في 10 حزيران 2021، أصدر مدعي عام التمييز غسان عويدات قرارا اعتبر فيه أن الاجتماع الذي عقد في قصر بعبدا برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون وحضور رئيس مجلس شورى الدولة فادي الياس وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة إنما يندرج في إطار التعاون بين القضاء والإدارة، وهو بالتالي لا يشكل انتهاكا لمبدأ الفصل بين السلطات ولا يعتبر مسا باستقلالية السلطة القضائية. وكان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أعلن عقب اجتماع قصر بعبدا في بيان رسمي “تعليق” قرار مجلس شورى الدولة بوقف تنفيذ القرار رقم 13318 الصادر عن حاكم مصرف لبنان بتاريخ 24/3/2021 والمتعلق بإمكانية سحب المودعين للدولار على سعر صرف 3900 ليرة.
يطرح بيان مدّعي عام التمييز إشكالية كبرى إذ انه يحاول إعطاء تبرير دستوري لممارسة سياسية أقل ما يقال فيها انها خطيرة على كل المستويات، إذ لا تكتفي بقبول هيمنة الاعتبارات السياسية على المنطق القانوني، بل تؤدي إلى تكريس هذه الهيمنة دستوريا عبر اعتبارها مجرد تطبيق لمبدأ التعاون بين السلطات المنصوص عليه في الفقرة “ه” من مقدمة الدستور والتي تنص على التالي: “النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها”.
والتّعاون بين السّلطات هو مبدأ متفرّع عن مبدأ الفصل بين السلطات لا سيما في النظام البرلماني. فالتعاون يخصّ أساساً العلاقات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في النظام البرلماني وهو يظهر جليّا في الآليات التي ينظم من خلالها الدستور العلاقة بين مجلس النواب والحكومة إذ ان الوزراء يحق لهم الحضور والمشاركة في جلسات البرلمان للدفاع عن سياسة الحكومة العامة، كما يحق لمجلس الوزراء التقدم بمشاريع قوانين، في حين من واجب النواب مساءلة السلطة التنفيذية ومناقشتها في أي موضوع يدخل في صلاحياتها. فالتّعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية هو من ركائز النظام البرلماني، إذ أنّ مجرّد وجود هذه الآليات في الدستور يعني أن التعاون قائم بين السلطتين حتى لو لم يتم تكريس مبدأ التعاون كنص صريح في متن الدستور.
جرّاء ما تقدّم، يتييّن لنا أنّ التعاون بين السلطات هو نوعٌ من أنواع الفصل الممكنة بينها. فالمبدأ الرئيسيّ والعام هو الفصل بينما التعاون هو الوسيلة التي يتم اعتمادها من أجل تأمين هذا الفصل الذي يختلف وفقا للنظام الدستوري بحيث يسود الفصل المرِن في النظم البرلمانية بينما الفصل الجامد أو الصارم هو المعتمد في النظم الرئاسية. لذلك نصل إلى استنتاج أول وهو استحالة وجود تعاون يخالف مبدأ الفصل بين السلطات بحيث تحلّ سلطة معينة محل السلطة الأخرى. فالفرع (التعاون) لا يمكن له بأي شكل من الأشكال أن يخالف الأصل (الفصل).
لكن المشكلة سرعان ما تظهر في كيفيّة فهم مبدأ التعاون بين السلطة القضائية وسائر السلطات لا سيما التنفيذية. فالدستور نفسه هو الذي يحدد آليات التعاون بين مجلس النواب والحكومة لكنّه جاء خاليا من أي نصّ يشرح حقيقة التعاون بين القضاء والسلطة التنفيذية. فهل الذي حدث في قصر بعبدا هو تعاونٌ دستوريّ بين القضاء الاداريّ ممثلا برئيس مجلس شورى الدولة من جهة والسلطة التنفيذية ممثلة برئيس لجمهورية والإدارة الحاضرة بشخص حاكم مصرف لبنان من جهة ثانية؟
بالحقيقة، لا يمكن الّتشديد بالقدر الكافي على محورية هذا السؤال الذي يطرح على بساط البحث طبيعة السلطة القضائية برمّتها، أي تلك الجهة المخولة قانونا بالفصل في نزاع بين طرفيْن أو أكثر. فكيف يمكن لنا أن نفهم الطبيعة القضائية لمجلس شورى الدولة إذ فقط على ضوء هذا الفهم يمكن أن نتصور التعاون الممكن بين هذا الأخير والسلطة التنفيذية؟
لا بد من الانطلاق أولا من التسمية ذاتها كون “مجلس شورى الدولة” يشير صراحة أن هذه الهيئة تؤدي وظيفة استشارية لدى مختلف وزارات وإدارات الدولة. وقد ورث لبنان هذه التسمية من الحقبة العثمانية التي شهدت إنشاء مجلس شورى الدولة بموجب إرادة سلطانية بتاريخ الثامن من ذي الحجة سنة 1284لهاييب بحيث نصت الفقرة الخامسة من المادة الثانية على أن “شورى الدولة مأمورة أن تعطي رأيها على الأوراق والتقارير التي تأتي اليها من الدوائر فيما يتعلق بالقوانين والنظامات الموضوعية”. وقد استمرّت هذه الوظيفة الاستشارية حتى اليوم، بحيث كرّس نظام مجلس شورى الدولة الموضوع موضع التنفيذ بموجب المرسوم رقم 10434 تاريخ 14/6/1975 لا سيّما المادة 56 التي نصّت على التالي: “يُساهم مجلس شورى الدولة في إعداد مشاريع القوانين، فيُعطي رأيه في المشاريع التي يحيلها عليه الوزراء ويقترح التعديلات التي يراها ضرورية ويهيئ ويصوغ النصوص التي يطلب منه وضعها. وله من اجل ذلك أن يقوم بالتحقيقات اللازمة وان يستعين بأصحاب الرأي والخبرة”، وقد فرضتْ المادة 57 استشارة “مجلس شورى الدولة في مشاريع المراسيم التشريعية وفي مشاريع النصوص التنظيمية”.
لكن استشارة مجلس شورى الدولة، رغم أهميتها، لا يمكن أن تعتبر كتطبيق لمبدأ التعاون بين السلطات لأن المجلس عندما تتم استشارته يمارس هذه الوظيفة بوصفه هيئة إدارية عليا وليس كسلطة قضائية تتولى الفصل في النزاعات الإدارية بين المواطنين والدولة. وهكذا نفهم المادة 59 من نظام مجلس شورى الدولة التي تنص على التالي: “لوزير العدل أن يطلب إلى رئيس مجلس شورى الدولة تعيين أحد أعضاء المجلس لمساعدة الإدارات في إعداد أحد المشاريع المنصوص عليها في المادتين 56 و 57 السابقتين”. فالتعاون هنا هو مجرّد تعاون إداري لا يهدف إلى إصدار حكم قضائي، وبالتالي لا يمكن لنا اعتبار أن ما حصل في قصر بعبدا يدخل في خانة هذا النوع من التعاون لأن مجلس شورى الدولة كان قد أصدر حكما قضائيا بوقف قرار حاكم مصرف لبنان، وهو بالحقيقة إجراء قانوني يختلف كل الاختلاف عن الاستشارات التي قد يصدرها المجلس المذكور.
وهكذا نعود إلى سؤالنا المركزي: متى يكون مجلس شورى الدولة سلطة قضائية؟ أو بتعبير آخر ما هو المعيار الذي يسمح لنا بمعرفة أن هذا القرار هو حكم قضائي؟
أول تعريف قد يتبادر إلى الذهن هو اعتبار الحكم القضائي هو القرار الذي يفصل قانونا في نزاع معين بين أكثر من طرف. لكن هذا التعريف لا يفي بالمطلوب كون الإدارة نفسها تتولى يوميا الفصل بين أكثر من تفسير للقانون لا بل أن القانون يسمح لمجلس الوزراء أحيانا بالفصل في خلاف قد ينشب بين مختلف إدارات الدولة. لذلك ليس محتوى أي قرار (الفصل في نزاع ما) هو المعيار المحدد للحكم القضائي كون التعريف المادي لأي نص قانوني لا يسمح لنا بفهم موقع هذا النص في البناء القانوني. والأمر نفسه ينسحب على الفرق بين القانون والمرسوم التنظيمي، إذ ان هذا الأخير هو ماديا شبيه بالقانون أي انه يحتوي على أحكام عامة لا ينحصر تطبيقها على فرد أو أفراد محددين. لذلك يتم الاعتماد في القانون القانون العام (Droit public) على المعيار الشكلي من أجل تحديد موقع كل نص في هرمية النصوص وتحديد علاقة النص الأعلى بالنص الأدنى. وبالتالي لكي يكون القرار حكما قضائيا يجب أن يتمتع بسلطة قانونية تفوق تلك التي تتمتع بها قرارات الإدارة.
وهكذا كي يكون القرار حكما قضائيا، عليه أن يصدر عن هيئة خاصة تعمل وفقا لقواعد تضمن الشروط الضرورية لممارسة الوظيفة القضائية على أن يتمتّع الحكم الصّادر بسلطة أقوى من قرارات الإداراة. لذلك يمكن لمجلس شورى الدولة إبطال قرارات الإدارة وهو يحتلّ في البناء القانوني موقعا أعلى من الأعمال الإدارية. فحتى القرارالتي تفصل بموجبه سلطة ادارية معينة في خلاف ما يظلّ قابلاً للطعن أمام مجلس شورى الدولة الذي يبتّ بالموضوع نهائيا عملا بسلطته القضائية.
يصبح جليّا الآن أنّ الاجتماع في قصر بعبدا لم يكن بين رئيس الجمهورية وحاكم مصرف لبنان من جهة والسلطة القضائية ممثلة برئيس مجلس شورى الدولة من جهة ثانية. فرئيس مجلس شورى الدولة ليس سلطة قضائية، وهو لا يمكن له أن يتخذ أي قرار يتوافق مع التعريف الذي قدمناه للحكم القضائي كون الاجتماع في القصر الجمهوري لا يستوفي إطلاقا شرط صدوره عن هيئة مخولة قانونا للقيام بذلك وفقا لآلية خاصة تصون ماهية التقاضي أمام مرجع مستقل. لذلك لا يمكن اعتبار ما حدث في بعبدا بمثابة تعاون كون السلطة القضائية كانت غائبة، لا بل أن إعلان حاكم مصرف لبنان الاستمرار بتنفيذ قراره هو عمليا “تعليق” أو “إلغاء” لقرار مجلس شورى الدولة ما يشكل مخالفة صارخة لمبدأ سمو الأحكام القضائية على الأعمال الإدارية وفقا للتعريف الشكلي الذي شرحناه أعلاه.
وما يفاقم من خطورة اجتماع بعبدا هو التفسير المغلوط الذي اعتمده مدعي عام التمييز لقرار مجلس شورى الدولة رقم 484 تاريخ 7/5/2003 الذي كرس مبدأ التعاون بين القضاء والإدارة. ففي هذا القرار كان يتوجب على مجلس شورى الدولة الفصل في مشروعية مرسوم التجنيس الشهير الذي صدر سنة 1994 مانحا الجنسية لعشرات الآلاف من الأشخاص. وبما أن المجلس لم يكن يستطيع دراسة هذا العدد الهائل من ملفات التجنيس والبت بها في مهلة زمنية معقولة، لذلك قرر هذا الأخير تكليف وزارة الداخلية مراجعة هذه الملفات على ضوء المبادئ القانونية التي وضعها المجلس على أن يخضع أي قرار تتخذه وزارة الداخلية بسحب الجنسية مجدّدا لرقابة مجلس شورى الدولة. وقد شرح المجلس معنى التعاون معتبرا أن مراجعة الإبطال لتجاوز حد السلطة “تحوّلت إلى مراجعة موضوعيّة تطلق يد القاضي الإداري في رقابته على مشروعية الأعمال الإدارية مع تحوّل مبدأ الفصل الحادّ إلى مبدأ التعاون بين القضاء والإدارة على احترام المشروعية، بحيث يتمكن القاضي الإداري من إرشاد الإدارة نحو السبل الواجب سلوكها لاحترام مبدأ المشروعية”. ومن ثم يضيف المجلس أنه “يعود للقاضي الإداري أيضا أن يشير إلى المبادئ التي يتوجب على الإدارة أن تعتمدها في حل القضية المطروحة أمامه، عندما يتعذر عليه تقنيا متابعة الرقابة حتى النهاية”.
وهكذا يتضح لنا أن القاضي الإداري هو الذي يرشد الإدارة إلى الحلّ وهو الذي يحدد المبادئ القانونية الواجب اعتمادها على أن يكون ذلك لسبب تقني وجيه. فقرار مجلس شورى الدولة بوقف قرار حاكم مصرف لبنان ليس قرارا نهائيا كي يطلب من الإدارة اتّباع إرشادته التي لم تصدر بعد كون الفصل في أساس النزاع لم يتم حتى الآن. أكثر من ذلك، لا يوجد أي سبب تقني يمنع مجلس شورى الدولة من مواصلة دراسته للمراجعة المعروضة أمامه كونها تطرح فقط إشكاليات قانونية شبيهة بآلاف المراجعات الأخرى التي يتوجب على القاضي الإداري إيجاد الحل القانوني لها. وأخيرا، إن توجيه الإرشاد إلى الإدارة يتمّ بقرار قضائي صريح يصدر وفقا للأصول عن السلطة القضائية المخولة بذلك، ولا يمكن أبدا أن يصدر عن شخص رئيس مجلس شورى الدولة في اجتماع يعقد في القصر الجمهوري خارج كل الأصول القانونية.
خلاصة القول، إن الاجتماع الذي عقد في بعبدا لا يدخل بأي شكل من الأشكال في خانة التعاون بين السلطات، وأن قرار مدعي عام التمييز يستند إلى قراءة مغلوطة لمبدأ التعاون بين القضاء والادارة وهو يؤدي في نهاية المطاف إلى ضرب القضاء بوصفه سلطة قائمة بنفسها وينسف مبدأ سمو الأحكام القضائية على الأعمال الإدارية.