دعم الطحين: سياسة لم تخدم سوى “كارتيلات” الأفران


2021-09-13    |   

دعم الطحين: سياسة لم تخدم سوى “كارتيلات” الأفران

سنوات من سياسات الدعم التي انتهجتها الدولة اللبنانيّة والتي لم تكن سوى لدعم “الاحتكارات” وكبار المستثمرين في القطاع الخاص. فعلّقت الدولة مصير مواطنيها بإرادة المحتكر، من الغذاء إلى الدواء إلى كل شيء تقريباً في هذا البلد. هذا هو الرغيف اليوم، لقمة الفقير، يخضع لإرادة الأفران الكبرى، بعدما استخدم لسنوات لزيادة أرباحها ممّا أثّر على الأفران الصغيرة، بحسب جمعية حماية المستهلك. فانخفض عدد الأفران في لبنان من نحو 400 فرن إلى أقل من 220 فرن بسبب سياسات الدعم التي أطاحت بالمؤسّسات الصغيرة وأدّت إلى فتح باب الاحتكار بشكل غير مباشر لرغيف الخبز. 

هل حقاً تُحارب وزارة الاقتصاد الاحتكارات في مجال الخبز؟

أصدر وزير الاقتصاد راوول نعمة قبل أسبوع في 30 آب 2020 قرارين متتالين، هدفهما “مكافحة التهريب والاحتكار”. القرار الأوّل توجّه للأفران مشيراً إلى أنّه يقتضي “مكافحة الاحتكار وعمليات التهريب، ومكافحة بيع الطحين والخبز اللبناني بالسوق الموازية وبأسعار أعلى من السعر الرسمي، ما يستوجب أن تتوفر للوزارة معلومات دقيقة عن عمليات بيع ربطات الخبز اللبناني، داخل صالة الأفران أو خارجها، وآلية بيعها من الفرن إلى المستهلك من خلال موزعي الخبز إلى المناطق”. وعليه، طلب نعمة من الأفران إبلاغ المديريّة العامّة للحبوب والشمندر أسبوعياً، جدولاً بأسماء موزعي ربطات الخبز اللبناني المعتمدين لديه، ومجموع ربطات الخبز من النوعين الكبير والصغير التي يقوم ببيعها للموزعين وداخل الصالة”. وفي اليوم التالي، أصدر الوزير قراراً آخراً طلب فيه من المطاحن الامتناع عن تسليم الطحين للأفران التي لم تلتزم بقرار وزارة الاقتصاد. 

يشرح مدير عام الحبوب والشمندر السكّري في وزارة الاقتصاد جرجس برباري أنّ “وزير الاقتصاد حذّر الأفران منذ إصدار القرار بأسبوع وطالبها تسليم المعلومات حول كميّة إنتاج الخبز وكمية تسليم الموزعين منها، ومن رفض تسليم هذه المعلومات أصدرت الوزارة قراراً بحقه بحرمانه من الاستفادة من الطحين”. ويُشير، “بعدها لجأت بعض الأفران إلينا تُطالب بحصتها من الطحين، وطالبت وزارة الاقتصاد التراجع عن قراره، فطلبنا منها بالمقابل أن تتعهد بتسليم المعلومات أسبوعياً”.

الأفران رفضت قرار الوزير معتبرةً بحسب بيان اتحاد نقابات المخابز والأفران في لبنان صدر بتاريخ 30 آب، معتبراً أنّ القرار “يضع الأفران في خانة الاتهام بموضوع خارج عن إرادتها، وهي تنتج كل ما تتسلمه من طحين وفقا لكميات المازوت المتوفرة أي أنّ الانتاج أقل من الأيّام العادية”. وشرح البيان أنّ الاتحاد يرفض اتهام الأفران بالتهريب واحتكار الخبز. 

وأشارت الأفران في البيان إلى أنّ إنتاجها ينخفض بسبب عدم استلامها المازوت المتفق عليه مع وزارة الاقتصاد كما كميّات الطحين، كما انخفاض كميات الطحين التي تستلمها من المطاحن، إذ تواجه الأخيرة أيضاً تداعيات انقطاع مادّة المازوت مما خفّض كميات إنتاجها وبالتالي خفضّ كميات الطحين الموزعة للأفران. وتأتي الإشارة إلى هذه المسألة من ناحية الأفران لتبرر عدم تسليم الموزعين كميات الخبز كما في السابق، إذ يؤكد متابعون أنّه على الأفران تسليم 70 بالمئة من الخبز للموزعين. وأكدّ نقيب أصحاب الأفران علي ابراهيم في حديث إعلامي بأنّ الأفران صحيح وزّعت 50 بالمئة من إنتاجها، مشيراً إلى أنّ السبب أنّ المازوت غير متوفر.  

سياسة دعم لم تخدم سوى “كارتيلات الأفران”

المسألة أنّ مكافحة التهريب والاحتكار ليست فقط عبر قرار يوحي بحصول رقابة على عمل الأفران، بل هناك من يدعو اليوم إلى التوقف عن سياسة الدعم، لأنّ هذه السياسة وراء التهريب والاحتكار والتعرّض للأمن الغذائي للمواطنين. هذا ما يتحدّث عنه مدير عام جمعية حماية المستهلك د. زهير برّو أنّه لا يُمكن أن يُبنى على قرار وزير الاقتصاد المتعلّق بمكافحة الاحتكار، “لأن الوزير الذي أصدره هو نفسه اليوم الذي يستمر بسياسة الدعم، وهي السياسة التي لا تُفيد سوى المحتكرين والمهربين”. ويعتبر برّو، “أنّ سياسة الدعم لم تعد مجدية ولا تُفيد المواطن أبداً وخاصة الفقراء الّذين هم اليوم بأمس الحاجة للدعم المباشر”. وعليه، “فإنّ سياسة الدعم هي فقط لمضاعفة أرباح المحتكرين والمهربين وكارتيلات الأفران الكبيرة المسيطرة على السوق منذ عشرات السنوات”.

يستعيد برّو قرار الحكومة في العام 2008 والذي فتح الباب لسياسة الاحتكار، عبر رصد 50 مليون دولار سنوياً لتوزيع الطحين المدعوم “ذهبت لمراكمة أرباح الأفران الكبيرة، وتمكنت أربعة أفران من خلالها السيطرة على نحو 80% من السوق اللبنانية”، مشيراً إلى أنّ جمعية حماية المستهلك اقترحت حينها “خطّة لتسعير ربطة الخبز تأخذ بعين الاعتبار كل أنواع الكلفة على أن لا تتجاوز نسبة الأرباح 10 إلى 11 بالمئة، ومنذ ذلك الحين أصبحنا مرفوضين من قبلهم”.  

يلفت برّو إلى أنّ “اقتراح الجمعية اتصل بمعادلة حسابيّة تأخذ بعين الاعتبار كل مكونات صناعة رغيف الخبز وخاصة العوامل المتحركة من الطحين، السكر، الخميرة، النايلون والمحروقات وأجور العمّال المسجلين لدى الضمان الاجتماعي”. ويُضيف، “رفضت الأفران طرحنا لأنّها لا تُسجّل جميع موظفيها في الضمان، والالتزام بخطتنا يعني انخفاض أرباحهم، كما أرادوا إضافة عوامل ثابتة مثل رسوم البلدية ونحن رفضنا هذا الطرح وأكدنا أنّ العناصر الثابتة غير معنية في سعر ربطة الخبز”. وإضافة إلى ذلك، “طالبنا بأن تُراقَب الأفران ورصد كمية إنتاج الخبز من كل كيس طحين لضمان اُستخدام الطحين المدعوم فقط في عملية إنتاج الخبز، لكن الأفران كانت دائماً تضغط باتجاه معاكس رافضة الرقابة بكل أشكالها”.

ويقول بّرو: “في السابق كان عدد الأفران في لبنان نحو 400 فرن، معظمها أفران محلية قادرة على تأمين الخبز للمناطق المحيطة بها حصراً، نظراً لظروف الحرب، واستمرت على هذا النحو في التسعينات لتدعم الاقتصاد بفضل توزعها على جميع المناطق اللبنانية”. ويلفت إلى أنّه بعدما جرت مساعدة الأفران عبر سياسة الدعم، “بدأنا نرى توسعاً لبعض الأفران بشكل كبير، حيث بدأت تفتتح فروعاً لها في المناطق ممّا أضرّ الأفران الصغيرة المنتشرة في المناطق، فتسبب بإغلاق عدد هائل منها (الأفران الصغيرة) تدريجياً حتى تقلص عددها تقديرياً إلى نحو 220 فرناً اليوم”. ويشير برّو إلى أنّ “الأزمة الاقتصاديّة الحالية تسببت بإغلاق أفران إضافية وهي طبعاً من الأفران الصغيرة التي لم تتمكن من مقاومة الأزمة الاقتصادية”.  

من جهته، كان المدير التنفيذي لـ “المفكرة القانونيّة” المحامي نزار صاغيّة قد انتقد الدور الذي تؤديه وزارة الاقتصاد في مجال تسعير ربطة الخبز خلال مؤتمر صحافي عقدته “المفكرة” مع نقابة عمّال الأفران والمخابز في جبل لبنان وبيروت يوم أمس الخميس، وقارب مسألة التسوية على ربطة الخبز مع غيرها من التسويات التي لا يستفيد منها المواطن بشيء. وشرح أنّه كان على الوزارة أن تكون “الحكم المحايد والعادل بين مختلف المصالح، بدل أن تكون الحامي الأول لمصالح الناس وحقوقهم الأساسية، بدل أن تكون هي السلطة، تحولت إلى إدارة منحازة ترضخ لمطامع الفريق الأقوى بشكل كامل (وهو الفريق الذي يستولي هو على السلطة)، إلى درجة إقصاء كل من يعارضه وتهميشه”. وشرح بأنّ العلاقة بين الوزارة والأفران هي علاقة مشبوهة تماماً كما هي مشبوهة علاقتها مع مجمل التجّار والمستوردين، وهي تشبه علاقات أخرى بين وزارات ومؤسسات الدولة مع ما المحتكرين، مثل العلاقة “بين مصرف لبنان جمعية المصارف، أو وزارة الصحة مع مستوردي الدواء”.

ولفت صاغيّة إلى أنّ وزارة الاقتصاد كانت قد اعترفت في العام 2020 خلال دراسة أرسلتها للحكومة تمهيدا لرفع الدعم وأقرت فيها أن “سياسة دعم السلع أدت عمليا إلى إثراء ما أسمته (مجتمع الأعمال) أي أصحاب الاحتكارات، من دون أن تصل إلى الأشخاص الذين انوجد الدعم من أجلهم، أي مجمل المواطنين”. 

 كيف تحولت ربطة الخبز إلى السوق السوداء؟

خلال الأسبوعين الماضيين بدأنا نسمع عن أنّ ربطة الخبز تُباع في مناطق الأطراف وأحياناً في المدن بأسعار أعلى من السعر الذي حددته وزارة الإقتصاد مؤخراً 4500 ليرة لبنانيّة. وتشرح سامية أنّها توجهت إلى الدكّان في قريتها في الجنوب وطلبت ربطة خبز، فأجابها صاحب المحل أنّه لا يوجد خبز لأنّ الموزعين لم يسلمونه بسبب انقطاع البنزين، وعرض عليها تأمين ربطة بسعر 7000 ليرة لبنانيّة، فرفضت العرض وتوجهت إلى سيدة تخبز المرقوق في منزلها واشترت منها ربطة مرقوق بسعر 30 ألف ليرة. ومع أنّ السعر الذي دفعته مرتفع جداً، لكنّها تقول لـ “المفكرة” إنّ “المرقوق يأخذ مجهوداً من سيدات القرى وأنا أردت أن أدعمهن كما أنّ رغيف المرقوق في القرى أكبر بكثير من رغيف المرقوق الذي نشتريه من السوق وهو أفضل من ناحية الجودة”. وتؤكد سامية أنّ “جودة الخبز في السوق تراجعت في هذه الفترة، فحين نشتري ربطة الخبز تنشف سريعاً وتُصبح قاسية”.

من جهته، يؤكّد رئيس نقابة عمال المخابز في بيروت وجبل لبنان شحادة المصري أنّ “السوق السوداء للخبز نشأت بسبب بعض المواطنين الّذين تحولوا إلى تجّار، فهؤلاء، يتوجهون بسياراتهم إلى الفرن ويصرفون البنزين بعد قطع مسافات طويلة ويجلبون عدّة ربطات خبز ويبيعونها في القرى بأسعار أعلى من السعر الفعلي”. وعليه، “يقوم الشاري بعملية حسابية، ليجد أنّه إذا توجه بسيارته للفرن ليشتري الخبز بالسعر الرسمي فهو سيصرف البنزين وستكون الكلفة عليه عالية، فيفضل شراء ربطة الخبز بسعر 7000 ليرة”. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، حقوق المستهلك ، لبنان ، الحق في الصحة والتعليم ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني