عندما تلتقي بأي لبناني، من أي منطقة كان، ويريد أن يعرف عنك المزيد، يسألك “من أي قرية أو بلدة أنت”، إلّا أبناء الجنوب: “من أي بلد أنت؟” القرية أو البلدة، بالنسبة لهم، هي البلد، والبلد بالعام هو الوطن، سواء تمعنّوا في معنى المفردة وتقصّدوها، أم هي نتيجة توارث فطري قديم.
وفيما كنت أجمع قصص جنوبيين عمدوا إلى دفن موتاهم من شهداء العدوان الإسرائيلي، أو الموت الطبيعي، وهؤلاء قلّة، في مناطق غير مسقط رأسهم، تحت مسمّى “وديعة”، أعانتني مفردة “البلد”، في فهم هذا الإصرار الجنوبي العنيد والبديهي على إعادة جثامين أحبّتهم إلى أرض قريتهم الأم، وتُربتها. و”التُربة” مفردة أخرى قديمة، يتشاركها الجنوبيون مع قلّة من أهالي بعض المناطق الريفية، وتعني المقبرة، والأهم أنها مُشتقّة من التُراب، تراب قراهم، الذي يُعيدون موتاهم إلى أحضانه لتندثر جثامينهم فيه، وتذوب.
في المقبرة العامّة في قرية بحبّوش، قضاء الكورة، تقف صبيّة وقد فتحت راحتيها تقرأ سورة الفاتحة أمام قطعة أرض مستطيلة ثُبّت على جانبيها 23 حجرًا. هي القبر الجماعي، لشهداء مجزرة أيطو، قضاء زغرتا، وكلّ حجر هو شاهدة لشهيد/ شهيدة من دون اسم أو لافتة تعرّف عنهم. تقول الصبية بحزن إنّه “سيكون لهم أسماء وشاهدة يُحفر عليها تاريخا ميلادهم واستشهادهم، عندما يعودون إلى تُربة بلدهم، عيترون”.
تتنقل الصبية بين قبور أخرى تتوزّع على جنبات المقبرة، كضيف وصل للتو ويتعجّل الرحيل فيجلس عند عتبة الدار. تقرأ الفاتحة عند رأس كل قبر: “هودي كمان ودايع ماتوا بالنزوح”. لا نجد على القبور إلّا أسماء كُتبت على عجل. بعضها حُفر بعود خشب في طبقة باطون رقيقة صُبّت للحماية من الأمطار، فيما شكّ البعض مكان الشاهدة خشبة بعرض ضئيل وكتب عليها اسم فقيدته بقلم حبر رفيع، واستعمل آخرون قلمًا عريضًا وثّقوا بسواده اسم وديعتهم لتمييزها عن الأخريات. أُقفلت القبور على صناديق خشبية أو حديدية، وضعت فيها جثامين الشهداء، ضمانًا لنقلها لاحقًا والتزامًا بالآراء الفقهية بشأن هذه الممارسة. كان من السهل تمييز القبور المؤقتة عن أخرى مقيمة بنيت من رخام وخُطّت أسماء أصحابها بتقنية الليزر مع العبارات الدينية الشائعة وتاريخيّ الميلاد والرحيل. يبدو واضحًا أنّ كلّ ما يخصّ قبور الوديعة مؤجّل بانتظار عودتها إلى “بلدها”.
أعزّي الصبية بالموتى وأسألها “مين بيقربك من الشهدا؟”. تبتسم بخفر حزين وتجيب “أنا نازحة متلهم، وفي شهدا من أيطو ما بقي حدا من عيلهم، وفي موتى بشكل طبيعي كانوا نازحين بمناطق تانية ما في حدا من أهلهم قريب يزورهم، وأنا نازحة هون، بجي بزورهم، بيكفّي ماتوا مهجّرين، يمكن ونّس غربتهم”.
نعرف من إمام بلدة بحبّوش الشيخ حسين سليم أنّ المقبرة مخصّصة بالأساس لغير أبناء القرية، و”هم أبناؤها أيضًا، بعدما اختاروا الإقامة فيها”. سعى إلى إنشائها أفراد من عائلة الحاج حسين التي نزح بعض أبنائها منذ سنوات من الهرمل وجرودها للسكن في القرية طلبًا للعلم والعمل. وبما أنّ جبّانة بحبّوش هي وقف ذريّ، أي عائلي، حفرت قبور الوديعة في مقبرة الوافدين بانتظار أن تعيد كلّ عائلة فقيدها معها حين يعود الجنوبيون “ضيوفنا”، كما يسميهم الشيخ، إلى قراهم.
يتأثر الشيخ حسين سليم عندما يتحدث عن شهداء أيطو: “كان كتير صعب الموقف، الإجرام الإسرائيلي تسبّب بالكثير من الأشلاء”. انتظر أهالي بحبّوش 3 أيام، انتهاء فحوصات الحمض النووي (DNA) حتى تمكنوا من توضيب الجثامين وجمع الأشلاء لغسل ما أمكن غسله ومن ثمّ دفنهم “وفق الشرع”. وفي توابيت أيضًا ووري الآخرون من الموتى بشكل طبيعيّ في قبور الوديعة، للغاية نفسها. يقول الشيخ سليم إنّ بحبّوش عرضت دفنًا نهائيًا للشهداء والموتى من “أهلنا، ولكن لا يمكن أن تُقنع جنوبيًا بترك فقيده بعيدًا عن قريته، وخصوصًا من قضى خلال تهجيرهم في ظل العدوان الإسرائيلي”.
قبور الوديعة بـ “المئات”
بدأ مصطلح دفن الوديعة يتردّد بكثرة بعد تصاعد العدوان الإسرائيلي العنيف على لبنان منذ 23 أيلول 2024، وخصوصًا إثر كل مجزرة تستهدف نازحين في منطقة بعيدة عن الجنوب، وكذلك في استهدافه العدواني للضاحية الجنوبية وبيروت العاصمة. لبلدة عيترون، إضافة إلى 23 وديعة في بحبّوش، شهداء وديعة في الوردانية، بوابة الإقليم، وجثامين الشهداء فيها لا تقتصر على من قتلتهم إسرائيل في مجزرة “دار السلام” الذي فتحه القيّمون عليه لاستقبال النازحين، بل تحوّلت الوردانية إلى حاضنة معظم ودائع عيترون من مناطق مختلفة.
صيدا شرّعت بدورها مقابر لاستضافة عشرات الودائع، من بينها جثامين 21 شهيدًا وشهيدة استهدفتهم إسرائيل في عين الدلب، بعدما لجأوا إليها من بنت جبيل وقرى حدودية أخرى. وتتوزّع قبور الوديعة أيضًا في الغازية ودير الزهراني، وفي جويّا لمن يستشهدون في القرى القريبة منها، حيث استُحدثت مقبرة لهذا الغرض.
وفي قضاء جبيل أيضًا، يحتضن تراب المعيصرة شهداء وشهيدات مجزرتيها، وجُلّهم من النازحين إليها من حولا وياطر ومحيطهما. أما بيروت وضاحيتها الجنوبية خصوصًا، فقد شرّعت مقابرها في الغبيري والرادوف والأجنحة الخمسة (على الحد مع الشويفات) والشهيدين وروضة الحوراء وغيرها لعشرات الشهداء والشهيدات، ومن بينهم شهداء مجازر البسطة والنويري، ومن مات طبيعيًا، وهم قلّة. وفي تراب صور تنتظر جثامين كثيرة توقّف آلة الحرب الإسرائيلية للعودة إلى تُرَب قراهم.
ودفن الوديعة شاع بعد 23 أيلول الماضي، إذ كان أهل الجنوب قبل هذا التاريخ، وبعد التنسيق مع اليونيفيل، وفي إطار ما عُرف في حينه بـ “قواعد الاشتباك”، يتيح للجنوبيين تنظيم تشييع سريع “آمنِّ” إلى مسقط الرأس. ولطالما تحوّلت مواكب التشييع الكثيرة إلى بلدات الخط الحدودي الأوّل إلى مناسبة يتمكّن فيها الأهالي من تفقّد قراهم وبيوتهم، حيث يسري وقف مؤقت وقصير للنار بانتظار إتمام مراسم دفن سريع ومختصر. لكن إسرائيل خرقت هذه التفاهمات غير المباشرة أحيانًا، واستهدفت أطراف القرى المعنيّة أثناء التشييع ترهيبًا، وأحيانًا قلبها ومن يخرج من المشيّعين عن طريق مقبرة البلدة، كما حصل في ميس الجبل حيث قتلت 4 أفراد من عائلة واحدة، الأب وزوجته وولديه خلال محاولتهم الإفادة من وصولهم إلى قريتهم لإنقاذ ما يمكن من بضائع محلّهم المهددة بالتلف.
ودفن الوديعة ليس جديدًا على أهل القرى الجنوبية الحدودية إذ تمتد معاناتهم من الاعتداءات الإسرائيلية على 76 عامًا، هي تاريخ نكبة فلسطين في 1948. وما زال سكان بعض القرى والبلدات يتذكّرون إعادة البعض منهم جثامين موتاهم معهم حين عودتهم إثر تحرير العام 2000، وبعضهم كان قد مضى على وفاتهم سنوات طويلة مهجّرين.
ودفن الوديعة لا يكون دائمًا خيارًا بل يحصل أحيانًا بناء على وصية الميت نفسه. هنا يصبح تنفيذ الوصية واجبًا أخلاقيًّا ودينيًّا، ولا يتعلّق برغبة الأحياء فقط. وفي العدوان الإسرائيلي الحالي لم تعد الوصية بمكان الدفن تقتصر على كبار السن أو المرضى ممن يتوقّعون وفاتهم. عاد الموت في وعي الكبير والصغير، وفي ظل آلة إجرام إسرائيلي لا يميّز بين أطفال ومسنين، “أقرب إلينا من حبل الوريد”. كثُرت الوصايا عند الكبير والصغير “ادفنوني بالضيعة”. وصارت العودة إلى “البلد” ميتًا لا تقل أهميّة عن عودة الحيّ. أراد الموصّون أن يؤكّدوا حقّهم في استرجاع قراهم، حقّهم في “تُربها”، والآن هنا، في مواجهة هذا العدوان تحديدًا، كما يقول مختار مركبا هشام زراقط لـ “المفكرة”.
وزراقط نفسه أوصى بدفنه في مركبا “بلده”، قبل سنوات وليس اليوم. يقول رغم أنّه لم يتخطّ عقده الخامس بعد: “في أصغر منّي موصّايين، المسألة لا ترتبط بالعمر، بل حرصًا على اكتمال شرط الشعور بالراحة، ولا راحة حتى للميت، إلّا في بلده، وهذه حاجة للموتى كما للأحياء”. ولمركبا أكثر من 15 وديعة موزعة في قرى جنوبية وفي بيروت، تنتظر ساعة الصفر “سنعيدهم كما أعدنا من دفناهم وديعة خلال الاحتلال مع عودتنا عند تحرير العام 2000. بعض أبناء القرى الحدودية كان قد أوصى دفنه فيها، والبعض لا لأنّهم يدركون أنّ أبناءهم أو أهلهم وأقاربهم لا ينتظرون الوصية، صارت الوصية تحصيلًا حاصلًا لا يضطر البعض للنطق بها، إذ يعلم في قرارة نفسه أنّ دفنه بين أهله بديهي”.
كيف لا نعود ونعيد الشهداء والموتى؟
لم يفاجأ إمام بلدة عيترون الشيخ حسن عيّاد الذي أمّ الصلاة على شهداء بلدته في مجزرة أيطو من إصرار الناجين من عوائلهم على دفنهم وديعة: “مصريّن يرجّعوهم معهم، وهذا حقهم”. غالبية عائلات عيترون تريد إعادة الشهداء “لدينا أكثر من مئة شهيد وديعة، معظمهم قتلتهم إسرائيل”. يعرف الشيخ عمّا يتحدّث كونه يتنقّل باستمرار بين مناطق نزوح أبناء بلدته ليؤم الصلاة على أرواح الشهداء قبل مواراتهم الثرى. ويضيف على ذلك تجربته الشخصية حيث قضى 30 عامًا مُنع خلالها من العيش في عيترون ومن زيارتها “كان أخي أوّل شهيد يسقط دفاعًا عن عيترون في 1970، وعليه انتقموا منّا”.
بعودته بعد تحرير العام 2000 أدرك ماذا يعني أن تعود إلى “بلدك”، مستشهدًا ببيت شعر للمتنبّي: “خُلِقت ألوفًا ولو رجعت إلى الصبا لفارقتُ شيبي موجع القلب باكيا”. يقول إمام بلدة عيترون أنّ الإنسان يولد ألوفًا “الطفل بيخلق عم يبكي لأنّه ألِف رحم أمه وعم يتركه، ونحن نألف قرانا التي ولدنا فيها، وفيها كل ذكرياتنا وبيوتنا وأحبّتنا وقبور أهلنا وأجدادنا”.
أهمية مسقط الرأس وحضوره في الوجدان، وربطه بإعادة من دفنوا وديعة، يتجلّى أيضًا بشهادة حسين الغول، ابن بلدة ميس الجبل الحدودية. دفن حسين والده وديعة في بيروت بناء على وصيته: “بس حتى لو مش موصّي بدّي ردّه ع الضيعة ع مدفنّا العائلي الخاص ببيت الغول”. بالنسبة لحسين، ولد والده في ميس وعاش كلّ عمره فيها، وهذا يعني أنّه “يجب أن يرجع إلى ميس، وأول يوم بتخلص الحرب”. الدفن في الضيعة، بالنسبة لحسين يتيح “بقاء أبي بين أهله وعائلته وأبنائه، ويمكننا زيارة القبر باستمرار وقراءة الفاتحة، وغسله وتزيينه بالورود، وقبل شروق شمس صباح الأعياد نزوره، ويبقى ذكره بين ناسه حيًا”. ويرى حسين أنّ إكرام الميت يكون أيضًا في عدم إبقائه بعيدًا: “بحس مش مرتاح بقبر الوديعة وناطر يرجع”. والأهم أنّه إذا بقي في بيروت “بحسّ بذنب كبير، ليس لأنّه أوصاني، بحسّ إنّي نسيته وتركته غريب، خصوصًا إني دايمًا بحلم فيه عم يبكي لأنّه مش بميس”. والأهم أنّ حسين لا يريد لأبيه أن يبقى في بيروت “بحسّ كأنه نازح بالقبر، ونحن بدنا نرجع، ما رح نضل نازحين، وهو بدو يرجع ع أرضه، وهذا حقه” وبسبب الحرب، لم يتمكّن حسين من إقامة عزاء يليق بوالده “بس تلقينا التعازي ع التلفونات”. ولذا “سيكون له عزاء يليق به عند عودتنا، وهو معنا، إلى ميس”.
عندما سألت ملاك، ابنة عيترون التي شاركت عائلتها دفن شهدائها وديعة عن سبب اتخاذ قرار كهذا، استنكرت السؤال لتجيب بسيل من الأسئلة: “كيف ليش دفناهم وديعة؟ شو كنّا بدنا نعمل فيهن؟ نتركهم غربا بمكان بعيد؟ مين بدّه يزورهم؟ ومين بيقرا لهم الفاتحة؟ كيف بدنا نرجع وهن يضلوا نازحين؟ يعني ما بيرجعوا معنا؟”. تلتقط ملاك أنفاسها المنفعلة لثوان قبل أن تختم “لازم يستردوا بلدنا معنا”.
من سبب استنفار ملاك عند سؤالها عن دفن الوديعة، يبدأ مختار رب ثلاثين محمد حمود كلامه عن قبور الوديعة لنحو 12 شهيدًا وميتًا: “دفن الوديعة يرتبط بموقع البلد في وجدان الجنوبي الذي طالما سعت إسرائيل لاقتلاعه من أرضه، هو على الأرجح ردّ فعل دفع بالناس إلى التشبّث بأرضهم أحياءً وأمواتًا، وبحتميّة العودة إليها”.
ويُكسب المختار علاقة أهالي رُب ثلاثين ببلدتهم بعدًا آخر يتعلّق بتقصّد إسرائيل تدميرها أكثر من مرّة، هي التي تقع بمواجهة موقع الاحتلال الإسرائيلي في مسكاف عام، بمسافة لا تزيد عن كلم: “دمّرتها بـ 1977 كلّها، وعمّرناها على دفعات. في اجتياح 1982 حوّلتها إسرائيل ركامًا ورجّعناها أحلى مما كانت. وعندما بقيت مُحتلّة ضمن ما سمّي بالشريط الحدودي بنى من بقيوا فيها تحت الاحتلال بيوتهم”. ومع عودة الجميع بعد التحرير “قفز عدد وحداتها السكنية من 110 إلى 300 وحدة في وقت قصير”، بحسب المختار. هذه الوحدات دُمّر ثلاثة أرباعها في عدوان 2006 “ورجعنا عمرناها.. واليوم رح نرجع نعمرها”. وخلال الاحتلال، وعند كلّ تهجير قسري، كان أهل رُب ثلاثين يصرّون على دفن موتاهم فيها: “كنا نبعتهم بسيارة إسعاف، وكان أقاربنا أو جيراننا، ممّن تمكنّوا من البقاء في القرى تحت الاحتلال، يتوكّلون بدفنهم”.
ولبلدة حولا الحدودية أيضًا أكثر من ثلاثين وديعة: “بس نرجع ع البلد رح نرجّعهم معنا”، يقول مختار البلدة عماد قطيش لـ المفكرة”. يعزّ على قطيش “وع أهالي الشهداء معي، أننا لم نتمكن في هذه الظروف من القيام بواجباتنا مع الشهداء والموتى، بس انشالله بس نرجع رح نعملهم العزاوات اللائقة كما اعتدنا ووفق عاداتنا، ورح نواسي عائلاتهم لأنّه المواساة دين”. يتحدّث قطيش عن مغتربي حولا وارتباطهم بأرضهم “عنا نحو 300 مغترب بألمانيا لوحدها، وبس يموتوا بيرجعوا، فكيف الموجود بالبلد؟”. وفي محاولته شرح أبعاد علاقة أهالي حولا بـ “بلدهم”، يقول إنّ بعض من اضطرّته ظروف العمل والعلم الابتعاد عنها، يعود في كل مناسبة لزيارة قبور أقاربه “قبر الأحباب كمان سبب رئيسي للرجعة ع البلد”.
من بين أكثر من 23 قبر وديعة لأبناء ميس الجبل الحدودية، هناك فقط 4 أو 5 حالات موت طبيعي “والباقي شهداء” وفق مختارها عبد الحسين زراقط. يروي المختار قصة ابن عمّته مع دفن ابنه ليشرح ما يسمّيه “حساسية أهل الجنوب” تجاه دفن موتاهم في بلدتهم: “استشهد ابن ابن عمتي في 1985 خلال مقاومته الاحتلال، واضطرّ والده لدفنه خارج ميس دفنًا نهائيًا وليس وديعة في تابوت يمكّنه لاحقًا من نقلة إلى بلدته”. يقول المختار أنّ ابن عمّته قضى 39 عامًا بعد استشهاد ابنه وهو يبكي لأنّه لم يعِده ليدفنه في ميس بعد تحرير 2000: “حتى أنّه حفر له قبرًا فارغًا في مقبرة العائلة وكتب اسمه عليه وصار يزوره دايمًا”. توفّي الرجل (ابن عمة المختار) قبل ثلاثة أشهر من اليوم وتمّ دفنه، وفقًا لوصيته، في القبر الذي حفره لابنه الشهيد “دفنّاه بنفس القبر، وحطينا اسمه ع نفس الشاهدة لكتب اسم ابنه عليها، وصار قبرهم تنيناتهم”. هنا يُبرز المختار حاجة الأحياء لدفن ذويهم بالقرب منهم “هيدي مسألة تُعتبر من المسلّمات وتكاد تصل اجتماعيًا إلى المحرّمات، والناس لو ما حكيت بوج الشخص المعني، بتلوم لي بيترك أهله مدفونين برا ضيعتهم”.
الوديعة في علم النفس
يلحظ في علم النفس أبعاد هذا المنحى في دفن الوديعة، رغم وضوح البعد النفسي والروحي في شهادات أهل الجنوب، من دون أن يلبسوه عباءة العلم وتحليله. ويعزو الاختصاصي في علم النفس د. ألبير مخيبر الأمر إلى “العلاقة الخاصة جدًا بين البشر والموت، وبخاصّة مع دخول الدين إلى حياة الناس، ومعه التفكير بمصير الميت بعد الرحيل، تعززت طقوس الموت، سواء آمنّا بها أم لا، ومعها تأمين راحة الموتى واعتقاد البعض أنّ من لا يُدفن تبقى روحه على الأرض، ولا تتقمّص، لمن يؤمنون بالتقمص، أو أنّها لن تذهب إلى الجنة أو إلى أي مصير آخر يقول به الدين الذي ينتمي له المعنيون بالموت”. من هنا أصبح دفن الميت مسؤولية كبيرة على الأحياء، وأضحى مدى الاهتمام بالجثمان هو معيار التقصير تجاه أرواح الموتى، من عدمه. وهنا يمكن تفسير إصرار العائلات على إعادة موتاهم.
واللافت للنظر، وفق د. مخيبر، أنّ هذه المسلّمات تتفشى بين الجميع من مؤمنين وملحدين “الجميع عامّة أسير بيئته وطقوسها ويحرص عليها”. وتلاقي الأحياء بعد الموت، سواء للصلاة أو للمواساة أو لقراءة الشعر وسماع الموسيقى وحتى الأغاني، كلّ حسب عاداته وإيمانه، كما يرى د. مخيبر، “مهمّ للصحّة النفسية لمن فقدوا عزيزًا”. ولذا، “تحفر العزَاوات المؤجّلة وطقوسها حزنًا عميقًا في نفوس أهالي الشهداء والموتى في ظل العدوان اليوم، وتخلق عنفًا نفسيًا قويًا عندما يَحول ما يحدث بينهم وبين عاداتهم المتّبعة منذ آلاف السنين. فكيف إذا كان العدوان نفسه هو الذي قتل أحبابهم؟ ولذا يقيمون عند العودة عزاوتهم المؤجلة”.
وبعد الموت، يتوقف د. مخيبر عند ولادة حاجة الأحياء للتقرّب من الميت: “الأحياء بدهم يقدروا يزوروه ويتحدثوا معه ليرتاحوا، وهو يتاح في قراهم. أما الذين يوصون بدفنهم في قراهم فبدهم يكونوا بضيعتهم وحدّ أقاربهم وجذورهم، وهي مسألة عاطفية روحية”.
ويشير د. مخيبر إلى “إدراك من يدفنون موتاهم في الأرض بأنّ الجثة تتحلّل في التربة وتعود إلى الطبيعة لتخلق شيئًا جديدًا، وهنا يصبح لإعادة الخلق في مسقط الرأس، في الأرض التي ينتمي إليها الميت، بعدًا أعمق ويكتسب معنى إضافيًا للتشبّث بها، الأرض نفسها التي هجّره العدوان منها، فتصبح عودة الموتى، كما الأحياء، فعل مقاومة”.
دفن الوديعة في علم الاجتماع
هذه الثقافة الاجتماعية الجامعة حول علاقة الدفن في مسقط الرأس، تعيدها الاختصاصية في الأنثروبولوجيا د.ة فاديا عازار إلى سؤال يتمحور حول كيف يواجه الإنسان في منطقتنا الموت؟ لتجيب، وبناء على مخرجات أطروحتها حول “طقوس الموت”: “في طقوس الموت، التي تتوالى على ثلاث مراحل: الدخول في طقس الموت، وطقس العزلة وطقس الخروج من العزلة، وهي طقوس بدأت قبل آلاف السنوات، ولا ترتبط بالأديان فقط، إذ أنّها دخلت عليها لاحقًا. في ما يتعلّق بدفن الوديعة، يعنينا الشق المتعلّق بالدخول بطقس الموت الذي يمر بثلاث محطات هي غسل الميت، الصلاة عليه، ومن ثم دفنه ووضعه في قبر، أي عمليًا التخلص من الجثة التي سرعان ما تتحوّل إلى خطر على الأحياء بعد تحلّلها. بعد دخول الأديان أُلبس دفن الأموات صفة “الواجب الديني” في كلّ الديانات، ويعتبر الإسلام، الذي ينتمي له الذين يدفنون شهداءهم اليوم وموتاهم في ظل العدوان الإسرائيلي “إكرام الميت دفنه”، وعلى عجل. وفي ظل الحرب الإسرائيلية الإجرامية اليوم، لا يمكن التحكّم باختيار المكان، “فيكون دفن الوديعة في إطار المتاح، أي المتوفّر، وليس بناء على رغبة الميت وعائلته ومعهم المجتمع الذي يشارك في طقوس الموت”.
واقع النزوح والتهجير، يمنع على من فقدوا أحبّتهم خلاله ما تسميه د.ة عازار “إقامة الطقس الاحتفالي الذي يرافق دفن الأحبة وعزاءهم، مما يقضي على السلوكيات الاجتماعية النفسية التي تستكمل إكرام الميت عبر دفنه، ومنها حرّية التحكّم باختيار مكان الدفن، ومشاركة العزاء مع الأقارب وأهل القرية والمجتمع المحيط ببيئة الميت، وعيش الحداد. ولذا تكون الوديعة فعل الممكن بانتظار الطقس الاحتفالي الذي منعته الحرب لظروف قاهرة”.حصل في الماضي في الحرب، وفق د.ة عازار، أن أُخرجت ودائع شهداء بعد 15 عامًا على استشهادهم، ونظم ذووهم لهم عزاءً كما يريدونه لائقًا وأعادوا دفنهم.
ومع تعذّر الوصول إلى القرى الجنوبية اليوم، يطيح العدوان بـ السلوكيات البديهية لأهالي هذه القرى الذين يدركون بالفطرة، ومن دون عودتهم إلى علم الاجتماع، أنّ “المكان، وهو بلداتهم اليوم، ليس فقط للأحياء وإنّما للأموات أيضًا، وفي ذلك تكريس لوجود مجتمعين: مجتمع الأموات ومجتمع الأحياء، وهما عمادا المجتمع المتكامل في مسقط الرأس”، وفق د. عازار. وتؤكد أنّه “من حق الأموات أن يعودوا ويُدفنوا في الأرض التي يملكون جزءًا منها وساهموا في إحيائها وازدهارها، ومن حق الأحياء أن يتاح لهم زيارتهم وتذكّرهم بتكريس استمرارية وجودهم عبر قبورهم في بلدتهم، وأن يهتموا بهذه القبور كرمز لاستعادة موتاهم للحياة رمزيًا”. وتمهّد هذه الاستعادة لاستكمال ما ترمي إليه عادات إحياء الأسماء في العائلات وتربطها بها حيث من المهم أن يرى الطفل، الذي يُسمى على اسم جده، قبر الأخير الذي حمل اسمه، ويزوره ويهتم به أيضًا.
وتعتبر د.ة عازار أنّه صحيح أنّ وصية الميت تؤدّي دورها في دفن الوديعة اليوم “ولكن العادات ومعها السلوكيات المجتمعية المتبعة والمتجذّرة في إعادة الموتى إلى قراهم لا تحتاج إلى وصية عند غالبية الناس، وخصوصًا عند الجنوبيين اليوم. إذ “أضحت إعادة الموتى إلى تُرب القرى، مسقط الرأس فعل مقاومة أيضًا وتأكيدًا على التشبّث بالأرض والحق فيها، وخصوصًا مع تهديم القرى وجرف المقابر والتنكيل بها، والتأكيد على أنّ المقابر وإعادة بنائها والاهتمام فيها واحتضانها لجميع أهلها لا تقلّ أهمية عن إعادة بناء القرى والبيوت”.
دفن الوديعة في الحكم الشرعي الفقهي
يبيّن التمعن في مدى جواز دفن الوديعة وشروط جوازها والوقوف على آراء المراجع الشيعية الأساسية التي يقلدها غالبية الشيعة، دقة التفاصيل في تأمين الشروط الدقيقة التي تجعل دفن الوديعة غير مخالف للشرع الفقهي الشيعي، ويطرح أسئلة حول إمكانية توفيرها فعليًا. ويُراوح الإقبال على دفن الوديعة بين الأبعاد الروحية والعاطفية والسلوكيات الاجتماعية المتجذّرة عند الناس، والجواز الديني الذي يبدو أنّ الثقافة الاجتماعية المتفشية تطغى عليه أحيانًا، أو على الأقل لا تتقيد بكامل شروطه خصوصًا في ظل التباين في الفتاوى المرتبطة بدفن الوديعة.
ويقلّد غالبية الشيعة في لبنان ثلاثة مراجع دينية في ما يسمّى الحكم الشرعي الفقهي، وهي اجتهادات المرجع الديني وفتاويه. والمراجع الشيعية الأساسية هي مكتب الراحل المرجع السيد محمد حسين فضل الله في لبنان، ومكتب المرجع السيد علي السيستاني في النجف ومكتب المرجع السيد علي خامنئي في إيران.
ينطلق السيّد جعفر محمد حسين فضل الله في موضوع دفن الوديعة من قاعدة دينية أساسية “وهي الأهم، وتقول إنّ إكرام الميت دفنه عاجلًا بلا انتظار بشكل يحفظ الجثمان فلا يُترك لوقت يتحوّل فيه إلى الضرر والتلاشي والتلف، شرط التأكّد من واقعة الموت”. وظروف الموت هنا، بحسب السيّد جعفر، ووفق الجغرافيا “لا تتيح دائمًا لأولياء الميت دفنه حيث يرغبون”. ويشير إلى “عدم وجود ما يتعلّق بدفن الوديعة في النصوص الشرعية التي تتحدّث عن الدفن فقط، أمّا في النصوص والقواعد الفقهية نتحدث عن حرمة نبش القبور باعتبار أنّها تؤدي إلى هتك حرمة الميت لأنّ الجسد يبدأ بالتحلّل”. ومع اضطرار البعض إلى دفن الوديعة لجأ العقل الفقهي، وفق السيد جعفر، إلى “إيجاد وسيلة تُمكّننا من تحقيق الأمرين من دون مخالفة الشرع، وتخوّلنا نقل الجثمان من دون هتك حرمة الميت وهي الدفن في تابوت مقفل، وبالتالي يُنقل التابوت شرط تحقيق الشروط الشرعية لموجبات الدفن حيث لا يُفتح التابوت وإنّما ينقل إلى قبر آخر، ولكن شرط تحقُق الشروط المطلوبة لدفن الجسد وفق الشرع دائمًا”.
وعما إذا كان مكتب فتاوى الراحل المرجع السيد محمد حسين فضل الله يجيز دفن الوديعة، يقول السيد جعفر إنّ الراحل المرجع السيّد محمد حسين فضل الله “تحدّث عن جواز دفن الوديعة في حال وجود وصية للمتوفّي بدفنه في مكان معيّن، وطرأت ظروف مستجدّة منعت تنفيذها، عندها يُدفن وديعة كون الأولوية هنا تعطى للوصية. كون الوصية في الشرع هي بحد ذاتها واجب شرعي على الناس واجب تنفيذها، ومن بدّلها بعد سماعها فإثمه عليه”. من هنا، يضيف السيّد جعفر “نحن نبدّي الوصية في الشرع وهي الحرمة الأعلى كواجب شرعي، ونقبل الوديعة من خارج الوصية ونُجيزها في حال كان هناك صعوبات تواجه أهل المتوفي، ومنها اضطرارهم لشراء الأرض التي يدفنون فيها فقيدهم، أو عدم رضا أهل المنطقة التي دُفنت فيها الوديعة لأنّه لا يجوز دفن الميت في مكان مغصوب”.
هذا وقد أجاز السيّد فضل الله فتح القبر إذا كان ذلك لمصلحة الميت، أو لنقله إلى المكان الذي أذن فيه ولي الميت.
من جهته، يعتبر الشيخ علي الحكيم، من مكتب المرجع السيد علي السيستاني أنّه “لا يوجد شيء اسمه وديعة”، لا بل يعتبر ما يحصل في هذا الشأن “ثقافة اجتماعية خاطئة”، وعليه “هناك دفن وفق الشرع، ودفن فقط”. ويقول الشيخ الحكيم، أنه “لا يجوز في الفقه الشيعي نقل جثمان المتوفى إذا لم يحصل إلى مكان أفضل، أي إلى العتبات المقدسة أو إلى وادي السلام (النجف) والمدينة ومكة وسامراء، وليس النقل إلى أي مكان عادي، فهذا غير موجود في الشرع”. ويعتبر أن دفن الوديعة فقط للنقل إلى مسقط الرأس “موجود في العقل الجمعي الشيعي، وهو غير صحيح، يعني ما في شي اسمه نودع الجثمان في مكان ما”. ولكن يحصل أحيانًا، وفق الشيخ الحكيم، “أن يكون الدفن في مكان لا يمكن الدفن فيه، مثلا في مقبرة خاصة بعائلة أخرى غير عائلة المتوفي، وقد لا ترغب العائلة صاحبة المقبرة بدفنه فيها بشكل دائم، فيُنقل مجرد أن تسمح الظروف بنقله إلى المكان الذي يمكن دفنه فيه”.
ويؤكد الشيخ الحكيم “أنه يجوز نقل الميت فقط في حال اضطر ذوو المتوفى إلى دفنه في أرض لا تنتمي إلى بيئته الدينية، أو في مكان غير لائق أو في مكان يهتك الجثمان أو من دون تكفين، أو في حال عدم رضا أصحاب الأرض إذا كانت ملكًا خاصًا، وهذا ما يوافق رأي المرجعية السيد السيستاني”. وبالنسبة لوجود وصية المتوفى بدفنه في مكان معين يتعذر الوصول إليه عند وفاته، يؤكد الشيخ حكيم “يجب دفنها في المكان الممكن فورًا، وبعد ذلك تنقل إذا أمكن النقل، ولكن ليس تحت عنوان وديعة وشرط عدم هتك حرمة الميت وهنا يوجد شروط دقيقة يجب التقيد بها”. ويصرّ الشيخ الحكيم على التأكيد أنّه “لا يوجد دفن مؤقت وإنما دفن وانتهى”.
من جهته، يرى مكتب المرجع الشيعي السيد علي خامنئي الأمر بصورة مختلفة. إذ يشير الشيخ أسد قصير من مكتب السيد خامنئي إلى وجود مبنيين بالنسبة لموضوع دفن الوديعة. يتلخص الأول بعدم جواز نبش القبور على أساس أنّ للمؤمن حرمة، ولا يجوز هتك حرمته. بناء على هذا المبنى لا مانع من نبش القبر إذا لم يكن هناك هتك لحرمة الميت. وهناك من يدفن وديعة لنقلها إلى الأماكن المقدسة، وهذه إحدى الروايات. وفي المبنى الثاني الذي بتبناه السيد المرجع خامنئي، يقول الشيخ قصير “بما أنّه ليس لدينا حرمة نبش القبر وإنما حرمة هتك الميت، وبالتالي لا مانع من أن يكون هناك إيداع للميت بطريقة تسمح إذا نبش القبر بعد الدفن أنّ لا يتم هتك الميت وحرمته. وعليه يكون إيداعه في صندوق من خشب أو حديد أو بلاستيك قوي مثلا، ولفّه بحيث إذا نُبش القبر في زمن ما لا يتم هتك حرمة الميت، وهذه النقطة الأساسية”. وبالتالي، يؤكد الشيخ قصير أنّ “الوديعة بالأصل جائزة ولا مانع منها شرط عدم هتك حرمة الميت”، موضحًا “أن الوديعة عند السيد المرجع خامنئي ليست قضية استثنائية واردة تحتاج إلى دليل تخصيصي أو ثانوي، بل على العكس هي بالأصل جائزة إلا إذا كان فيها هتك لحرمة الميت”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.