لا تلزيم أجري في وزارة الاتصالات يستطيع الوزير أن يفاخر أنه لم يخالف القوانين والإجراءات المرعية. فلا المنافسة أولوية بالنسبة له، ولا عدالة الفرص بين العارضين. كل صفقة يعلن عنها يتبين أن الفائز بها معروف سلفاً. إما يكون دفتر الشروط معداً على قياسه، وإما توجّه إجراءات التلزيم بما يضمن فوزه بالصفقة. التقرير الذي أصدره الديوان في 23/1/2023 لا يختلف عن التقارير السابقة لناحية وضع الأصبع على المخالفات التي تغرق وزارة الاتصالات بها. فالتقرير الذي أعدته الغرفة المعنية في الديوان برئاسة القاضي عبد الرضى ناصر وعضوية المستشارين محمد الحاج وجوزف الكسرواني بشأن تلزيم وزارة الاتصالات وشركة “تاتش” للنظام الخاصة بالرسائل النصية A2P (خدمة الرسائل من التطبيقات إلى الأفراد) شكّل مضبطة اتهام جديدة بحقّ وزير الاتصالات. صحيح أنّ التقرير يتعلق بمسألة محددة إلا أن خلاصاته طالت طريقة إدارة الوزارة وسلوكها الطريق الملتوية نفسها كلما أرادت الحصول على خدمة جديدة. الخطير أن هذا الأمر ليس عرضياً أو مفاجئاً، وهذا ما تبيّن في ملفات أخرى تطرّق إليها ديوان المحاسبة أو هيئة الشراء العام أو النواب عبر أسئلة موجهة إلى الحكومة مثل: صفقة البريد، خدمة Ewallet، صفقة IPTV ثم OTT، ستارلنك، تحديث سنترالات الداتا في شركتي الخلوي ومبنى تاتش. تلك التقارير أو الأسئلة لم تجعل وزارة الاتصالات تُغيّر سلوكها باتجاه إدارة أكثر شفافية للوزارة. إذ يتضح أنه كلما تدخّلت الهيئات الرقابية لوقف المخالفة أو التنبيه لها يُسارع وزير الاتصالات إلى الاستعانة بمجلس الوزراء أو بمرجعيات سياسية للالتفاف على القرارات أو التوصيات أو يتغاضى عن استشارات هيئة الاستشارات والتشريع.
الديوان يدعو القرم للابتعاد عن الارتجال
التقرير الأخير للديوان استند إلى إخبار من كل من النّائبين ياسين ياسين وابراهيم الموسوي بشأن التعاقد مع شركة لتقديم خدمة A2P لا تتوافر فيها الشروط المطلوبة، واختتم بتوصية شاملة تدعو الوزير إلى:
- الابتعاد عن الارتجال عند تلزيم موارد البلاد الاقتصادية.
- القيام دوماً بوضع مخطط واضح يدعم بدراسات جدوى مالية تبين مصلحة الإدارة.
- مراعاة قواعد الحوكمة الرشيدة القائمة على الشفافية والموضوعية والثبات.
- وضع الخطط الضرورية لإدارة المشاريع التي تحدد من خلالها أهداف الأعمال المنوي إنجازها وتحديد خارطة طريق للوصول إليها مع مراعاة المهل المعقولة، لما للوقت من أهمية وقيمة ماليّة في الميادين الاقتصادية.
وبذلك، يتّضح أن الديوان اتّهم وزير الاتصالات صراحة بالارتجال وعدم وضع مخطط واضح لتلزيم موارد الدولة وعدم إجراء دراسات جدوى قبل التلزيم وعدم وضع خطط لإدارة المشاريع وعدم مراعاة الشفافية والموضوعية… إلا أن القرم جرياً على عادته، نفى كلّ التهم عبر بيان، لا يتوجّه فيه إلى الديوان مباشرة، ويعلن فيه أنه لا يتخطى حدود القانون ويسعى إلى تأمين أقصى حدود للربحية ووضع دفاتر شروط واضحة وعلمية وغير مفصّلة على قياس أحد… وهو ما لم يتضح في كل التقارير الصادرة عن الجهات الرقابية.
خدمة واحدة بسعرين
في ملف A2P كانت البداية مع إطلاق شركة “ميك 2” (“تاتش”) مزايدة في 22/12/2021 لتلزيم الخدمة، وإطلاق شركة “ميك 1” (“ألفا”) مزايدة ثانية في 1/11/2022. لكن بالرغم من إطلاق “ألفا” لمزايدتها بعد 11 شهراً من “تاتش” إلا أنها وقّعت العقد مع الشركة الفائزة (Vox Solutions Global Limited) بعد 7 أشهر فقط (7/6/2023) في حين انتظرت “تاتش” نحو سنة و7 أشهر حتى توقّع العقد (22/5/2023) مع الشركة الفائزة في مزايدتها (InMobiles). هذه الفترة الطويلة حملت معها الكثير من التغييرات إن كان في معطيات السوق أو في الأسعار أو حجم القطاع، ما كان يفرض على الوزارة التصرّف على أساس الوقائع المستجدّة، وهو ما لم تفعله.
بدا لافتاً لدى مقارنة نتائج المزايدتين الفارق الشاسع بين قيمة العقدين. فعقد “ألفا” يحقق في الحد الأدنى 17.9 مليون يورو خلال ثلاث سنوات، حتى لو لم تحقّق الشركة الحدّ الأدنى من مجموع الرسائل السنوية، في حين أنها ستدفع مقابل كل الرسائل التي تزيد عن الحد الأدنى. في المقابل، لا إشارة إلى الحدّ الأدنى السنوي في عقد “تاتش” الذي يقتصر على تحديد الحدّ الأدنى لعدد الرسائل. علماً أنّه كان بالإمكان ببساطة ضرب الحدّ الأدنى لعدد الرسائل بالسّعر الإفرادي لتحديد القيمة السنوية للعقد (7.3 مليون يورو) لكنها لم تفعل.
ففي التفاصيل، يتبيّن أنّ السعر الإفرادي المحدّد في عقد “تاتش” يبدأ بـ7.5 سنت (يورو) ويرتفع في السنتين الثانية والثالثة إلى 7.6 سنت، في حين أن السعر الإفرادي للرسالة في عقد “ألفا” يبدأ بـ 10.5 سنت (يورو) ويرتفع في السنة الثانية إلى 11.5 سنت وفي الثالثة إلى 12.5 سنت. كما أن الحدّ الأدنى لعدد الرسائل النصية محدد بما بين 31 مليون رسالة (السنة الأولى) و34 مليون رسالة (السنة الثالثة) سنوياً في عقد “تاتش”، فيما يرتفع الحدّ الأدنى إلى ما بين 46.6 مليون و56.8 مليون رسالة في عقد “ألفا”.
أمام هذا الواقع المستجدّ الذي كشفته مزايدة “ألفا”، لم يكن بمقدور وزارة الاتصالات الاستمرار بعقد “تاتش” مع Inmobiles كما هو. لكنها بدلاً من إعادة المزايدة، عمدت إلى تعديل السعر الإفرادي للرسالة ليعادل سعر السنة الأولى في عقد Vox Solutions أي 10.5 سنت (يورو)، لكن مع الإبقاء على السعر نفسه في السنتين التاليتين. وبدا لافتاً أن العقد يتضمّن بنداً يجيز للوزارة تعديل سعر الدقيقة بين فترة وأخرى. وإذ يبدو مستغرباً أن توافق شركة جدّية على بند مماثل لا يعطيها حقّ الموافقة أو الرفض أو الاشتراك في اتخاذ القرار على تعديل الأسعار، فقد بيّنت التعديلات الأخرى أن الزيادة قابلها الكثير من التساهل مع الشركة، يبدأ بتقسيط المبالغ المستحقة خلافاً لما ينصّ عليه العقد الأساسي ودفتر الشروط ولا ينتهي بإلغاء الحد الأدنى المتوجب دفعه.
أول من شكّك في الملفّ رسمياً، بعد التشكيك به إعلامياً، كان النائب ياسين ياسين الذي وجّه سؤالاً إلى الحكومة وخاصّة إلى وزير الاتصالات جوني القرم يتعلّق بالصفقة وسبب تأخّر التوقيع بما يشكّله من هدرٍ للمال العامّ. بناء عليه، وضعتْ هيئة الشراء العام يدها على الملف وأعدّتْ تقريراً حول ملابساته صدر في 25/9/2023. وقد اعتبرت الهيئة أنّ التعديلات التي أعلنها الوزير لناحية السعر الإفرادي ليست بديلاً عن الإجراءات التنافسية المعتبرة من الانتظام العام بموجب أحكام المادة الأولى من قانون الشراء العامّ. كما أشارت إلى أن التوازن المالي ليتحقق، يجب رفع سعر الرسائل النصية وأيضا الحدّ الأدنى لها، مع تأكيده أنّ هذا الإجراء ليس بديلاً من إجراء مزايدة علنيّة.
ودعت هيئة الشراء العام في تقريرها إلى:
- إطلاق شركة “تاتش” مزايدة جديدة وفقاً لأحكام قانون الشراء العام.
- تعديل العقد الموقع مع شركة Inmobiles بمفعول رجعي يسري اعتباراً من تاريخ نفاذه لاعتماد السعر الإفرادي المعتمد في العقد الموقع مع “ألفا” والحدّ الأدنى السنوي لعدد الرسائل النصية.
- فسخ العقد مع شركة Inmobiles عند انتهاء المزايدة المفترض المباشرة في إجرائها من دون تأخير بما يتناسب مع الفقرة 3 من المادة 7 من العقد بحيث لا يترتب على شركة”تاتش” أي تعويضات مالية لصالح الشركة،.
- النظر مستقبلاً في إمكانية إجراء مزايدة واحدة لنظام الرسائل النصية للشركتين معاً.
تواطؤ أم خضوع؟
في تقريره، يتبنى الديوان كل ملاحظات هيئة الشراء العام في ما يتعلق بالصفقة وينطلق منها إلى رسم خريطة طريق يفترض بالوزارة أن تتبعها إذا كانت تسعى فعلاً لتحقيق المصلحة العامة، خاصة أن المزايدة الخاصة بـ”تاتش” مرّت بمراحل عديدة تدعو للشك وتؤكد غياب الشفافية:
أولاً، لم تطلق الشركة مزايدة دولية كما فعلت “ألفا”، بل أطلقتْ، في 1/12/2021، مزايدة محصورة دعتْ إليها 25 شركة بالإسم، إلا أن 10 شركات فقط اشتركت فعلاً، ولم تقبل العروض الفنية سوى لخمسة منها فقط. وهنا تساءل الديوان كيف يمكن تفسير رسوب 5 عارضين، أي ما يعادل 50% من العارضين المشتركين، بالرغم من الإدارة هي التي وجهت الدعوات لهذه الشركات للمشاركة في استدراج العروض، حيث يفترض أن توجه الدعوة إلى “الذين ترى فيهم الإدارة مقدرة على تنفيذ الصفقة”. وعليه يسأل الديوان: لماذا دعت الإدارة شركات غير مؤهّلة ولم تقم بواجبها للتأكد من توفّر الشروط الأساسية المطلوبة من العارضين قبل دعوتهم، أو تأكدت من أهمية وكفاءة الشركات؟ وهل هذا لتقصير يوضع في خانة الإهمال والارتجال وغياب التخطيط أم في خانة إهمال المصلحة العامة في سبيل خلق الأجواء المؤاتية لفوز عارض محدد؟
ثانياً، في 13 و29 تموز وصل إلى “تاتش” اعتراضان يُشيران إلى أنّ الفائز لا يلبّي شروط المزايدة، ولا سيّما الشرطيْن القاتليْن، وهما:
- أنه ينبغي أن لا تقل خبرة الشركة المتقدّمة عن 5 سنوات في موضوع المزايدة أي نظام الرسائل الدولية من التطبيقات A2P International.
- ينبغي أن تكون الشركة قد قدمت الخدمة نفسها عبر 3 مشغلين ل20 مليون مشترك على الأقلّ.
بعد طلب الوزارة التّدقيق في الأمر، تبيّن للجنة التحقيق في الاعتراضات أنّ شركة InMobiles قدّمت مستندات تؤكد أنها لا تملك خبرة السنوات الخمس في القطاع ووجب رفض عرضها مباشرة. إلا أن ذلك لم يحدث بالرغم من أن “تاتش” نفسها أشارت في تقريرها الموجّه إلى وزير الاتصالات أن الفائز “يملك خبرة عامة في مجال A2P SMS لكنه يملك خبرة محدودة في موضوع المزايدة أي A2P International SMS”. لكن اللافت في التقرير أنه لم يقترح إسقاط عرض الشركة الفائزة بل ذهب إلى اقتراح تعديلات على العناصر القاتلة في أي مزايدة مقبلة كأن تخفض سنوات الخبرة إلى 3 سنوات. واستكمالاً لتجاهل نتائج التحقيق وحسمه مسألة عدم مطابقة الشركة لشروط المشاركة، طلبت “تاتش”، في الكتاب الموجّه إلى وزارة الاتصالات، في 5/10/2022، توقيع العقد مع الفائز في المزايدة، أي InMobiles. وهذا التناقض بين التأكيد أن الشركة لا تستوفي الشروط وبين طلب الموافقة على توقيع العقد معها، يعتبره ديوان المحاسبة في تقريره: “ملفتا جداً ومثيرا للشبهات إلى أقصى الحدود”، ليضيف أن لجنة التحقيق في الاعتراضات كانت “إما متواطئة على المصلحة العامة وإما خاضعة لضغوط لم يكن بوسعها مواجهتها”.
في رسالته الجوابية، كرّر وزير الاتصالات التناقضات التي تضمّنها كتاب شركة “تاتش”، ولا سيّما منها أنّ الفائز لا يملك الخبرة الكافية في موضوع المزايدة وأنّ العناصر القاتلة قد تكون استبعدت شركات أخرى، ليخلص إلى أنه “طالما أن الشركة أكدت أن الفائز يلبّي متطلبات ومعايير المزايدة فلا اعتراض على توقيع العقد معه”.
وإذ يسأل الديوان لماذا وافق الوزير على توقيع العقد بالرغم من الفارق الكبير في الأسعار مع العقد الموقع بين “ميك 1” وشركة Vox بالرغم من أن نتيجة المزايدة صدرت قبل توقيع العقد مع InMobiles وبمبلغ يفوق 10 مليون دولار، ولماذا لم يعد الوزير إلى إلغاء العقد سنداً للمدة 7.3 منه (الإنهاء الاختياري) وإعادة تنظيم مزايدة أخرى؟ واستطراداً، لماذا لم يجر مزايدة واحدة لشركتي الخلوي بغية الاستحصال على شروط أفضل وأسعار أفضل؟ علماً أن الوزير بالرغم من أنه كان طلب من “ميك 2” التنسيق مع “ميك 1” لتوحيد الإجراءات وإطلاق مزايدة واحدة (13/12/2021) قبل أن يُعدّل قراره فجأة ليطلب صرف النظر عن كتابه السابق من دون إعطاء تبرير مقنع، “وهو ما يدل على الارتجال أو غياب الرؤية والتخطيط”، يقول الديوان.
الوزير يمعن في ضرب قواعد الشراء العام
الوزير نفسه عاد بعد ذلك ورفض توصيتين من “ميك 2” (18/5/2022 و15/6/2022) بإجراء مزايدة محصورة بين العارضين الثلاثة الأوائل نظراً لتقارب العلامات النهائية وأصدر توجيهاته بالاكتفاء بدورة واحدة، بالرغم من أنها “كان من المرتقب أن تُسفر عن مداخيل أوفر للدولة وزيادة المداخيل بالعملات الصعبة”.
وأكثر من ذلك، تبيّن للديوان، بحسب التقرير، أن المسار المتّبع من الإدارة في هذه المزايدة يظهر “غياباً للرؤية وإمعاناً في ضرب قواعد الشراء العام وإهمالاً وتردداً، لا بل تخبطاً لا مبرر له، إلا إذا كان الهدف الحقيقي هو إرساء التلزيم على شركة معينة هي شركة InMobiles مهما كان الثمن وليس اتباع خطوات مدروسة وشفافة للحفاظ على المال العام”.
كما ذكّر الديوان الوزير أن الإقدام على تغيير مندرجات دفاتر الشروط مراراً وتكراراً من دون مسوّغ شرعي يضرب سمعة ومصداقية لبنان ويزعزع ثقة العارضين المهتمّين، لاسيما الشركات الأجنبية، بشفافية آلية الشراء العام فيه وهو أمر لا يجوز التفريط به إطلاقاً مهما كانت الظروف والأسباب.
أمام هذه الاتهامات التي تسوقها جهة رقابية على وزير في الحكومة، هل يمكن لمجلس النواب السكوت عن أداء الوزير؟ وهل يمكن لمجلس الوزراء السكوت عن هذه التجاوزات التي تؤدي إلى هدر المال العام، خاصة أن التعامل مع تلزيم A2P يتكرر مع كل تلزيم، حتى تكاد وزارة الاتصالات تصبح عنواناً دائماً لفساد التلزيمات.
هذا ما يفترض أن تجيب عليها التحقيقات القضائية التي سيجريها الديوان، بعد إحالة التقرير إلى الغرفة القضائية المختصة وإلى النيابة العامة لدى الديوان وإلى النيابة العامة التمييزية. وبحسب التوقعات المحيطة بالملف، فإن الغرفة القضائية لن تتأخر قبل إصدار قرار اتهامي بحق الوزير جوني القرم وبحق المسؤولين الآخرين عن المخالفة، لما في الملف من أدلة على ارتكاب مخالفات قانونية بالجملة، ساهمت في تفويت أموال على الخزينة. أضف إلى أن التأخير في توقيع العقد بعد إرساء التلزيم على شركة InMobiles ساهم في خسارة عائدات كان يمكن أن تتحقق. وهو ما أكد عليه الوزير نفسه في بيانه الذي أشار فيه إلى تراجع إيرادات خدمة A2P في العام 2023 عن العام الذي سبق، ما يدل بحسب البيان على أن “الاتجاه العالمي لخدمة تطبيق الرسائل النصية القصيرة هو مسار انحداري”.
للاطّلاع على تقرير ديوان المحاسبة، إضغطوا هنا