الاشارة الى ان الحكم اثبت امورا عدة من شانها ان تدين الصيرفي: (1) عثر على المسدس عند تفتيش المنزل مغطى بقطعة من القماش وباوراق من الملفوف داخل علبة من البلاستيك في البراد وقد اقرت زوجته انها هي التي خباته، (2) انه جرى استجواب الصيرفي وزوجته والجارين مرة ثانية في ضوء التضارب والنواقص في الافادات، (3) ان الزوج صرح في افادته الاولى انه اطلق عيارين ناريين، الاول في الهواء والثاني في اتجاه الشخص الذي حاول سرقته لكنه لم يعرف اذا اصابه، اما في افادته الثانية فقد افاد ان العيار الثاني قد اصاب المذكور في رجله  اليسرى؛ (4) ان جميع الافادات اتفقت على القول بان المغدور قد اطلق النار على نفسه. وهذا مثلا ما ادلت به الزوجة نقلا على لسان الجار الذي صرخ حسب قولها: "يا مجنون مينك انت ليش عم بتقوص حالك؟" وهذا ايضا ما افاد به الجار الذي ادلى بانه رآه "ممسكا بيده مسدسا ورفع يده واطلق النار على نفسه وارتخى".  وقد كذب هذه الافادات الطبيبان الشرعيان اللذان اكدا انه "من غير المتوقع حصول وفاة المغدور على يده". وقد وردت كل هذه الامور في متن الحكم عند استعراض الوقائع. ويستشف منها بوضوح ان ثمة اتفاقا على ان الصيرفي قد اطلق عيارات نارية في اتجاه القتيل، وانه وعائلته حاولوا اخفاء الادلة عن طريق افادات متضاربة واخفاء المسدس في البراد تحت اوراق الملفوف، وان افادات الجميع – بما فيهم الجيران- آلت الى تصوير القتل على انه انتحار، مما يفيد بوجود تنسيق لتوجيه التحقيق في اتجاه فرضية اتضح فيما بعد من تقرير الطبيبين الشرعيين انها غير قابلة للتصديق.
اثباتات في اتجاه تحميل شخص اخر معدم مسؤولية القتل
في الصفحة الرابعة من الحكم، بدأت الصورة بالتحول. فمخابرات الجيش قبضت بعد ظهيرة اليوم نفسه على شريك المغدور في محاولة السرقة وآل التحقيق معه الى قلب الصورة بالكامل: فلا الصيرفي هو الذي قتل المغدور، ولا المغدور اقدم على الانتحار، انما هو شخص ثالث (لم تشر اليه اي من الافادات السابقة) هو الذي اجهز عليه وهو شريكه بالسرقة وقد قام بذلك خوفا من افتضاح امره. ولكن ما هي هذه الاثباتات التي ادت الى تجريد الاثباتات والافادات المشار اليها اعلاه من اي قوة، والى تكوين قناعة اكثرية اعضاء المحكمة بضلوع الشريك بالقتل؟ هذا ما سأحاول ابرازه استنادا الى ما ورد في الرأي المخالف من تقويم لهذه الاثباتات تمهيدا لدحضها.
اول هذه الاثباتات، "موجز تحقيق" مذيل بتوقيع رئيس القسم لمخابرات الجيش (وحده)، وقد جاء فيه بأن الشريك المذكور قد اعترف لمخابرات الجيش انه مخافة من افتضاح امره، اقدم على اطلاق النار على عنق المقتول بعدما تبين له انه اصيب في رجله. لكن الرأي المخالف يطرح اسئلة جد بليغة في هذا الصدد. فافادة المتهم الفورية امام الشرطة العسكرية (التي هي بالمناسبة غير مختصة للتحقيق في هذه القضية) آلت الى نفي مسؤوليته وتقاطعت في مضمونها مع الافادات المشار اليها اعلاه والتي لم يشر اي منها الى احتمال ضلوع شخص اخر في القتل. فكيف امكن تحرير هذا الموجز؟ وما هي هذه الاعترافات التي استند اليها؟ وهل هي حصلت شفاهة في مكان ما في مخالفة واضحة للأصول؟ وهنا يثبت الرأي المخالف بان اعتراف المتهم انما حصل في وقت لاحق وفي افادته الثالثة امام الضابطة العدلية وفي وقت لاحق للموجز الذي بدا بذلك اقرب الى نبوأة بما سيحصل منه الى موجز لما حصل فعلا كما يفترض به ان يكون.
اما الاثبات الثاني، فهو شهادة ادلى بها شخص آخر بأن المتهم صرح في الزنزانة: "اقسم بالله اني انا الذي قتلته" من دون تحديد هوية المقتول. وكان هذا الشخص قد تم اعتقاله في اثر اعتقال المتهم على خلفية اعترافات هذا الاخير بانهما قاما بعمليات سرقة سوية. وهذه الشهادة هي بالطبع ضعيفة طالما انها صدرت عن شخص تم توقيفه بسبب اقوال المتهم، وانه يستبعد تاليا ان يبوح له المتهم بسر بهذه الخطورة وهو يعلم انه قد تكون لديه تجاهه احاسيس سلبية.
اما الاثبات الثالث، فهو الاعتراف الذي ادلى به المتهم وما اعقبه من تمثيل للجريمة. وهنا، نذكر ان هذا الاعتراف قد جاء وفق الحكم في افادته الثالثة. فما هي قيمته؟ وهل هو كاف لادانته؟ هنا، يسجل اولا ان المتهم قد نفى مسؤوليته في  افادتيه الأولين وانه رجع عن اعترافه المذكور في مختلف مراحل التحقيق والمحاكمة. وقد ادلى المتهم بان هذه الافادة قد انتزعت منه تحت تأثير الضرب الشديد والتعذيب وان تمثيل الجريمة قد حصل بغياب "النيابة العامة" مما يوجب ابطاله. وقد رأى الرأي المخالف ان تنبؤ "موجز التحقيق" باعترافه بالجريمة قبل حصوله كما سبق بيانه انما "يطرح علامة استفهام حول امكانية الركون الى مثل هذا التحقيق وتاليا الى مضمون الافادة (اللاحقة) المطابقة له". ولكن هل يتماشى هذا الاعتراف مع الوقائع التي تم اثباتها؟ وهل يعقل ان يكون المتهم ضالعا في القتل فيما ان جميع الشهود الذين كانوا حاضرين وقت الحادثة قد اجمعوا في افاداتهم الحاصلة يوم القتل انهم لم يشاهدوا شخصا ثالثا بالقرب من المغدور، علما ان الحادثة حصلت في وضح النهار وان مكان وقوع المجنى عليه هو على مرأى من الطريق العام ومن سكان البناية المجاورة؟ بل هل يعقل ان يكون دافع المتهم الى قتل المجنى عليه هو تجنب افتضاح امره فيما انه عرض نفسه من خلال قتله على مرأى من كل هؤلاء لمسؤولية اكبر بكثير؟ "والا تصبح والحالة ما ذكر هذه الحجة لتبرير الدافع لدى المتهم لارتكاب جريمة القتل، واهية وغير قابلة للتصديق؟".
وفي ظل هذه الاثباتات المتضاربة، حددت الاكثرية موقفها بعبارتين عامتين يشكلان بحد ذاتهما دليلا قاطعا على اختلاف المعايير:
عبارة اولى لاستبعاد مسؤولية الصيرفي ومفادها: "على الرغم من التضارب في الافادات التي اعطاها (الصيرفي وجاره وزوجته) في التحقيق الاولي ولا سيما في بداياته، وهو ما قد يثير الشكوك في مسؤولية (الصيرفي) بالنسبة لمقتل (المجنى عليه) وفي توافر رغبة لدى (هؤلاء) بحماية الصيرفي وابعاد الشبهة عنه، الا انه لم ينهض في التحقيق ما يثبت على نحو اكيد ان (الصيرفي) قد لحق ب(المجني عليه) بعدما قفز المذكور في الحرج واجهز عليه..". هكذا، ومن دون اي تفصيل اضافي!
وعبارة ثانية لادانة المتهم، ومفادها: "على الرغم من تراجع ال.. (المتهم) عن اعترافه الاولي، في باقي مراحل التحقيق في هذه القضية والتساؤلات التي اثارها في دفاعه امام المحكمة، الا ان الادلة والقرائن المنوه عنها اعلاه تعتبر كافية لتعزيز صحة اعترافه لدى مخابرات الجيش اللبناني ولدى مخفر ضهر العين، بانه اقدم على قتل شريكه .. بدافع التهرب من المسؤولية الناتجة عن جناية السلب ومخافة ان يفضح المجنى عليه امره فيما لو اعتقل بعدما اصيب بفخذه وبات عاجزا عن الفرار".  
 

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لبنان ، لا مساواة وتمييز وتهميش



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني