بتاريخ 4/6/2014، أصدرت هيئة محكمة النقض الفلسطينية في حكمها الصادر في الطعن رقم 56/2014 قرارا قضى بوجود شبهة عدم دستورية في نص المادة 16 فقرة 1 من قانون إصلاح الأحداث رقم 16 لسنة 1954، وإحالة الأمر للمحكمة العليا بصفتها الدستورية للفصل في المسألة الدستورية. وقد رأت محكمة النقض أنّ تضمين قانون اصلاح الأحداث عدم جواز الطعن بالنقض في أحكام محكمة الاستئناف المتصلة بقضايا الأطفال الجانحين باعتبارها أحكام قطعية، يمكن أن يشكل مخالفة دستورية لأحكام القانون الأساسي الفلسطيني المعدل لسنة 2003 باعتباره الوثيقة الدستورية النافذة.
وإذا كان من الثابت أنّ قيام محكمة النقض بإعمال الدفع الدستوري بطريق الإحالة في طعن مقدم لديها يعتبر حكما فريدا بحد ذاته، فإنّ ما احتواه الحكم من مضامين يشير إلى وجود فكر قضائي يستند في روحه إلى رغبة في تكريس دور القضاء في مواءمة التشريعات مع الاتفاقيات التي صادقت عليها فلسطين مؤخرا، ذلك أنّ هذا الحكم قد استند في حيثياته بشكل واضح وصريح إلى أحكام اتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989 التي صادقت عليها دولة فلسطين بتاريخ 2 إبريل من العام 2014، وكذلك استناده إلى نص المادة (10) من القانون الأساسي التي نصت على أنّ حقوق الانسان وحرياته الاساسية ملزمة وواجبة الاحترام، وتعمل السلطة الوطنية الفلسطينية دون إبطاء على الانضمام الى الاعلانات والمواثيق الاقليمية والدولية التي تحمي حقوق الانسان.
وتجدر الاشارة الى أن القانون الأساسي قد خلا من تحديد مرتبة الاتفاقيات الدولية بالنسبة للتشريع الوطني من حيث سموها، وسكت عن تحديد آليات إدماج أو مواءمة أحكام الاتفاقيات الدولية في التشريع الوطني وحتى آلية المصادقة على الاتفاقيات والاشتراطات الدستورية ذات العلاقة. وقد بات هذا الأمر يشكل معضلة قانونية لدى كثير من الباحثين والمشتغلين بالقانون تبعا لانضمام فلسطين إلى عشرات الاتفاقيات الدولية مؤخرا، وعليه، جاء حكم محكمة النقض المشار له في هذه الظروف ليملأ فراغا دستوريا ويضع فيما تضمنه نقاطا مضيئة في سياق تكريس وتعزيز دور القضاء في مواءمة التشريعات مع الاتفاقيات الدولية، وتحديد مدى إلزامية هذه الاتفاقيات للمشرع والقاضي الوطني، لاسيما تلك الاتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان كاتفاقية حقوق الطفل.
وعلى الرغم من عدم احتواء حكم محكمة النقض المذكور على ما يشير صراحة إلى تبينه رؤية واضحة للعلاقة بين التشريع الوطني والاتفاقية الدولية، وعلى الرغم من استخدام هيئة محكمة النقض الطعن الدستوري بطريق الإحالة كحديقة خلفية لتطبيق الاتفاقية الدولية، إلا أنه يمكن لنا أن نلحظ جملة من الإشارات التي توحي صراحة أو ضمنا إلى سمو الاتفاقية الدولية على التشريع الوطني، وهو ما يمكن إجماله في النقاط التالية:
1- الإشارة الصريحة إلى ما تضمنته ديباجة اتفاقية حقوق الطفل سنة 1989 والتي اعتمدتها الجمعية العامة بقرارها 44/25 المؤرخ في 20/10/1989 (ان الطفل بسبب عدم نضجه البدني والعقلي يحتاج الى اجراءات وقاية ورعاية خاصة بما في ذلك حماية قانونية مناسبة….).
2- الاستناد إلى نص المادة 1 من اتفاقية حقوق الطفل والتي نصت على ( وكل انسان لم يتجاوز الثامنة عشرة ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه).
3- الاستناد إلى ما نصت عليه المادة 40/3 من اتفاقية حقوق الطفل والتي جاء فيها (تسعى الدول الاطراف لتعزيز اقامة قوانين واجراءات وسلطات ومؤسسات منطبقة خصيصاً على الاطفال الذين يدعى أنهم انتهكوا قانون العقوبات أو يتهمون بذلك أو يثبت عليهم ذلك..).
4- التأكيد على ضرورة مراعاة المعايير الدولية لحقوق الطفل الواردة في الاتفاقية الدولية. وهذا ما تنبئ عنه إشارة المحكمة إلى “أن تحصين أحكام محكمة الاستئناف الصادرة بحق الأطفال من الطعن بالنقض يقوم على غير أساس بل يهدم حق الطفل بالرعاية والعناية الخاصة التي منحه اياها القانون الاساسي والمواثيق الاقليمية والدولية كما لا يعقل منطقاً وقانوناً ان تكون الاحكام الصادرة عن محكمة الاستئناف بحق، البالغين محلاً للطعن بالنقض في حين يحرم الطفل من هذا الحق. بل ان حق الطفل بالنقض هو اكثر لزوماً للطفل منه للبالغ وفي حرمانه من هذا الحق مخالفة لنصوص احكام القانون الاساسي وبذلك تغدو نصوص القانون المذكور مجرد لغو او مجموعة من المواعظ والارشادات والنصائح يمكن تنحيتها جانباً بنصوص ادنى منها درجة.”
لقد نصت المادة 4 من اتفاقية حقوق الطفل على أن “تتخذ الدول الأطراف كل التدابير التشريعية والإدارية وغيرها من التدابير الملائمة لإعمال الحقوق المعترف بها في هذه الاتفاقية. وفيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تتخذ الدول الأطراف هذه التدابير إلى أقصى حدود مواردها المتاحة، وحيثما يلزم، في إطار التعاون الدولي”.
وفي هذا السياق، رأت لجنة حقوق الطفل في التعليق العام رقم 5 (2003) أنه وعند التصديق على اتفاقية حقوق الطفل، تتخذ الدولة التزامات بموجب القانون الدولي لتنفيذها. والتنفيذ هو العملية التي تتخذ الدول الأطراف بموجبها إجراءات لإعمال جميع الحقوق المنصوص عليها في الاتفاقية لصالح الأطفال الخاضعين لولايتها القضائية، وتقضي المادة 4 بأن تتخذ الدول الأطراف “كل التدابير التشريعية والإدارية وغيرها من التدابير” لإعمال الحقوق الواردة فيها، وإذا كانت الدولة هي التي تتحمل التزامات بموجب الاتفاقية، فإن مهمة تنفيذها – أي جعل حقوق الإنسان للأطفال حقيقة واقعة – تتطلب مشاركة جميع قطاعات المجتمع، ومنها السلطة القضائية التي تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها.
وإعمالا لذلك، يبدو جليا أنّ حكم محكمة النقض الفلسطينية المشار له، قد نحا في اتجاه تأكيد قدرة القضاء على حماية حقوق الإنسان بالقدر الذي يستطيع القاضي من خلال أدواته في التطبيق القضائي أن يعمد إلى جعل الاتفاقية حقيقة واقعة في التطبيق العملي، نحو تكريس دور القضاء في حماية حقوق الإنسان.