منذ صدور المرسوم رقم 9458 تاريخ 30 حزيران 2022، الذي يتضمن خارطة طريق لحلّ مسألة الإنترنت غير الشرعي، وحتى اليوم، لم يشهد الملفّ أيّ تقدّم. هل فعلاً وزارة الاتصالات عاجزة عن إنجاز ما كلّفها به مجلس الوزراء، بناء على اقتراح منها نفسها؟ أم أن وزير الاتصالات يسعى عمداً إلى عدم إنجاز الملف، الذي كان يمكن أن يدرّ على الدولة ملايين الدولارات سنوياً؟ أقل ما يمكن قوله إن المسألة تثير الريبة. فلو كان الوزير عاجزاً لأي سبب عن تنفيذ المرسوم، لكان أمكنَه اللجوء إلى مجلس الوزراء لعرض مكامن الاستعصاء، وصولاً إلى تقديم اقتراحات بديلة ربما. أما إذا كان الوزير يتعمّد وضع العصي أمام التنفيذ، فهذا يستدعي مساءلته نيابيّاً أو على الأقل مطالبته حكومياً بتبرير عدم إنجازه الملف بالرغم من مرور سنتين ونصف.
في الظاهر، تقوم الوزارة بخطوات تدّعي أنها تؤدي إلى حلّ المشكلة، لكن فعلياً فإن إدارتها للملف توحي أن الهدف هو الإبقاء على تحكّم شركات خاصة محظية بقطاع الإنترنت وتحقيقها أرباحاً طائلة على حساب الخزينة.
هذا استنتاج لم يأتِ من فراغ، بل هو مبنيّ بشكل رئيسي على الخطوات التي تقوم بها الوزارة منذ العام 2022 وحتى اليوم. وهي خطوات تبتعد بشكل ملحوظ عن خارطة الطريق التي حدّدها المرسوم. فهذا المرسوم حدّد ثلاث خطوات يفترض أن تقوم بها الوزارة بالتّسلسل تمهيداً لتنظيم القطاع غير الشرعيّ وإعادته إلى كنف الدولة:
– ضبط الشبكات من قبل وزارة الاتصالات.
– وضع الشبكات بتصرّف الوزارة لإدارتها.
– التعاقد لصيانة هذه الشبكات، مع تحديد مهلة 6 أشهر للتنفيذ (انتهت في نهاية العام 2022).
لكن النتيجة بعد مرور سنتين ونصف لا تزال على الشكل التالي:
– لم تضبط الوزارة الشبكات.
– لم تضعها بتصرفها تمهيداً لإدارتها.
– لم تتعاقد لصيانة الشبكات خلال الأشهر الستة التي حددها المرسوم، وهي خطوة كان يفترض أن تتم بعد عملية الضبط، إذ لا يمكن للوزارة أن تكلّف أحداً بصيانة شبكة لا تملكها ولا تديرها. وهو تماماً ما تحاول تنفيذه اليوم من خلال السعي إلى التعاقد مع أوجيرو ليس لتولي أعمال الصيانة، بل لتقوم بتوقيع عقد صيانة مع أصحاب شبكات الأحياء، قبل إنجاز البندين السابقين.
تجدر الإشارة هنا إلى أن المرسوم جاء ليتجاهل اقتراحاً عملياً كانت قدمته هيئة أوجيرو إلى الوزارة في 19 نيسان 2022، بالرغم من أنه أقل تعقيداً وأكثر فاعلية وسهولة في التطبيق، ويتضمن:
– خفض سِعات الإنترنت التي تحصل عليها الشركات الخاصة، بما يتناسب مع أعداد المشتركين المُصرّح عنهم فقط.
– قيام الشّركات الخاصّة بالتصريح عن الأعداد الحقيقية للمشتركين وفقاً لتقدير هيئة أوجيرو.
– تحويل الشركات المنشأة خلافاً للقانون إلى شركات شرعية، عبر إتاحة المجال أمامها للتصريح عن نفسها والتقدّم بطلبات لاستثمار الشبكة والتصريح عن عدد المشتركين وتسديد الرسوم عنهم.
أوجيرو كانت قدمت اقتراحها بناء على دراسة أظهرت أن عدد المشتركين غير المصرّح عنهم من الشركات الشرعية زاد 157889 مشتركاً خلال أول شهرين من 2022 (تقدر أعداد المشتركين بالنظر إلى حجم استهلاك الإنترنت).
لا بد من الإشارة هنا إلى أن ديوان المحاسبة وفي تقرير مفصّل عن قطاع الاتصالات (11/11/2021) أعدّته القاضية زينب حمود، كشف أنّ أوجيرو، التي تملك 280 ألف مشترك، تستعمل سعات دولية تبلغ 92 جيغابيت/ ثانية لتغطية استعمالهم للإنترنت، في حين تستهلك الشركات المرخصة 470 جيغابيت/ ثانية لتأمين الخدمة لـ145 ألف مشترك مصرّح عنه فقط (فيما هي لا تحتاج لأكثر من 43 جيغابيت/ ثانية لتأمين الخدمة لمشتركيها المصرّح عنهم). وهذا يقود إلى أن تلك الشركات تشتري سعاتٍ أكبر بكثير من حاجتها المصرّح عنها، ما يؤكّد أنها تدير أو تؤمّن حاجات السوق غير الشرعية من سعات الإنترنت. وفي السياق نفسه، كان لافتاً أن رسالة أوجيرو تضمّنت أسماء شركات عديدة مرخّصة يتّضح أن وظيفتها الوحيدة هي بيع الإنترنت إلى الشبكات غير المرخّصة، إذ لا تملك في جعبتها أيّ مشترك شرعي، ما يثير تساؤلات عن كيفية ترخيصها أصلاً، وكيفية بقائها في السوق.
وإذ يتضح أن أياً من اقتراحات أوجيرو لم يؤخذ به، نتيجة ضغوط من الشركات على ما تردّد، فقد جاء إقرار مجلس الوزراء للمرسوم رقم 9458 المنشور في الجريدة الرسمية في 30 حزيران 2022، والذي ينصّ على “معالجة أوضاع الشبكة المنشأة خلافاً للقانون”، ليثبّت سلطة هذه الشركات. إذ أن المرسوم لم يكتفِ بتجاهل الاقتراحات الثلاثة، بل ذهب إلى خيارات تصبّ في مصلحة الشركات الخاصة، أو بشكل أدقّ، عدد محدود من هذه الشركات، المعروفة بين أبناء القطاع بأنها الأكثر نفوذاً وملاءة مالية.
وقد جاء اقتراح الوزارة الذي تبنّاه مجلس الوزراء ليشير إلى حقّ شركات نقل المعلومات المُرخّصة استثمار الشبكات المضبوطة والمُنشأة من دون تراخيص (المادة 17). وعليه، فتح المرسوم الباب أمام نقل ملكية الشبكات غير المرخّصة إلى شركات DSP، على أن يعطى أصحابها عقد صيانة للشبكة التي أنشأوها، بعد نزع ملكيتهم لها، ل 3 سنوات، يخرجون بعدها من القطاع نهائياً.
“الاتصالات” تصرّ على توقيع عقد لصيانة شبكة لا تملكها
المادة 17 تسبقها المادة 16، التي تنص على الإجراءات المفترض اتباعها قبل مرحلة استثمار الشبكات أو صيانتها. لكن وزير الاتصالات لم يهتمّ بالإجراءات التي تنص عليها، بل ذهب إلى تجاوز كل متطلبات المرسوم، وصولاً إلى طلب موافقة ديوان المحاسبة على توقيع الوزارة عقداً مع أوجيرو “لتنظيم أعمال صيانة الشبكات المضبوطة والمنشأة دون تراخيص”، مقابل 300 مليار ليرة سنوياً. وهو أمر لم يكن صعباً رفضه من قبل الديوان نظراً لما يعتريه من مخالفات ومن غموض. فالوزير نفسه أقر في إجابته على استفسارات الديوان أنه لم يتمكّن من تكوين ملفات أكثر من 106 شركات من أصل 600 شركة توزّع الإنترنت بشكل غير شرعي.
وكما سبق ذكره، فإنّ المرسوم ينصّ على ضبط الشّبكات ثم تحويلها إلى القضاء قبل توقيع عقود صيانة. وبالتالي، على أي أساس يتمّ توقيع عقد مع أوجيرو؟ وماذا لو لم توافق هذه الشركات على التوقيع مع الهيئة؟ وماذا عن الشبكات التي لم يتمّ تكوين ملفّ بشأنها؟ وهل صحيح أنّ العدد الإجمالي لشركات توزيع الإنترنت غير الشرعي هو 634 شركة فقط؟ وماذا عن كشف أصحاب الشركات أنفسهم، في أي اجتماع مع نواب، إلى أن عدد الشبكات غير الشرعية يصل إلى 2000 شبكة؟ وحتى مع افتراض أن الشركات ال 106 تلك وافقت على توقيع عقد صيانة مع أوجيرو، فماذا عن الشركات الأخرى، من سيضبطها ومن سيتعاقد معها من أجل الصيانة؟ وهل يمكن أن تقود هذه الخطوة إلى الاستنتاج أن الغاية الأساس هي فتح الباب أمام الشركات الخاصة لتستولي على الشركات الباقية؟ وبذلك، يؤكد الديوان أنه قبل أن يتم ضبط الشبكات وتحويلها إلى القضاء لا يمكن توقيع عقود صيانة. وعندها ستكون أوجيرو قد حصلت على 270 مليار ليرة (90% من قيمة العقد) من دون أن تتمكن من إنجاز ما عليها. وحتى مع إنجاز هذه العقود ماذا سيكون دور أوجيرو، هل ستحصل على أموال من أجل تنظيم العقود فقط؟ وأين ستذهب الأموال المحصّلة؟ ثم في الأساس، ما الذي يمنع الهيئة من إجراء الصيانة بنفسها، بعد ضبط الشبكات؟ الديوان تطرق إلى هذه الملاحظات وإلى غيرها، كما سأل عن أسباب خروج العقد عن مهلة الأشهر الستة التي أجاز فيها المرسوم التعاقد مع أصحاب الشبكات المخالفة، “ما يعكس عدم جدية أو استنسابية وازدواجية معايير في معالجة المسألة”. وما يؤكد ذلك بحسب الديوان هو إصدار الوزير القرار التطبيقيّ الخاصّ بالمرسوم بعد سنة و3 أشهر من تاريخ نفاذه. علماً أن هذه المهلة كان وصفها الوزير بأنها مهلة حثّ لا إسقاط وهو ما خالفه الديوان الذي أكد أن المهلة هي مهلة إسقاط انطلاقاً من أن المرسوم هو في صدد وضع قواعد استثنائية لوضع غير قانوني على نحو يضمن استمرارية الخدمة في موازاة وضع خارطة طريق تهدف إلى تنظيم واقع لا يمكن إلا أن يكون مؤقتاً ومحصوراً في أجال قصوى تحت طائلة السقوط في تأبيد الواقع المخالف. كما رأى الديوان أن الصلاحية التي اعطيت للوزارة بموجب المرسوم 9458 لا يجوز تجييرها إلى هيئات أخرى من دون قانون. مع التذكير أن مسوّدة العقد لا تنصّ على قيام أوجيرو بنفسها بأعمال الصيانة الفعلية.
وعليه، أوصى الديوان الإدارة بالقيام بدون إبطاء بـ:
- ضبط الشبكات المخالفة من دون استثناء أي منها بعد التأكد من عددها النهائي وبما يرفد الخزينة بموارد مالية ويعزز سيادة الدولة.
- إحالة تلك الشبكات إلى القضاء المختص.
- اتخاذ الخطوات الضرورية الآيلة إلى تأمين استمرارية الخدمة للمواطنين في ظل الظروف الراهنة بالتوازي مع تكليف أصحاب تلك الشبكات بالرسوم والمبالغ المالية. أما في حالة عدم استجابة أصحاب الشركات، فقد دعا الديوان إلى العودة إلى اقتراحاته التي تضمنها تقريره الخاص رقم 17/2021. أي خفض سعات الإنترنت التي تحصل عليها الشركات الخاصة بما يتناسب مع أعداد المشتركين وقيام الشركات بالتصريح عن الأعداد الحقيقية للمشتركين وإعطاء أوجيرو دوراً تشاركياً فاعلاً في عملية صيانة الشبكات المنشأة على غرار دورها في صيانة شبكات ومنشآت وزارة الاتصالات.
هيئة الاستشارات تسخر من وزير الاتّصالات
كالعادة لم يعجب القرار وزير الاتصالات. وعلى ما علمت “المفكرة القانونية”، فقد اعترض أمام رئاسة الحكومة على القرار، معتبراً أن من أصدره لا يعرف الملف. الوزير لم يكتف بذلك. وفي ما يمكن اعتباره تذاكياً على الهيئات الرقابية، عمد إلى طلب استشارة واحدة من كل من ديوان المحاسبة ومن هيئة الاستشارت والتشريع، بما يسمح له بالسير بالاستشارة التي تناسبه. يطلب الوزير إبداء الرأي بمسودة قرار “آلية التكليف بغرامة مالية على مزودي خدمة الإنترنت”.
هيئة الاستشارات فوجئت بطلب الاستشارة. وقالت في استشارتها الصادرة في 21 تشرين الأول 2024 إنها لا ترى جدوى في صدور آلية التكليف بغرامة مالية كونه من المفترض بوزير الاتصالات اتخاذ القرار إما بفرض الغرامة على مزود الخدمة المخالف سنداً لقرار التأجير المتعلق بهذه الخدمة وإما بإلغاء قرار التأجير. وذكرت أن هذه الصلاحية لا تزال مُتاحة لوزير الاتصالات، ليس منذ إصدار المرسوم رقم 9458 في العام 2022 وحسب، بل منذ تاريخ صدور المرسوم رقم 956 في 22/6/2017. إذ أن المرسوم يشير إلى أن قرار تأجير السعات الدولية الصادر عن وزارة الاتصالات يتضمّن قيمة الغرامات في حالة مخالفة المرسوم الذي يشير إلى أنه لا يحقّ لمزوّدي خدمة الإنترنت إعادة بيع السعات المستأجرة من الوزارة إلى أي طرف ثالث موزع للخدمات تحت طائلة دفع غرامة تحددها الوزارة في قرار تأجير الخطوط. كما ِأشار المرسوم إلى تعهد مزود الخدمة بتوزيع خدماته عبر شبكة مرخصة قانونا وتخضع لمعايير تقنية تضعها الوزارة تحت طائلة دفع غرامة أو إلغاء قرار السّعات. وعليه، أشارت الهيئة إلى أنه “ليس هنالك ما يحول، ومنذ 2017 دون أن تبادر وزارة الاتصالات إلى إلغاء قرار السعات أو إلى إلزام المخالف بدفع غرامة بقرار يصدر عنه وليس هنالك من حاجة بأيّ حال من الأحوال لآليّة تلزم المخالف بدفع غرامة. وأكثر من ذلك أشارت الهيئة إلى أن إصدار الآلية لفرض الغرامة يأتي في سياق لزوم ما لا يلزم ولم يكن يوماً وليس هو اليوم ولن يكون في أي مستقبل، مهما بعد أو قرب، شرطاً لفرض الغرامة على المخالفين.
بحسب تقرير ديوان المحاسبة في العام 2021 فإن أوجيرو كانت تملك نحو 60% من الحصة السوقية لمشتركي الانترنت الشرعي، فيما 112 شركة خاصة تملك 40%. لكن عندما يريد الوزير أن يعطي أوجيرو صلاحية الإشراف على صيانة 106 شبكات غير شرعية (التي كوّن ملفاتها)، ومع افتراض أن كل هذه الشركات تعاقدت معه، فهذا يعني أن حصة الهيئة من سوق الإنترنت غير الشرعي لن تزيد عن 10% (مع احتساب العدد الوسطي للشبكات غير المرخصة بألف شركة). وربطاً بالمادة 17 من المرسوم التي تسمح لشركات نقل المعلومات الاستثمار بشبكات الأحياء، فهذا يعني إمكانية سيطرتها على 90% من هذه الشبكات التي تملك الكلمة الفصل فيها كونها تزوّدها بالإنترنت وتملك كل داتا المشتركين لديها، فإن أوجيرو ستنخفض حصتها السوقية الاجمالية إلى 34% مقابل 65% للشركات الخاصة، التي ستكون لها الحصة السوقية الأكبر.