في العام 2018، نشرنا عددًا خاصًّا تحت عنوان: “القضاء العدلي، على أنقاض الاستقلالية”. وفي العام 2020، نشرنا عددًا خاصًّا آخر تحت عنوان: “القضاء الإداري: من يحمي الدولة ومن يدافع عنها؟”. وها نحن اليوم، ننشر ورقة بحثية مُكملة لهما، تتناول القضاء المالي الذي يُختزَل حاليًّا بـ “ديوان المحاسبة”، وهي تسمية مأخوذة من الحقبة العثمانية، ويمثّل القضاء الذي يتولّى الرقابة على الشؤون المالية في القطاع العام، فضلًا عن النظر في الجرائم المالية. وفيما تكثر تجارب المواطنين أمام القضاء العدلي الذي يُعنى بالقضايا المدنية والجزائية، فإنّ معرفتهم تبقى محدودة في ما يتّصل بالقضاء الإداري الذي يتولّى النظر في شرعية القرارات الصادرة عن السلطات والإدارات العامة ومسؤوليّاتها، وتكاد تنحصر في ما يتّصل بديوان المحاسبة، بتسميته وبعض قراراته القليلة التي قد تصل إلى الرأي العام.
وتمامًا مثل أعمالنا السابقة، لا يأتي هذا العمل كردّة فعل على إجراء قضائي في إطار قضيّة معيّنة، ولا هو مُرتبِط بظرف مُعيَّن (كما يحصل غالبًا عند التداول بالقضاء في الإعلام)، بل يضمّ خلاصة مراقبتنا في مجال تنظيم هذا القضاء التي نُقدّمها كأسباب مُوجِبة للإصلاحات التي نقترحها، كلّ ذلك ضمن خطّتنا لإصلاح قطاع العدالة في لبنان.
فما هو الجهاز الذي يتولّى إدارة شؤون ديوان المحاسبة ويضمن استقلالية قضاته وحسن سير العمل فيه؟ وهل هو مستقلّ إزاء السلطة السياسية، أو هو تطبيقٌ جديدٌ لنموذج مجلس القضاء الأعلى الذي يُعَدّ بمثابة ذراع لهذه السلطة داخل القضاء العدلي أكثر ممّا هو حامٍ للقضاة العدليّين في وجهها؟ وكيف يتمّ تعيين القاضي المالي وترقيته ونقله ومساءلته، إلخ؟ وما الضمانات التي تتوفّر له على طول مساره المهني؟ وأيّ مكانة للاعتبارات الطائفية والجندرية في مختلف هذه المسائل؟ وما هي التدابير التي تستخدمها السلطة السياسية لاستمالة القضاة أو استتباعِهم؟
وبما لا يقلّ أهمِّيّة عن ذلك، ما هي الصلاحيات القانونية والفعلية للديوان؟ وتحديدًا، أيّ الجهات تخضع لرقابته؟ وما طبيعة الرقابة التي يمارسها وما تجلّياتها؟ وما مدى ملاءمتها المعايير والمبادئ والإعلانات الصادرة عن المنظّمة الدولية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة (إنتوساي)؟ والأهمّ، ما سُبُل تفعيلها؟ هذا ما يقودنا إلى دراسة أصول المراقبة المُسبَقة أو تنظيم التقارير السنوية والخاصة، ومدى انتظامها. وبالطبع، يبقى أيّ سؤال بشأن فعالية الرقابة المنوطة بالديوان منقوصًا من دون التطرُّق إلى مسألة الشغور المُزمِنة ومُسبِّباته، وهي المسألة التي تحوّلت إلى ذريعة تشريعية استخدمها المجلس النيابي تكرارًا لتمرير موازنات عامة من دون قطع حساب، خلافًا للدستور، ومن دون أيّ مسعى جدِّي لمعالجتها.
وأخيرًا، ما الإجراءات المطلوبة لضمان شروط المحاكمة العادلة داخل الديوان الذي لا يزال يعمل وفق أصولٍ لم تشهد أيّ تطوير منذ عقود، ويبقى تاليًا بمنأى عن مُجمَل الإصلاحات التحديثية الحاصلة في الدول التي اعتمدت النظام القضائي الفرنسي؟
هذه هي نماذج عن بعض الأسئلة التي نطرحها ضمن المقالات المنشورة في هذه الورقة البحثية، وقد سعينا من خلالها إلى التركيز على الأسباب البنيوية لتخلخُل العمل القضائي بمعزل عن الأحداث المُتفرِّقة أو المُنعزِلة، وصولًا إلى سدّ نقص معرفي في هذا المجال. وعليه، تَمثَّلَ هدفنا الأوّل من هذا العدد في تمكين كلّ مُهتَمّ بالشأن القضائي من التعرُّف، عن كثب، إلى تفاصيل البيئة المهنية التي يعيش فيها القضاة الماليون، وكذلك المُراقِبون ومُدقِّقو الحسابات العاملون فيه، والأهمّ، التعرُّف إلى أبعادها وتأثيراتها على عمل الديوان برُمَّته. ففيما تشحّ الدراسات والأبحاث بشأن تنظيم القضاء عمومًا، فإنّها تكاد تضمحلّ في ما يتّصل بالقضاء المالي.
أمّا الهدف الثاني، والذي نأمل في تحقيقه أيضًا، فيتمثّل في نجاحنا في تحسيس الرأي العام حيال مخاطر بعض الممارسات المُعتمَدة في مجال تنظيم القضاء المالي، تمهيدًا لاستنهاض القوى والفئات الاجتماعية لجَبْهِها. فبمعزل عن ظروف أيّ قضيّة قضائية، ثمّة واقع خطير لا بدّ من أن نتوقّف عنده كما نتوقّف أمام “فزّاعة”، وهو سواد ثقافة التغوُّل على صلاحيات القضاء أو التدخُّل في أعماله. ومن نافل القول إنّ مُؤدّى هذه الممارسات في عمل القضاء المالي هو تحصين الإدارات العامة إزاء المُراقبة والمُساءلة القضائية، مع ما يستتبع ذلك من استغلال للسلطة وانتهاك للشرعية. وبالطبع، تصبح هذه الأسئلة أكثر إلحاحًا بالنسبة إلى الفئات أو القوى الأكثر تضرُّرًا من هذا الواقع، أو التي يُنتظَر منها، بفعل وظائفها، دورٌ أكبر في مجال القضاء. فأيّ دور للمُنظَّمات الحقوقية التي تكافح الفساد أو تدافع عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وتختبر يومًا بعد يوم محدودية عمل القضاء في ظلّ غياب الضمانات القضائية؟ وأيّ دور للجامعيّين في تطوير أبحاث علمية حول استقلال القضاء وشروط المحاكمة العادلة وأصول الرقابة، هم الذين غالبًا ما يدرّسون قرارات المحاكم بقطع النظر عن ظروف اتِّخاذها؟ ولا ننسى دور الإعلاميّين والأحزاب السياسية في تكوين رأي عام حول أبعاد ممارسات التدخُّل في القضاء ومخاطرها الجسيمة على الحرِّيات العامة ومشروع تشكُّل الدولة.
وإذ نقول ذلك، فنحن لا نتوهّم إطلاقًا حجم الصعوبات والعوائق التي قد تعترض أيّ مشروع إصلاحي (الأصحّ أيّ معركة إصلاحية)، وتحديدًا في المجال القضائي، وبخاصّة في ظلّ الظروف المعيشية الخانقة وما تفرزه من تداعيات إضافية، ولكنّنا ندرك، في الوقت نفسه، أنّ أهمِّية المسألة في تشكُّل دولة الغد تُحتِّم علينا خوض غمارها.
فهرس مقالات الورقة البحثية، لقراءة المقال إضغطوا على عنوانه:
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.