طيلة تسع سنوات، احتفظ تاريخ 14 جانفي برمزيته كلحظة ميلاد مرحلة جديدة من تاريخ تونس، وتحول شارع الحبيب بورقيبة منذ ذلك التاريخ إلى قبلة الاحتجاجات التي لم تنقطع منذ سنة 2011. لكن الأزقة والأحياء المتاخمة لشارع الثورة، كانت هي الأخرى تخط حكايتها وتضع بصمتها في لحظات التغيير التي كانت تشهدها البلاد في شتاء 2011. بين شتاءين، اختلفت الوجوه والشعارات في شارع الحبيب بورقيبة، كما اختلفت الصورة في ساحات المواجهة الخلفية، ليكتب كل من المكانين اليوم قصة مختلفة عن ذكرى 14 جانفي 2011.
ظلال باردو على شارع الحبيب بورقيبة
كعادته منذ تسع سنوات، غص شارع الحبيب بورقيبة يوم 14 جانفي 2020 بفسيفساء متناقضة من الحشود التي اختلفت مشاربها وانتماءاتها السياسية وطبقاتها الاجتماعية. من هناك، بدأت رحلة سبر ملامح المشهد القديم – الجديد بعد الانتخابات الأخيرة التي أعادت ترتيب الساحة السياسية وتوزيع القوى بين مختلف الفاعلين السياسيين. الجولة التي بدأت بدخول شارع الحبيب بورقيبة من أحد مداخله الجنوبية، أكدت انعكاس الخارطة السياسية في قصر باردو على شارع الثورة كما صار يناديه بعض التونسيين منذ ذلك اليوم الذي مثل السطر الأول من تاريخ مرحلة جديدة للبلاد. إذ تعاظم حضور التيار الديمقراطي على الساحة ترجمة لتعاظم وزنه البرلماني، وظلت حركة النهضة تستعرض ثقلها السياسي عبر حجم أنصارها الحاضرين في الشارع. لكن، وعلى عكس الصورة التي سجلتها الذاكرة وكاميرات الصحافيين والمدونين في ذلك اليوم منذ قرابة عقد من الزمن، تاه علم تونس الذي لم يُرفع سواه حينها وسط زحمة الرايات الحزبية. أما الشعارات الموحدة التي رفعها الثوار سنة 2011 والتي صدحت بها كل الحناجر، فطمستها الخطابات الحزبية والدعائية من أمام خيم الأحزاب التي أعادت تقسيم الشارع فيما بينها.
حول مهرجان الأحزاب، وعند أطراف المربعات التي تحوَزوها في قلب شارع الحبيب بورقيبة، ظل العازف نجيب المفتاحي وفيا لزاويته التي اعتاد الركون إليها في مثل هذا اليوم منذ سنة 2011، جامعا حوله مجموعة من الناس التي استأنست سماع أغانيه المُستلهمة من التراث الأمازيغي. ومثلما ظل نجيب المفتاحي وفيا لمقعده، لم تغيّر الأحداث ولا المسار المتعثر للثورة من قناعاته وأحلامه، إذ توجه لي بعد أن عرف صفتي المهنية، وهو يعدل أوتار آلته الموسيقية، ليعدد فضائل الثورة وكل ما منّت به على الشعب التونسي من حرية واستعادة لكرامة المواطن، معتبرا أن أعمار الثورات طويل وأن الثورة التونسية لا تزال فتية تخطو خطواتها الأولى وسيكون لها شأن كبير في العالم بحسب تعبيره.
على غرار هذا العازف المنفرد، كانت أحزاب اليسار التي فشلت في اقتلاع مكان لها في المشهد البرلماني، تجتر نفس الحضور والشعارات والمطالب تقريبا. فبين حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد الذي حضر أنصاره بأعداد قليلة، ليتخذوا من شارع الحبيب بورقيبة فضاء لتنظيم حلقات نقاش حول الوضع السياسي وانعكاسات سقوط الحكومة، وبين حزب العمال الذي تجمهرت قواعده فيما يشبه الوقفة الاحتجاجية رافعين شعارات مناهضة لحركة النهضة ولرئيسها راشد الغنوشي ومتهمين إياه بالضلوع في اغتيال الشهيدين محمد البراهمي وشكري بلعيد، لخص هذا المشهد استمرار الخلافات بين مكونات اليسار وواقع هذا الطيف السياسي الذي وجد نفسه خارج المشهد البرلماني وعلى هامش اللعبة السياسية.
عائلات شهداء الثورة وجرحاها؛ على هامش الساحة
وسط خيام الأحزاب التي فتحت لها الثورة باب هذا الشارع على مصراعيه، شقينا طريقنا صوب المدخل الشمالي لشارع الحبيب بورقيبة. خطوة إثر أخرى، كان الصخب يقلّ والطابع الاحتفالي يفتر وصولا إلى تمثال ابن خلدون. هناك، كشفت الثورة عن وجه آخر مؤلم ودام، حيث اجتمع عشرات من أفراد عائلات شهداء الثورة وجرحاها. لم تكن تلك الوقفة للمطالبة بحقوق مادية أو تعويضات على فقدان من سقطوا في ذلك الشتاء أو من تركت المواجهات آثارها على أجسادهم، إنما كان المطلب الوحيد هو رد الاعتبار إليهم واقتلاع الاعتراف بتضحياتهم التي صنعت تلك الفرحة في الجهة المقابلة من الشارع.
هذا ما أكده للمفكرة القانونية، جريح الثورة مسلم قصد الله القادم من مدينة الوردانين في الساحل التونسي. هذا الشاب الثلاثيني، الذي فقد ساقه اليمنى في أثناء المواجهات مع قوات الأمن في مدينة الوردانين في جانفي 2011، لم يخف حنقه على الأحزاب السياسية معتبرا أنها خانت ثقة الثوار وصادرت الثورة. ليوضح قائلا؛ "بعد أن انسحبنا من التحركات الميدانية قفزت هذه الأحزاب لتفتك منا الشرعية الثورية وسخرت السلطة لخدمة مصالحها الضيقة، دون التفكير في رد الاعتبار لمن ضحوا بأنفسهم من أجل البلاد وقدموا الشرعية للسياسيين على طبق من ذهب". قبل أن يتركنا ليتوجه للاستراحة في أحد المقاهي القريبة، بعد أن حولت إصابته حياته إلى جحيم؛ أضاف قصد الله؛ "الكثير من الشباب الذي شارك في الثورة وآمن بها بدأ يشعر بالإحباط والخيانة، ولكن على السياسيين أن يتذكروا أن هؤلاء الشباب إذا ما استفاقوا سيقلبون مجددا الموازين رأسا على عقب، وكما اقتلعنا نظام بن علي فنحن قادرون على اقتلاع أي نظام آخر".
غير بعيد عن هذا الحشد، كانت السيدة زكية، والدة الشهيد قيس المزليني، ترقب الاحتفالات محتضنة صورة ابنها الذي استشهد يوم 13 جانفي 2011 في مدينة المنيهلة شمال العاصمة تونس. خاطبتنا وهي تستذكر اليوم الأخير لابنها قائلة؛ "ضحى بحياته من أجل هذا الوطن ولكن لا أحد فكر في رد الجميل أو الاعتبار لتضحيته"، وتضيف؛ "رغم محاولاتي لمنعه من الخروج إلى الشارع أثناء الاحتجاجات، إلا أنني لم أجد بدا من السماح له مكرهة بالالتحاق برفاقه والمشاركة في شرف إسقاط النظام السابق، لكنه للأسف خرج دون عودة. والآن وبعد تسع سنوات، الجميع يحتفل بالثورة وينسبها إليه ويجني ثمارها، بينما تم تهميش عائلات الشهداء وطمس ذكراهم، في حين أننا لم نطالب بشيء سوى برد الاعتبار والاعتراف لهؤلاء الذين دفعوا حياتهم ثمنا للثورة بدورهم وبحجم تضحياتهم".
بعد تمثال ابن خلدون، سيتغير المشهد تماما في الطريق إلى منطقة الحلفاوين وباب سويقة التي مثلت أحد ساحات المواجهة بين الشباب وقوات الأمن خلال الأيام الأخيرة للثورة.
شوارع المواجهات بعد تسع سنوات؛ ذكرى باردة وذاكرة باهتة
خارج مربع شارع الحبيب بورقيبة، وبعد مسافة لا تتجاوز 500 متر عنه، تختفي تماما كل مظاهر الاحتفال بذكرى الثورة، ليعود المشهد الطبيعي والروتيني لقلب العاصمة التونسية. الوجهة هذه المرة كانت منطقة الحلفاوين وحي باب سويقة، هذا الحي العريق والمنطقة الشعبية التي كانت أزقتها ساحة ساخنة لعمليات الكر والفر بين المحتجين وقوات الشرطة خلال الساعات الأخيرة من عمر نظام بن علي، والمرتبطة في ذاكرة التونسيين بحادثة باب سويقة التي أشعلت المواجهة الدامية بين الإسلاميين والسلطة في تسعينيات القرن الماضي[1].
منذ اللحظة الأولى لولوج حي باب سويقة مرورا بمنطقة الحلفاوين، يسود انطباع بأن المكان لا علاقة له البتة بذلك الصخب الذي يغمر شارع الحبيب بورقيبة. كان نسق الحياة عاديا جدا، والسكان يحاولون استغلال يوم العطلة الرسمية للتسوق وقضاء حاجياتهم الشخصية. أما الأطفال، فلا يعنيهم من الحدث سوى أنه منحهم يوم راحة إضافي للعب ولم يكلفوا أنفسهم السؤال عن سبب هذه العطلة ولم يتبادر لأوليائهم أن يشرحوا لهم خلفية هذه الذكرى كما أكد لنا أحد هؤلاء الصبية.
هذا البرود الغريب والمستفز، كان لا بد له من تفسير. الإجابة جاءت من السيد أحمد الذي يعمل في أحد المحال التجارية في المنطقة، ليوضح أن الناس أطلقت العنان لأحلامها خلال الثورة ورفعت سقف أمانيها، لذلك خرج سكان باب سويقة ليتمردوا على نظام بن علي وواجهوا القمع الأمني بصدورهم العارية، ليضيف؛ "كنت مشاركا في المواجهات وآمنت بالثورة وبضرورة التغيير، إلا أن الخيبات المتتالية جرّت الجميع إلى دائرة الإحباط. فشريحة كبيرة من المحتجين كانوا من أبناء الطبقة الوسطى التي تآكلت بعد الثورة وازدادت معاناتها الاقتصادية، وهو ما يفسر امتعاض البعض من هذه الذكرى. نحن خرجنا للشارع منادين بالشغل والحرية والكرامة وطنية، فأما الشغل فلا وجود له، والحرية تحولت في أحيان كثيرة إلى فوضى وبالنسبة للكرامة فلا نجد لها أثرا في ممارسات الطبقة السياسية. ليختم محدثنا مؤكدا أن تلك الاحتفالات في شارع الحبيب بورقيبة هي حكر على السياسيين وأحزابهم، أما نحن، فلا نشعر أنها تشبهنا أو تعبر عما حلمنا به في ذلك الشتاء".
من الحلفاوين إلى باب سويقة، تغيرت ملامح المنطقة خلال السنوات التسع الماضية، فأنزلت الأعلام التي علقها الناس في شرفات منازلهم سنة 2011، ومحيت الشعارات الثورية التي خطها الشباب على الحيطان لتعوضها الشعارات الكروية وأهازيج الملاعب. أما الأزقة فكانت تقريبا شبه خالية من المارة، واقتصرت التجمعات في مقهى الحي، حيث حضرت شتى المواضيع في نقاشات رواده إلا موضوع الثورة وذكراها. باستفساره عن سر هذه اللامبالاة، يعلق صاحب المقهى الذي عايش المواجهات في باب سويقة في سنة 2011 موضحا أن باب سويقة كان أحد أهم ساحات المواجهة ضد نظام بن علي والتي استمرت إلى حدود 17 جانفي 2011 حيث عمد أبناء الحي آنذاك إلى إغلاق جميع المداخل والتنظم في مجموعات لحراسة الممتلكات العامة والخاصة، لكن نتائج الثورة على حياة المواطنين وتراجع مستواهم المعيشي جعل أغلب الناس تهجر السياسة إلى دوائر اهتمام أخرى أهمها كرة القدم، خصوصا في هذا الحي وهو مهد أحد أقوى فرق كرة القدم التونسية. ليستطرد مازحا في نهاية الحديث؛ "نحن في الأصل ضد النظام وسنبقى على مدى التاريخ ضد النظام."
كلمات السيدة زكية، وجموع المحتشدين من الجرحى وعائلات الشهداء كان الحد الفاصل بين التمثل الحقيقي لذكرى الثورة لدى من صنعتهم ومن صنعوها، بين من غنموا من الثورة وبين من أزيحوا من المنصة بعد أن كانوا أعمدتها واللاعبين الأساسيين في الأحداث. فمن كسروا الحصار على شارع الحبيب بورقيبة خلال حقبة بن علي وفتحوا أبوابه ليصبح ساحة الاحتجاج الأهم في تونس، يجدون أنفسهم اليوم وبعد تسع سنوات على أطرافه بعد أن غص بالقادمين الجدد.
[1] الاطلاع على ملحق العدد 16 للمفكرة القانونية –تونس