بعد الغارات الإسرائيلية، حين يهرع الأقارب إلى مكان وقوعها للمساعدة في البحث عن ناجين، يكون دليلهم في ذلك أغراض يعرفون مكانها في البيوت المستهدفة. دفتران مدرسيّان جديدان كانا دليل الباحثين عن أفراد من عائلة حلّوم في أنقاض المبنى الذي استهدفته إسرائيل في منطقة القائم في 20 أيلول الماضي. ومن خلالهما عثر على جثامين حسنة حلّوم (46 عامًا) وأبنائها الثلاثة: أحمد حلّوم (15 عامًا) والتوأم نايا ومحمد (7 أعوام). كان الدفتران لنايا ومحمد وقد كتب اسماهما عليهما.
دفترا محمد ونايا
“هل ساعدت خالتي، نايا ومحمد في كتابة اسميهما على دفتريهما الجديدين قبل الغارة؟ هل كانت تعدّ معهما أغراضهما لبدء العام الدراسي؟” يسأل علي مهدي ابن شقيقة حسنة وهي مدرّسة لغة عربيّة في مدرسة صبحي الصالح المتوسّطة الرسميّة في بيروت. ليضيف: “كيف لا؟ ودفترا مايا ومحمد كانا دليلنا إلى العائلة تحت الأنقاض”.
الكتب والدفاتر المدرسية لنايا ومحمد
“كان ذلك يوم الثلاثاء 24 أيلول، وكانت الساعة تقترب من الرابعة والنصف صباحًا أي بعد 4 أيّام من استهداف المبنى حيث يسكنون، وكانت أجسادهم لا تزال تحت الأنقاض وأعمال البحث مستمرّة”، يقول مهدي. ويضيف: “كنّا نعرف أنّ حظوظهم بالنجاة باتت ضئيلة ولكنّنا كنا نريد أن يكون لهم قبر نزوره كي لا يكون مصيرهم كمصير جدّي والد حسنة الذي فقد في الحرب الأهليّة”.
حسنة حلّوم
يروي مهدي تفاصيل ذلك اليوم، يوم انتشال جثامين حسنة وأحمد ونايا ومحمد “رأيت دفترين، واحد دوّن عليه اسم نايا والآخر اسم محمد، عرفت أنّنا اقتربنا، بعدها ظهر ألبوم صور عرس خالتي، عرفت أنّنا نقف فوق غرفة الجلوس، الألبوم موجود في غرفة الجلوس، فأنا أعرف بيت خالتي بلاطة بلاطة”.
لم تكن ظروف الإغاثة طبيعيّة، فقد تزامنت مع توسّع العدوان جنوبًا وبقاعًا وفي الضاحية الجنوبيّة، وبقيت حسنة وأحمد ومحمد ونايا 3 أيّام في عداد المفقودين. كما لم يكن من السهل رفع الأنقاض لأنّ إسرائيل استهدفت المبنى المؤلّف من سبع طبقات بأربعة صواريخ ودمّرته بالكامل بمن فيه. “دمّرت إسرائيل المبنى كاملًا على رؤوس قاطنيه المدنيّين، فحتّى من استهدفتهم من قادة حزب الله كانوا في مرآب تحت الأرض بين المبنى ومبنى آخر قبالته، ولم يكونوا في مرآب المبنى المستهدف” يُردّد سكّان من الحي التقيناهم، وهو ما نقلته أيضًا وسائل إعلام.
تقول إحدى ساكنات المبنى المقابل للمبنى المستهدف واللذين يفصل بينهما المرآب المستهدف “سمعنا 8 أصوات، أظنّ أيضًا أنّ صاروخًا ضُرب خلف المبنى حيث أسكن، كان القصد منع أي أحد من الخروج، خرجنا حفاة، والنيران والغبار تحاصرننا”، مضيفة “إذا نحن سكّان المبنى المجاور سمعنا كلّ هذه الأصوات، لا أريد أن أتخيّل ما سمعته حسنة وأولادها” تُضيف.
أحمد حلوم (١٥ عامًا)
وُجدت حسنة ومحمد ونايا وأحمد بجانب بعضهم البعض “كانوا معًا في غرفة الجلوس، كانوا آمنين، أستطيع أن أشعر بالدفء الذي كان بينهم، فهذا ما عوّدتنا عليه خالتي، إسرائيل لم ترد لهذه العائلة البقاء، إسرائيل قتلتهم مرّة واحدة في بيتهم آمنين” يقول مهدي.
يتحدّث مهدي عن البيت، عن جدرانه التي كانت شاهدة على ضحكات نايا ومحمد وأحمد، “نايا كانت عند خالتي الأخرى خارج منزلها قبل يومين من الغارة، عادت إليه لأنّ العائلة اشتاقت إليها، اليوم نايا ذهبت” يقول ويكمل ليخبرنا عن زوّار هذا البيت المفتوح للجميع، عن جمعات العائلة الكبيرة داخله، عن تفاصيل حياة كان من المفترض أن تستكمل مسيرتها، عن صفوف الكاراتيه التي تنتظر نايا ومحمد وعن رفاق أحمد في “كشّاف لبنان” وعن الأب بسّام حلّوم والأخوات كارين وميريام وليال حلّوم الذين ودّعوا نصف أفراد عائلتهم في يوم واحد. عائلة لن تعود كما كانت.
“غدًا ستنتهي الحرب وسيصبح كلّ تفصيل أكثر إيلامًا علينا، الحياة لن تعود كما كانت، لن نرى محمد ومايا وأحمد يكبرون كما تمنّينا، لن أذهب إلى بيت خالتي حيث كنت أرتاح، كان بيتها بيتي، واليوم ذهب البيت وخالتي، ذهب أحمد ومحمد ونايا” يقول مهدي بغصّة.
مدرسة صبحي الصالح نعت حسنة ووصفتها بـ “المربية الفاضلة” أمّا جيرانها في الحيّ فقد وصفوها بـالمحبّة المنفتحة على الجميع “كان بيتها بيتنا، مفتوح للجميع، تسأل عن الكبير والصغير، وابتسامتها دائمًا حاضرة، عصاميّة ربّت أولادها على حبّ الوطن وتقبّل الآخر، محزن ومؤلم أن تفارقنا مع أبنائها الثلاثة” تقول ندى الجوني جارتها في الحي. وتضيف: “يوم استهداف المبنى حيث تسكن ومع انتشار صورها مع أبنائها كمفقودين كانت تصلني عشرات الاتصالات يوميًا تسأل عن حسنة اللطيفة، عن نايا ومحمد وأحمد، عن العائلة التي فارقنا نصف أفرادها اليوم، مؤلم أن تستشهد هي وأبناؤها”.
في عالم آخر سيُكمل أحمد ما يُحبّ، سينصُب خيمته كما أوصاه زملاؤه في كشّاف لبنان بمدرسة الفرير – فرن الشبّاك “لا تنسى أن تنصب خيمتك في مخيّم السماء حيث الراحة والسعادة الأبديّتين” قالوا له مطمئنين إيّاه بأنّه “ترك العالم أفضل قليلًا ممّا كان عليه” كما تقول زميلة أحمد معلّقة على منشور ودّعه من خلاله الكشّاف، وبأنّ روحه باقية لأنّ “حماسته للحياة وإخلاصه كانا معديَين” كما يقول زميل آخر.
رفاق نايا ومحمد سيفتفدونهما أيضًا، سيفتقدون هذا التوأم المبتسم، الطفلان المتعانقين دائمًا في كل صورهما، مرّة في صفّ الكاراتيه ومرّة في في نزهة كانا يخطّطان ربما لمثلها بعد انتهاء الحرب.
التوأم نايا ومحمد حلّوم (٧ أعوام)
يوم السابع والعشرين من أيلول الماضي ووريت حسنة وأطفالها الثرى في جبّانة البساتنة في منطقة الغبيري، لأنّ بنت جبيل مسقط رأس حسنة والعين البقاعيّة مسقط رأس أطفالها، كانتا تتعرّضان للغارات بعد توسّع العدوان الإسرائيلي في 23 أيلول الماضي، أمّا التعازي فكانت عبر الهاتف “نظرًا للظروف الراهنة” كما ذُيّلت ورقة النعوة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.