أصدر ديوان المحاسبة في 9/7/2024، رأيا استشاريا أفتى فيه لمؤسسة كهرباء لبنان بإمكانية تمديد عقد صيانة وتشغيل محركات معمليْ الذوق والجية مع تحالف Middle East Power/OEG/ Arkay Energy، رضائيّا ومن دون الحاجة لإطلاق مناقصة عمومية. وبذلك، يكون ديوان المحاسبة قد تراجع عن 3 آراء سابقة في هذا الخصوص، وهي آراء لم يتسنّ لنا الاطلاع عليها.
وقد برّر الديوان فتواه الجديدة بأن الظروف الاستثنائية في البلاد تبرّر ولفترة محدودة الخروج من قاعدة المناقصة العمومية من أجل تأمين استمراريّة المرفق العام وتحقيق فرص تأمين المزيد من الكهرباء إلى المواطنين ولما في ذلك من انعكاس إيجابي على الوضع الاقتصادي في البلد وعلى المردود النقدي وسلامة المنشآت علما أن الاستثناء يبقى مقيّدا بالظروف التي أملته ولفترة انتقالية محدودة. وعليه، وعدا عن أن الديوان امتنع عن توضيح ماهيّة الظروف الاستثنائية التي استند إليها، فإنّه استعاد على طول قراره الفوائد المرجوة من تمديد العقد رضائيّا التي أدلت بها الإدارة من دون إخضاعها لأيّ قراءة نقدية. ومن هذه الفوائد، أنّ التمديد يتيح لمؤسسة كهرباء لبنان إنجاز الصيانات العامّة المتوجبة على المحركات العكسية التي لم يتمّ تنفيذها (من قبل المتعاقد نفسه) خلال مهلة ال5 سنوات الأولى من العقد، وأن المحركات تعمل بمردودية عالية مما يسمح “بإنتاج طاقة كهربائية بكلفة معقولة أقلّ من مجموعات الإنتاج الأخرى” في ظلّ الأوضاع الاقتصادية والأزمة النقدية الحالية في البلاد، وأن ثمة أسبابا اقتصادية أملتْها ظروف استثنائية ناجمة عن خطّة طوارئ الكهرباء الوطنية وضرورة تأمين مزيد من الطاقة وتلبية الحاجات، ومن أجل “الصالح العام وحفاظا على استمرارية المرفق العام وجهوزية وسلامة منشآت وتجهيزات” المعمليْن.
ومقابل إبراز فوائد التعاقد بالتراضي، امتنع الديوان في رأيه المذكور عن أيّة إشارة إلى قانون الشراء العام وما قد يسمح به أو يحظره، وذلك بخلاف العديد من الآراء والقرارات الصادرة عنه سابقا والتي سعى فيها إلى فرض احترام قانون الشراء العام على الإدارات العامة، ومنها رأيه في صفقة المطار (حين دحض ادّعاء الإدارة بأن الصفقة لا تخضع لأحكام الشّراء العام إنما لمرسوم قديم) وقراره بحجب الموافقة المسبقة عن قضية البريد (حين دحض ادّعاء الإدارة بإمكانية إبرام الصفقة رغم وجود عارض وحيد على أساس المادة 25 من قانون الشراء العام)، ومؤخرا قراره بحجب الموافقة المسبقة عن صفقة ال OTT (حين أحبط محاولة الإدارة التنصلّ من المنافسة في الشراء العامّ مبرزاً عدم قانونيّة عقد الصفقة بالصورة الرضائية).. إلخ. وقد بدا من خلال ذلك وكأنّه يتراجع أو يتخلّى طوعًا أو كرهًا عن الدّور الذي ادّعى تمسّكه في أدائه، أي ضمان التزام الإدارة بأحكام قانون الشراء العام، أقلّه في كلّ الصفقات التي ينظر فيها.
وفيما أكّدت بعض الشخصيّات السياسية (وبخاصّة النائبة والوزيرة السابقة ندى البستاني) أنّ الدّيوان تعرّض لضغوطٍ كبيرة لحملِه على التّراجع عن مواقفه السّابقة بخصوص صفقة الكهرباء، فإنّ متابعة ردود الأفعال على أعماله يُظهر تخولا واضحا في مقاربة السلطة الحاكمة لأعماله، تحوّلا ابتدأ سياسيّا وسرعان ما تترجَم في كيفية تغطية (أو عدم تغطية) المؤسسات الإعلاميّة التقليدية لها. ففيما لقي رأيه بشأن المطار ترحيبا واسعا ترافق مع تراجع الوزير علي حمية عن الصفقة التزاما منه بمضمونه، فإنّ الإعلام حجب إلى حدّ كبير قراره بحجب الموافقة عن صفقة البريد، وذلك في موازاة الضّغط الذي مورس على رئيس الديوان محمد بدران في مجلس الوزراء. وقد ذهب بعض الوزراء وفق ما سرّبه الإعلام إلى حدّ التهجم على هيئات الرقابة واتهامها بعرقلة عمل الإدارة. أما صفقة OTT الفضائحية، فقد بدأ الهجوم الإعلامي بشأنها استباقيا فور وضع الديوان يده عليها وبرز في الهجوم على النوّاب الذين طعنوا في هذه الصفقة ومستشاريهم، وهو هجوم يقترن عادة مع ضغوط عارمة في الكواليس. وفيما تمسّكت الغرفة الثانية في الديوان بحجب الموافقة عن هذه الصفقة على الرغم من ذلك، نتفاجأ أن توقيع رئيس الديوان على هذا القرار بهدف إبلاغه حصل في اليوم نفسه الذي تم فيه توقيع الرأي الاستشاري بشأن تمديد عقود الكهرباء (9 تموز)، بما يعكس تحولا في إعمال رقابة الديوان على الإدارة، في مجال الصفقات العمومية.
انطلاقا من ذلك، يهمنا التوقّف عند الملاحظات الآتية:
“الظروف الاستثنائية” أو كلمة الغمز (السرّ) السياسيّة
كما سبق بيانه أعلاه، برّر الديوان الخروج عن القاعدة العامة التي تفرض إجراء مناقصة جديدة باعتبار وحيد قوامه الظروف الاستثنائية السائدة في البلاد من دون توضيح ماهيّة هذه الظروف أو الأسباب التي تفرض اللجوء إلى تمديد العقد رضائيّا بفعلها. وقد تفاقم النقص في التعليل هنا بخلو الرأي من أية إشارة إلى قانون الشراء العام، أي القانون الذي يفترض أنه يحدد شروط إجراء الصفقات العمومية والحالات التي يجوز فيها تعليقها أو التخفيف منها. إذ حتى حين ذكّر الديوان بالقاعدة العامّة التي تتمثل بوجوب إجراء مناقصة عمومية عند انتهاء العقد الإداري، فإنه لم يشرْ قط إلى المصدر القانوني الذي استمدّها منه. وهذا الصمت إنما يبدو شديد البلاغة (مدويّا) لكلّ من تسنّى له متابعة أعمال الديوان مؤخّرا، وصولاته وجولاته ضدّ هذه الإدارة أو تلك لضمان احترام قانون الشراء العام. فكأنما مؤدّى الأخذ بالظّروف الاستثنائية ليس فقط تجاوز بعض أحكام قانون الشراء العام، بل التعامل معه ومع النظام القانوني ككل وكأنه غير موجود. فما عدا ما بدا؟ ولماذا تعمّد الديوان تغييب هذا القانون بالكامل بعدما كان أطنب في تطبيقه؟
هنا، يمكن تقديم فرضيتين لتفسير خلو رأي الديوان من أي إشارة إلى هذا القانون، هما الآتيتين:
الأولى، قانونية. ومفادها أنّ الديوان فعل ذلك لعلمه الأكيد أنّ أيّ تعليل بالاستناد إلى قانون الشراء العام يسهل دحضُه مما سيفاقم من حرجه من دون أن يطلق يد الإدارة في التعاقد وفق ما تبتغيه. وهذا ما يتحصّل تحديدًا من التدقيق في الشروط التي وضعتْها المادة 46 من قانون الشراء العامّ للسماح للإدارة بإجراء صفقات بالتراضي عند نشوء حاجة ملحّة لديها، والذي يظهر أنّ أغلبها لا يتوفر بداهة في هذه القضية. فالحاجة إلى صيانة وتشغيل معمليْ الجية والزوق “لم تطرأ فجأة” كما تشترط هذه المادة، بل هي الحاجة الأساسية للتعاقد الحاصل منذ سنة 2016. هذا فضلا عن أنه لا يتوفّر في تأمين هذه الحاجة شرط العجلة القصوى ووجوب التعاقد لـمنع التأخير في تلبيّتها (وهو شرط آخر لتبرير التراضي)، طالما أنّ الشركات المتعاقدة تمتنع عن صيانة معدّات المعمليْن وتشغيلِهما منذ 5 سنوات بعلم الإدارة وأن قرب انتهاء مدة العقد لا يشكّل أي عامل طارئ emergency وغير متوقع unforeseeable بل هي واقعة معلومة ومتوقعة جدا منذ زمن وكان يجدر بالإدارة التهيؤ لها من خلال إجراء مناقصة جديدة. ولو كان خلاف ذلك أو جاز التغاضي عن مخالفة هذا الشرط، لأمكن أيّ جهة شارية أن تتعمّد إهمال موجباتها في التخطيط والإعلان عن حاجاتها ضمن الأوقات المناسبة وعمليا أن تختلق بإرادتها وتقاعسها ظروفا تستدعي العجلة في التعاقد، وتمديد العقود رضائيّا، لتتنصّل من ثم من مبادئ الشراء العام وإجراءاته ومن ضمانات المنافسة العادلة. يضاف إلى ذلك، أنّه على فرض نجح الديوان في إثبات إمكانية التعاقد بالتراضي وفق المادة 46 (خلافا لما نراه بداهة)، فإن الإدارة تبقى في هذه الحالة ورغم تحرّرها من قاعدة المناقصة العمومية، ملزمة بإبلاغ هيئة الشراء العام شروط الصفقة الرّضائية ونشرها في مجمل تفاصيلها قبل إبرامها كي يتسنى للمنافسين الطعن بها إذا رغبوا بذلك، كل ذلك عملا بالمادتين 9 و62 من قانون الشراء العام. وما يؤكد على ذلك أنّ الديوان كان أصدر في اليوم نفسه قراره في قضية OTT أكّد فيه أن معاملة نشر الصفقة الرضائية قبل توقيعها هي جوهرية وأن الإخلال بها إنما يؤدي إلى إبطال الصفقة برمتها.
أما الفرضية الثانية لتفسير خلو القرار من أيّة إشارة إلى قانون الشراء العامّ، وهي تتكامل ربما مع الفرضية الأولى، فقوامُها أن الديوان تعمّد من خلال حصر تعليله بالظروف الاستثنائية والامتناع عن أيّ تعليل قانوني، التمييز بوضوح كليّ (وبلباقة) بين آرائه وقراراته التي يضطرّ على إصدارها لاعتبارات أو رضوخا لضغوط سياسية بمعزل عن القانون، وآرائِه وقراراته الأخرى التي تنبني على العكس من ذلك على مقتضيات القانون والتي يكون لها وحدها صفة السّابقة والاجتهاد. ومن هذه الزاوية، تظهر عبارة “الظروف الاستثنائية” (هذه العبارة السحريّة التي غالبا ما استخدمتْها الإدارة للتنصّل من أهمّ موجباتها القانونية كما الدستورية، ابتداء من تمرير موازنة عامة من دون قطع حساب وانتهاء بتمديد ولاية المجالس البلدية) بمثابة مرادف لعبارة Raison d”Etat التي غالبا ما استخدمتْ لتبرير ما لا يمكن تبريره قطعًا في القانون.
وما يعزّز ذلك هو مجمل الحجج التي استعادها الديوان في رأيه نقلا عن الإدارة وقاربت اللامنطق وفق ما سبق بيانه. فكيف يمكن تبرير استمرارية المرفق العام بتمديد التعاقد رضائيّا مع شركة توقفت تماما عن أداء أعمالها طوال الخمس سنوات الماضية؟ وكيف يمكن تبرير تمديد العقد رضائيّا للحصول على الشروط الفضلى في حين أن الدولة بكامل أجهزتها انت فاخرت أنها حقّقت نقلة نوعية في مجال مكافحة الفساد والحوكمة الرشيدة من خلال إقرار قانون الشراء العام وهي الاعتبارات التي أسهبت الأسباب الموجبة للقانون ومبادئه في إبرازها؟ بالطبع، لا مبرر قانوني أو منطقي لذلك، إلا الاعتبار السياسي الذي رضخ الديوان له من دون أن يتخذ أيّ خطوة لإخفائه.
خسارة مؤسساتية تدعو إلى فتح ورشة استقلالية الديوان
في حين يشكّل إصرار مؤسسة كهرباء لبنان على عقد صفقة هامّة كصفقة تشغيل معمليْ الجية والزوق بالتراضي جليلا آخر على أن الإدارة ما تزال متمسكة بممارساتِها القديمة وأنها ما تزال تمانع الالتزام بقانون الشراء العام (وهذا ما شهدناه في العديد من القضايا حيث سعت الإدارة جاهدة إلى القفز فوق هذا القانون كما في قضية المطار أو تمرير صفقات العارض الوحيد كما في قضية البريد أو صفقات بالتراضي كما في صفقة OTT)، فإن هذا الرأي يكشف أنها نجحتْ في الحدّ من صرامة الديوان في ممارسة رقابته على صفقاتها وصولا إلى انتزاع فتوى تخوّلها التملص تماما من قانون الشراء العامّ متى شاءت وبمجرّد التذرع بالظروف الاستثنائية (وما أكثر الظروف الاستثنائية في لبنان).
وعليه، فإن الخسارة الناجمة عن هذا الرأي لا تنحصر في تسهيل مرور هذه الصفقة (مع ما قد ترشح عنه من إجحاف في حقوق الخزينة العامة والخدمات العامة) ولا حتى في تشريع الاستثناء على قواعد الشراء العامّ، بل هي تتمثل أوّلا في تراجع مكانة الديوان كهيئة رقابية محايدة وفاعلة. فعدا أن من شأن هذا التراجع أن يفتح شهيّة كل صاحب نفوذ لتمرير الصفقة بالصورة التي يحبّ، فإن من شأنه أيضا أن يمنح مجلس الوزراء أريحية أكبر في ممارسة صلاحيّته في تجاوز قرارات الديوان بحجب الموافقة على صفقات معيّنة من دون حرج، دائمًا تحت غطاء الظّروف الاستثنائية. وفداحة هذه الخسارة المؤسساتية إنما تفرض أكثر من أيّ وقت مضى مباشرة ورشة إصلاحية واسعة عنوانها الأول ضمان استقلالية الديوان وقضاته إزاء كل القوى التي دفعته أو قد تدفعه إلى السقوط. فلنبدأ.