أجرى المقابلة ميريام مهنا وسامر غمرون
تظهر كارثة النفايات اليوم كنتيجة منطقية لسياسات منهجية اتبعتها الحكومات المتعاقبة منذ منتصف التسعينيات. فالقول بأن الفوضى والإهمال هما العاملان اللذان أديا إلى إغراق البلد بالنفايات أمر مرفوض. إنها فلسفة حكم واضحة المعالم والأهداف حولت النفايات من مسألة يمكن معالجتها بأساليب منتجة، إلى بعبع خطير يرعب الناس ويتوجب عليهم التخلص منه بأيّ ثمن ووسيلة (أي بالثمن والوسيلة اللذين يناسبان مصالح الزعيم المالية).عشرون سنة من الحرب السياسية والفكرية شنّها رجال السلطة في لبنان على مجمل الحلول البيئية المستدامة والبديلة التي اقترحها العديد من الخبراء، لتغليب حلّين هما الطمر والحرق. وبالإضافة إلى تكلفتهما المرتفعة على صعيدي البيئة والصحة العامة، رتّب هذان الحلّان خلافاً للقانون أثماناً باهظةً على كاهل اللبنانيّين، لصالح شركات خاصة مملوكة أو مقربة من الزعماء. إنه “الحكم عبر الابتزاز” الذي يمارسه أركان سلطة ما بعد الطائف على اللبنانيين، والذي سعى الخبير البيئي ناجي قديح الى تفكيكه في مقابلة مع المفكرة القانونية، لفهم مسار سياسات الدولة اللبنانية في مسألة النفايات.
إفتعال أزمة، تخويف الناس، فرض حلول معينة
يلخّص قديح منذ البداية مقاربة السلطة اللبنانية لملف النفايات: إرهاب الناس بوحش مصطنع اسمه النفايات لإرغامهم على الموافقة العمياء على حلول مشبوهة تقترحها السلطة نفسها وتفرضها تحت وطأة الخطر الكارثي الذي أوجدته هي بالأساس. إنه أسلوب لئيم في الحكم والسياسات العامة برع سياسيو ما بعد الطائف في ممارسته بشكل يعطل العقل ويشل الحس النقدي ويغلق الباب أمام النقاش العام وبلورة حلول بديلة أفضل. يرسم لنا الخبير البيئي معالم مواجهة بين مقاربتين متناقضتين تتواجهان في لبنان منذ عقدين. ففي وجه الحلول المستدامة والمنتجة التي اقترحها قديح وزملاؤه (أنظر أدناه)، ينظر أركان السلطة وخبراؤها إلى النفايات “ككتلة موحدة غير قابلة للتفكيك من المواد التي يجب التخلص منها”. وهي مقاربة تفتح الباب واسعا “لمنطق المزبلة والمكبات” التي تكاثرت على الأراضي اللبنانية منذ الحرب الأهلية (النورماندي وبرج حمود مثلا). وفيما يعرض قديح المنافع المالية التي يجنيها الزعماء من عملية الاحتيال السياسية هذه (من العقود مع الشركات الخاصة إلى عمليات ردم البحر عبر المكبات وخلق مساحات استثمارية جديدة)، يعود بنا إلى الماضي القريب لاستكشاف جذور الأزمة الحالية. فبعد إقفال مكبي النورماندي وبرج حمود وتوقف محرقة العمروسية (التي لم تكن تعمل أصلا حسب المواصفات)، وصل الوضع في 1997 إلى أزمة شبيهة بأزمة اليوم: “مشهد تراكم النفايات في شوارع بيروت ليس جديداً، وقد سبق واستعملته حكومات ما بعد الحرب للضغط على الناس للقبول بحلول جاهزة من دون نقاش ومن دون دراسة خيارات أخرى”.
ومن خلال عرض تجربة تموز ١٩٩٧، يتكلم الخبير عن ميزة أخرى لسياسات الدولة اللبنانية: الموافقة رسميا على خطوات إيجابية والعمل لاحقاً على الأرض لإفشالها بشكل يحمي مصالح أصحاب القرار وينسف مصداقية الحلول المعتمدة في آن معا، فتُفرَض العودة إلى حلّي الطمر و/أو الحرق الأعمى. يشرح لنا كيف جهزّت وزارة البيئة آنذاك خطة طوارئ وصفها قديح “بالمقبولة” نظريا، إذ ترتكز على الفرز من المصدر وإعادة التدوير، وعلى تسبيخ المواد العضوية. أما المتبقيات (بين ال١٥ وال٢٠٪)، فكان قد تقرر طمرها في مطمر صحي (هو مطمر الناعمة). وتشكّل كيفية تعامل السلطة مع هذا الملف في التسعينيات إضاءة على كيفية تعاطيها معه اليوم: “فهم يقبلون علناً ويقرون بالمبادئ والتقنيات الجيدة، ويعتمدونها رسميا. إلا أنه مع مرور الوقت، يلاحظ المراقب أن ما يتم تطبيقه على الأرض لا علاقة له بالخطة التي تم اعتمادها”. وهذا تماما مع حصل عام ١٩٩٧، إذ بدأ يظهر منذ اليوم الاول أن معامل التسبيخ والفرز التي تقرّر إنشاؤها في الخطة لن تُنشأ، ما جعل القدرة الاستيعابية للفرز والتخمير في معامل الكورال والكرنتينا ولاحقا العمروسية محدودة جدا وبعيدة كل البعد عن أهداف الخطة. كما أن مطمر الناعمة، الذي كان معدا لاستقبال المتبقيات بحدود ال٢٠٪ من كمية النفايات بعد الفرز والتسبيخ، أصبح يستقبل عشوائيا حوالي ٨٠٪ أو ٩٠٪ منها بفعل عدم جدية عملية الفرز، ما أدى إلى توسعه السريع والعشوائي، إذ بلغت مساحته وحجمه مع مرور السنوات أضعاف ما كان مخططاً له. وكدليل إضافي على عدم جدية الحكومات في إطلاق سياسة الفرز، يعطي قديح مثل الشاحنات التي تستعملها شركة سوكلين لجمع ونقل النفايات، وهي شاحنات تخلط النفايات وتضغطها بشكل يجعل الفرز اللاحق مستحيلا. ويشدد قديح على سعي السلطة لإفشال السياسات والأفكار البديلة حتى عندما تعتمدها على الورق: الحرب الإيديولوجية على الخيارات الأخرى هي أساسية لفرض حل المطامر الأوحد. فالفرز اليدوي المحدود الذي طبق فعليا خلال فترة ما بعد خطة ال١٩٩٧ بقي أدنى من المستوى المقبول، ما أنتج “كومبوست” لا أحد يريد استعماله حتى عندما يقدم مجاناً، علما أن لبنان يستورد “الكومبوست” من بلاد بعيدة كهولاندا. كل العوامل تجتمع إذا لتحويل النفايات إلى كتلة واحدة مرعبة يجب التخلص منها عبر الطمر أو الحرق، بأسعار خيالية هي أضعاف الأسعار المعتمدة عالميا، وبكلفة بيئية، صحية ومالية باهظة. من خلال تقنيات الحكم هذه، أصبح ملف النفايات دجاجة تبيض ذهبا للسياسيين، ما يفسر تمسكهم اليوم بسياسات سقطت اقتصاديا وبيئيا وشعبيا.
خطة شهيب: عودةٌ مقنعةٌ لسياسات المحاصصة؟
أسباب أزمة تموز ٢٠١٥ واضحة بالنسبة لقديح كما لغيره: لقد أصبح النظام السابق لإدارة الملف وأرباحه، المرتبط بمصالح زعيم واحد عبر شركة سوكلين، غير قادر على تلبية طموحات الزعامات الأخرى المالية. فأتى قرارا مجلس الوزراء تاريخ 30/10/2014 و 12/1/2015ليكسرا احتكار الأرباح وليعمماها ويوزعاها على كافة الزعماء اللبنانيين عبر منطق “لكل منطقة لبنانية شركة خاصة” تعمل على نمط سوكلين. ويصف قديح أجواء المناقشات السياسية والوزارية التي حصلت في بداية ٢٠١٥ “بالوقحة” كونها غيبت كليا أي تفكير بحلول أخرى بيئية استراتيجية، في ظل ما سماه “هوس” تقاسم المناطق اللبنانية وبالتالي الأرباح الناتجة عن معالجة النفايات فيها بكلفة عالية جدا. وقد تجسد هذا الهوس بدفتر الشروط الذي أعطى دوراً مقرراً للقوى السياسية في كل منطقة. وتتمتع المرحلة الحالية حسب قديح بالميزات التي رأيناها خلال التسعينيات: إبتزاز الناس عبر وضع النفايات في الطرقات ومن ثم فرض حلول بأسعار وشروط تمليها الأزمة. وهذا ما ظهر عبر استهتار المسؤولين في الأيام والأسابيع الأولى للمشكلة، مع إرجاء طرح المسألة في مجلس الوزراء فيما النفايات تتراكم بين البيوت.
يصل الحديث إلى القرارات الأخيرة المتخذة من قبل مجلس الوزراء تاريخ 9/9/2015والمرتكزة على خطة الوزير أكرم شهيب، حيث يسأل قديح: “هل هي تشكل إنتقالاً نوعياً من السياسات السابقة إلى شيء أفضل، أم أنها امتداد لها مع إضافة بعض التجميلات؟”. الإيجابي في الخطة أنها اعترفت رسميا بفشل وفساد السياسات السابقة، كما أنها نقلت ملف النفايات من إدارة مركزية إلى إدارة لامركزية مع إعادة الاعتراف بدور البلديات (الذي ينص عليه قانون البلديات 1977 أصلا). إلا أنه سرعان ما يتوقف عند النواحي المقلقة العديدة في خطة شهيب وقرارات مجلس الوزراء. فالخطة المرحلية التي تمّ إقرارها ليست بأي شكل من الأشكال خطوة على طريق الخطة النهائية، وهو عامل لا يوحي بالطمأنينة: “الحل المؤقت هو مستقل تماما عن الحل النهائي، وهذا يبشر بالأسوأ، إذ أن المؤقت لا يحضر للنهائي ومرشح بالتالي للبقاء”. كما ان الخطة لا تأخذ العبر من السياسات السابقة. فقد عادت وأعطت الأولوية للطمر، فيما المطامر هي منشآت مكلفة الإنشاء والصيانة والمتابعة العلمية، ما ينتج هدراً مالياً كبيراً يُضاف إلى المخاوف الصحية والبيئية. ”هل يُعقل أن نبني منشآت مكلفة كالمطامر تفرض متابعة مكلفة على عشرات السنين للتخلص من مواد عضوية (تشكل الجزء الأكبر من نفايات اللبنانيين)؟”. علماأنه لم يتم الارتكاز في الخطةعلى أي مواصفات علمية في اختيار مواقع المطامر وهو ما كان ممكناً باعتماد المخطط التوجيهي لاستخدام الأراضي.كما أن الخطة لا تقول لنا ماذا ستفعل بالنفايات (قبل الفرز وبعده) ولا تتكلم عن طرق معالجة محددة، ولا عن طرق التخلص النهائي، ما يفتح الباب واسعا أمام الشركات التي ستدخل على الخط مستقبلا لتحديد المعايير والأساليب على ضوء مصالحها ومصالح رعاتها السياسيين. بالإضافة إلى ذلك، في المرحلة المستدامة، تم حصر دور البلديات بالفرز والتدوير والكنس والجمع والنقل، وهي صلاحيات ملحوظة أصلا في القانون الحالي، أي أن “الحكومة ربّحت البلديات جميلة من كيسها”. أما بالنسبة إلى معالجة النفايات، فقد فرضت الخطة حجم المناطق الخدماتية التي سيتم العمل على أساسها، والتي يجب ان تنتج على الأقل ٢٠٠ طن من النفايات أي ما يعادل ما ينتجه ٣٠٠٠٠٠ شخص. وهذه بالتالي مناطق واسعة جدا لا يمكن للبلديات أن تديرها بقدراتها حتى وإن اتحدت، ما يفتح الباب مجددا أمام منطق المناقصات ودخول الشركات الخاصة على الخط: “أعطوا البلديات دور الزبال، وفتحوا الباب أمام الشركات لتحقيق الأرباح، يعني رجعنا لنفس المطرح”.
الحل المقبول: مقاربة جديدة تجعل من النفايات مورداً
ماذا عن الحل؟ “القصة ما بدها هالقد”، يقول قديح، مشيراً إلى التهويل الحاصل من قبل السلطة لفرض حلول تناسب مصالح رجالها. إلا أنّ الحلّ يستدعي فلسفة بديلة لمقاربة المشكلة، وهي “فلسفة الثقة بالناس”. ينتقد قديح المنطق الذي يقول أن الشعب اللبناني غير مهيّأ للفرز. وهو منطق سبق وسمعه في التسعينيات من قبل وزراء، ولا يزال يسمعه اليوم عندما يريد المسؤولون استبعاد الفرز من المصدر فينظرون إلى الشعب اللبناني نظرة فوقية تحقيرية، وكأنه قاصر لا يستطيع فهم تعقيدات الفرز: “حتى لو قبلنا أن اللبنانيين غير مهيئين، علماً أن لا دليل على ذلك، فإن هذا الأمر يشكل سبباً إضافياً لكي تبدأ حملات التوعية مباشرة”. ويعطي مثل بلدتي عربصاليم في الجنوب وبشري في الشمال ليظهر كيف أن المبادرات المحلية نجحت في فرض منطق الفرز منذ التسعيناتبالرغم من مضايقات المسؤولين المحليين وغياب السياسات المشجعة. أما بعد التوعية الضرورية، فيشدد قديح على أهمية التخفيف من كمية النفايات الإجمالية عبر الخروج من منطق الكبّ العشوائي المسيطر اليوم في معظم المنازل، وذلك عبر وسائل ضرائبية أو توعوية أو غيرها. وينتقل بعدها إلى المسار الذي يجب أن تتخذه النفايات بعد عملية الفرز من المصدر، اذ يأتي دور التدوير من جهة والتسبيخ من جهة أخرى والذي ينتج”كومبوست” نوعياً يصلح للاستعمالات الكافة، مع ضرورة إدخال الفرز الآلي للتخفيف من نسبة الأخطاء في الفرز. “المهم ان نعيد الكاربون إلى الطبيعة ككاربون عضوي، لا ان نحرقه لإنتاج ال CO2 المضر. فالمحارق تدمر وتسمم، بينما علينا التحويل”. أما الكميات الصغيرة من المتبقيات والعوادم، فلا يجب الحسم أيضاً بضرورة حرقها، بل يجب درسطبيعتها وامكانية تصنيعهاعبر تحويلها إلى مكونات تستعمل في الحياة اليومية بدل الخشب أو الحديد مثلا. كل هذا يقودنا إلى منطق مخالف كليا للمنطق السائد حاليا الذي يرى النفايات كمشكلة خطيرة: النفايات هي مورد مهم يمكن الاستفادة منه. “نحن لسنا طوباويين. هم لا يريدون الدخول في الأرقام وفي نسب تكوين النفايات اللبنانية. وتغييب النسب هذا يخدم الرؤية التي تقارب النفايات ككل متكامل يتم طمره أو حرقه”. ويصبح هدف أيّ مقاربة جدية للمشكلة هو استرداد قيمة النفايات. فكلفة العملية التي يتكلم عنها قديح، حسب ما يؤكد، أقل من كلفة الحلول الأخرى بنسبة 75%بالإضافة لمنافعها البيئية العديدة، كما أنها تسمح باسترجاع من ٥٠ إلى ٦٠ ٪ من كلفة المعالجة من خلال ما ينتج عن عمليتي التسبيخ واعادة التدوير. ويؤكد قديح أن “الطمر والحرق هما حلان لا عقلانيان، هدر لا عقلاني للأموال العامة”، عدا عن أن معامل الفرز يمكن استحداثها بشكل أسرع من المطامر، الأمر الذي يتناسب مع ضرورات الأزمة الحالية. ويختم قديح: “لكنهم لا يريدون أن يدعونا نفكر بخيارات أخرى، ويتهموننا بالوهم والطوباوية. إذا رفضنا السرقة والأسعار الخيالية، نكون طوباويين؟ إذا رفضنا الهدر، نكون طوباويين؟”.
لا شك أن اتهامات الطوباوية هذه، التي يواجَه بها قديح وبعض رفاقه، تخبئ معركة خبراء عنيفة تدور في كواليس وأحيانا واجهة معركة النفايات الكبرى. فللسلطة خبراؤها، رأيناهم وسمعناهم مؤخرا يدافعون عن خياراتها وقراراتها أو يبررونها، كما أن للحراك خبراءه يدفعون باتجاه حلول جديدة أو بديلة. وخطورة معركة الخبراء هي في العلمية التي يدعيها أبطالها، ما يجعلنا أكثر تصديقا لما يقولون، إذ هم يتكلمون باسم العلم الذي لا يقبل الشك، أو هكذا نعتقد. إلا أن خبراء معركتنا اليوم في لبنان ليسوا كلهم متشابهين. فخبراء السلطة هم الذين برروا ودافعوا في الماضي عن الخيارات التي أوصلتنا اليوم إلى ما نحن عليه من فشل وفساد في إدارة ملف النفايات، وهي خيارات السلطة بنفس رجالها: فأليس أكرم شهيب صاحب خطة ١٩٩٧ التي أوصلتنا إلى هنا، وهو اليوم يطلب منا تصديقه في خطته الجديدة التي تشبه كل “خطط” سلطة ما بعد الطائف؟ لذا من واجب الحراك اليوم أن يحتضن خبراء مثل ناجي قديح وغيره، لنصل إلى توازن مفيد بين الضغط الشعبي والاختصاص القطاعي، في اقتراحات ومشاريع قد ترقى يوما إلى مستوى برنامج حكم بديل. وبانتظار هذه اللحظة، لا بد من الإشارة إلى أن هذا التوازن، أو هذا الانصهار بين المعرفة العلمية والحراك السياسي، يبقى مفقودا إلى حد ما حتى اليوم (على الأقل في القطاعات غير البيئة)، ما يفتح الباب أمام تفرد السلطة بالخطاب العلمي في هذه المجالات.
نشر هذا المقال في العدد | 32 |تشرين الأول/ أوكتوبر 2015 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
المدينة لي، يسقط يسقط حكم #الأزعر
للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك/ي الضغط هنا