دروس من زمن الكورونا: للقضاء دور في علاج أمراض السجون كما في صناعتها


2020-06-23    |   

دروس من زمن الكورونا: للقضاء دور في علاج أمراض السجون كما في صناعتها

سخّرت طيلة العشرية الفائتة، الدولة التونسية إمكانيات هامة لتحديث مؤسستها السجنية سواء ببناء سجون جديدة أو بتعهد القديم منها وتحديثه ليكون أكثر تلاؤما في هندسته مع دوره الوظيفي. حسن الجهد المبذول، والذي كان في جزء منه نتيجة دعم مانحين أجانب[1]، لم يحدث على أرض الواقع تغييرا حقيقيا في ظروف الاحتجاز بفعل ظاهرة الإكتظاظ التي فرضت أن يبقى المساجين فيما كانوا عليه من تكدس بالغرف.

طلبا للتغيير المنشود، استند رئيس الجمهورية الراحل باجي قايد السبسي للمعطيات الإحصائية التي تؤكد أن نسبة هامة من المودعين بالسجون يتابعون من أجل جريمة استهلاك مواد مخدرة ليقرر في مرحلة أولى وبداية من سنة 2015 تمتيع كل من يصدر في حقه حكم بالسجن من هؤلاء بعفو خاص[2]. وقد نجح في مرحلة ثانية في تمرير مبادرة تشريعية بمجلس نواب الشعب أنهت حقبة منع القضاة من تخفيف العقوبات في حقهم[3]. تبعا لذلك، تراجع عدد المساجين في بداية الشهر السابع من سنة 2017 من خمسة وعشرين ألفا إلى عشرين ألفا[4]. وقد أكد هذا الأمر أن جانبا من أزمة السجون مردّه السياسة العقابية.

وبفعل معاودة عدد المساجين للتطور، شكل زمن الكورونا مناسبة لتشخيص جديد. فمع بداية الحديث عن مخاطر تفشي الوباء في منتصف مارس 2020، كان عدد المساجين في حدود ثلاثة وعشرين ألفا، نصفهم من الموقوفين فيما أن المؤسسات السجنية  لم تكن باعتبار عدد أسرّتها مهيأة لاستقبال أكثر من سبعة عشر ألفا. وعليه، برز سؤال عن سبيل حماية هؤلاء المتلاصقين في معاشهم من فيروس كان شرط التوقي منه التباعد الجسدي. سؤال استدعى أجوبة عدة، ذهبت في اتجاهات متناقضة. ففيما برز وعي حقوقي لدى القضاة الذين أبدوا حرصا أكبر على حماية، دفعت حماسة مكافحة إنتشار الفيروس العديد منهم إلى اتخاذ قرارات مقيدة للحرية ضمانا للإلتزام بقرارات الحجر الصحي.

ثقافة الحرية تغزو قصور العدل: قضاء الجمهورية الثانية يصنع قيمه

في إطار الإجراءات الإستثنائية التي استدعاها هاجس حماية المساجين من خطر تفشي عدوى الفيروس القاتل، منح رئيس الجمهورية عفوه الخاص ل2795 فيما أفرجت لجنة السراح الشرطي عن 2559 سجينا آخر[5]. كان يمكن حينها واعتبارا لظهور جرائم جديدة على علاقة بالجائحة ألا يؤدي هذا لتغيير حقيقي في واقع السجون، لولا جهد مميّز بذلته المحاكم.

بعد إعلان المجلس الأعلى للقضاء التعطيل الجزئيّ لعمل المحاكم بداية من تاريخ 16-03-2020، بادر قضاة المجالس الجناحية والجنائية إلى التعهد التلقائي بملفات الموقوفين للنظر في إمكانية الإفراج عن المتهمين بها. فاعتمدوا في حينها معيار الجرائم الخطيرة عن الأمن العام كسبب وحيد لرفض الإفراج عن المتهمين. تمسّكت من جهتها النيابات العامة وقضاة التحقيق طيلة فترة الأزمة بعدم إصدار بطاقات إيداع بالسجن إلا في الجرائم الخطيرة فيما توسع قضاة تنفيذ العقوبات في المعايير التي اعتادوا العمل بها لإسناد السراح الشرطي في حدود مرجع نظرهم. وبدا القضاء خلال هذه المرحلة وفي تعامله مع من كانوا بالسجون وفيا لأصول الوظيفة القضائية كما صاغ تصورها الفصل 102 من الدستور بأن كان فعلا وعملا قاضيا حاميا للحريات وللحقوق .أثمر لقاء مبادرات السلطة السياسية مع عمل القضاء تراجعا في عدد المساجين ليبلغ نهاية شهر أفريل 17280  [6] ويستقر لاحقا في حدود 18 الفا رغم تعدّد الإيقافات الجديدة التي تمّت خلال فترة الحجر الصحي. وهو ما كان يعني أن السجون التونسية تجاوزت لأول مرة في تاريخها الإكتظاظ.

محاكمات الحجر الصحي:

أدرج الأمر الحكومي عدد 152 لسنة 2020[7] مرض كورونا الجديد “كوفيد 19” ضمن قائمة الأمراض السارية الملحقة بالقانون عدد 71 لسنة 1992. وقد إستندت مصالح الصحة على هذا الأمر لوضع المشتبه بإصابتهم بهذا المرض والمصابين به تحت طائلة الحجر الصحي من تاريخه الموافق ل 13-03-2020. من جهته، أقر رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد منعا عاما للجولان بداية من تاريخ 18-03-2020[8] من الساعة السادسة مساء إلى الساعة السادسة صباحا، كما حدد بداية من تاريخ 22-03-2020 الجولان والتجمعات خارج أوقات منع الجولان تلك[9]. تاليا، استدعى ضعف الإلتزام المواطني بالإجراءات المتخذة وما كان يعنيه ذلك من خطورة على الصحة العامة أن تستعمل الدولة من صلاحية الضبط العدلي لإنفاذه على أرض الواقع. وعليه، انخرط القضاء الجزائي بتتبع كل من ينسب له مخالفة الحجر الصحي أو حظر الجولان في مناخ عام حكمه حديث عن حرب يجب أن يكون الجميع جنودا فيها[10]. وعليه، في مرحلة زمنية استمرت لحدود منتصف شهر أفريل 2020، صدرت عن النيابات العمومية بطاقات إيداع بالسجن في حق 712 شخص من أجل مخالفة قرار حجر صحي و1493 في حق من اتهموا بخرق حظر الجولان. وقد حكم على أغلبهم -وكانوا أشخاصا لم يعرف عنهم إنحراف سابق ولا نوازع إجرامية – بالسجن لمدد وصلت في كثير من الحالات لسنة كاملة.

حينها، كانت نصوص التجريم التي اعتمدت محل منازعة. فالإتهام الذي وجه بخرق الحجر الصحي لم يتعلق بأشخاص ثبتت إصابتهم بالفيروس كما يوجب ذلك القانون. كما أن محاكمات خرق حظر الجولان تمت وفق أحكام الأمر الذي يتعلق بتنظيم حالة الطوارئ[11] في حين أن رئيس الجمهورية لم يستند  له في أمره المنظم لحظر الجولان[12]. ولكن أغلبية المحاكم اعتبرت أن الظرف الصحي والحاجة الوطنية تبرران عدم التوقف عند هذه الاعتبارات، وهو موقف أنذر بتكدّس قريب للمساجين ينسي فيما قبله من اكتظاظ. إلا أن السلطة السياسية تدخّلت بتاريخ 17-04-2020 لجبه هذا التوجه، بموجب مرسوم فرض أن يكون عقاب مخالفي إجراءات مكافحة إنتشار الفيروس، خطايا مالية لا غير.

خلاصة

تبين من تفاعل القضاء مع جائحة الكورونا أن بإمكان المحاكم أداء دور هام في حماية الحقوق والحريات متى إعتمدت في قراراتها كمرجعية قيم الوظيفة القضائية. بالمقابل، شكّل الإفراط في الإيقافات والأحكام بالسجن تنفيذا لاجراءات الحد من إنتشار الفيروس مؤشراً على أزمة في تصور الوظيفة القضائية، أزمة يجدر معالجتها وخاصة بعدما بينت التجربة إمكانية ذلك.

 

  • نشر هذا المقال في الملحق الخاص بالعدد 18 من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة الملحق اضغطوا على الرابط أدناه:

الكورونا غزوة مرعبة بأسئلة كثيرة


[1] في إطار الدعم الذي تلقته تونس من الاتحاد الأوربي في عملها على ملف السجون تولى  برنامج دعم إصلاح القضاء  بإعادة بناء وتوسعة  سجن المسعدين بسوسة وسجن قابس  كما وفر التمويل   لمشروع توسعة سجن النساء بمنوبة، سجن الهوارب، مركز الأطفال بالمروج، ويضاف إلى ذلك تمويل تأهيل وتوسعة مركز الاحتفاظ ببوشوشة و اقتناء معدات تكوين للمساجين بالورش السجنية في اختصاصات الخياطة والإعلامية والفلاحة والمرطبات والحدادة والبناء…. ويقدر الاتحاد الأوروبي في وثائقه أن اغلب المشاريع التي دخلت حيز الاستغلال تستجيب في قدر كبير منها إلى المعايير الدولية على مستوى البنية التحتية 

[2]   يذكر هنا أن سياسة العفو عن مستهلكي المخدرات انطلقت قبل ذلك مع الرئيس منصف المرزوقي

[3]   قانون عدد 39 لسنة 2017 مؤرخ في 8 ماي 2017 يتعلق بتنقيح القانون عدد 52 لسنة 1992 المؤرخ في 18 ماي 1992 المتعلق بالمخدرات .

[4]   ذكر المكلف بالإعلام بالإدارة العامة للسجون والإصلاح قيس السلطاني  في ندوة صحفية عقدت بمقر وزارة العدل بتاريخ 01-07-2017  أن عدد المساجين كان في حدود 25 ألفا قبل أن يتراجع بفعل العفو الرئاسي في جرائم  إستهلاك المخدرات  قانون المخدرات  إلى 20504 

[5]  معطيات من الجلسة العامة  لمجلس نواب الشعب المخصصة لمساءلة وزيرة العدل ثريا الجريبي بتاريخ 19-05-2020 .

  تصريح وزيرة العدل    ثريا الجريبي لوكالة تونس افريقيا بتاريخ 30-04-2020 [6]   

[7] أمر حكومي عدد 152 لسنة 2020 مؤرخ في 13 مارس 2020 يتعلق باعتبار الإصابة بفيروس كورونا الجديد “كوفيد 19” من صنف الأمراض السارية المدرجة بالمرفق الملحق بالقانون عدد 71 لسنة 1992 المؤرخ في 27 جويلية 1992 المتعلق بالأمراض السارية

[8] بموجب  الأمر  الرئاسي عدد 24 لسنة 2020 مؤرخ في 18 مارس 2020 يتعلق بمنع الجولان بكامل تراب الجمهورية.

[9]   أمر رئاسي عدد 28 لسنة 2020 مؤرخ في 22 مارس 2020 يتعلق بتحديد الجولان والتجمعات خارج أوقات منع الجولان.

[10]  ورد في بلاغ صدر عن جمعية القضاة التونسيين  تضمن إحصائيات حول الأحكام التي أصدرتها المحاكم أنه تثمينا لمجهودات قضاة النيابة العموميّة والسلسلة الجزائيّة وكلّ القضاة والمشرفين على المحاكم في هذا الظرف الوطني الحساس،ودعما للمجهود الاتصالي للمحاكم في كامل تراب الجمهوريّة حول تطبيق الإجراءات القانونيّة للتصدّي للجرائم والمخالفات المتعلّقة بخرق حظر الجولان والحجر الصحّي،

[11] أمر عدد 50 لسنة 1978 مؤرخ في 26 جانفي 1978 يتعلق بتنظيم حالة الطوارئ

[12] الأمر الرئاسي الذي فرض حظر الجولان ورد بنصه أن “رئيس الجمهورية بعد الاطلاع على الدستور وخاصة على الفصل 80 منه وبعد استشارة كل من رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب يصدر الأمر الرئاسي الآتي نصه…”. ويستفاد من هذا أن حظر الجولان الساري بمقتضاه ورد في خانة الإجراءات الإستثنائية التي نص عليها الدستور بالفصل 80  منه .

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني