من جلسة المجلس النيابي في الأونيسكو (تصوير ماهر الخشن)
عقد مجلس النوّاب اللبناني جلسة تشريعيّة بـ 70 بنداً في 21 كانون الأوّل 2020، أوقفها رئيس المجلس نبيه برّي عند البند 29. كان هذا الأمر متوقّعاً، بحيث كان جدول أعمال الجلسة محضّراً مسبقاً وفقاً لأهواء رئيسها وتوافقات الكتل النيابيّة. ولم يخفِ برّي نيّته المسبقة إنهاء الجلسة بعد قانون العفو، فلم ينتظر أن يحتدّ النقاش على اقتراح قانون إلغاء إعفاءات الطوائف من الضرائب والرسوم، حتّى بدأ يتلو محضر الجلسة معلناً انتهاءها قبل مناقشة أكثر من 30 بنداً بينها اقتراح قانون لمنح تعويضات لأهالي ضحايا تفجير المرفأ وقانون تعديل قانون معاقبة التعذيب. يبدأ درس السّلطة الأوّل ضدّ الديمقراطيّة في تحضيرها لإنهاء الجلسة قبل مناقشة كلّ تلك القوانين. والجدير ذكره أنّ معظم تلك القوانين هي أصلاً مؤجّلة من جلسات كثيرة سابقة انتهت قبل المناقشة، وكان سبب توقّف الجلسات تلك هو اقتراح قانون العفو العام الذي يسعى أصحاب السّلطة من خلاله رشوة كتل انتخابية يعوّلون عليها في الاستحقاقات الانتخابية، وهي رشوة غالباً ما تأخذ طابع العفو الذاتي.
لكلّ دوره في الجلسة التي كان همّها الأساسيّ هو قضيّة التدقيق الجنائي، ودسّ نبض بعض الكتل من أجل محاولة تمرير قانون العفو العام، والحجّة هذه المرّة هي انتشار كورونا في السجون. إذاً، السّلطة تعرفُ هدفها من الجلسة، وهو ما جعل برّي يحصر مدّتها، قبل انعقادها، بالجلسة الصباحية (بين الساعة 11 صباحاً و3 بعد الظهر)، ولوّح باستخدام الجلسة المسائيّة في حال أضاع النوّاب وقتهم على نقاش البنود المطروحة. السّلطة غير مكترثة لما يحصل خارج حدود المحافظة على نفوذها. فبالرغم من اتخاذ الاحتياطات الأمنيّة المعتادة، إلّا أنّ تفتيش القوى الأمنيّة أو حرس رئيس المجلس النيابيّ لم يكن شيئاً يذكر. السبب واضح، وهو أنّ السّلطة مرتاحة على وضعها والنائب إيلي الفرزليّ موجود دائماً ليلعب دوره بامتياز، فيحاول إعادة الثقة في السّلطة لكي لا تتأثّر بأيّ تحرّك شعبي أو انهيار يهدّد وجودها. فيقف في الجلسة ليخطب بالنوّاب، مثلما يفعل في معظم الجلسات، فيحرّك ضمائرهم لتتوحّد أطراف السّلطة وتبقى صامدة أمام كلّ خارج يهدّدها، في الشارع وفي الإعلام (وضمناً في القضاء).
برّي وبما يمثّله من سلطة في مجلس يفترض أنّه اختير ليمثّل الشعب، يحاول إسكات أيّ صوت يذكر الشعب أو مطالبه، وإن كان هذا الصوت من ضمن السّلطة نفسها. فعندما طلب النائب أغوب ترزيان أن يستمع النوّاب إلى بعض “الثوّار الحقيقيّين”، حاول برّي أن يعطي الكلام لغيره بعد إظهار امتعاضه. الأمر تكرّر عندما اقترح النائب جميل السيّد حلّاً لإنقاذ البلد من الانهيار يقضي بالاحتكام إلى الشعب. ورفض برّي طلب النائب أسامة سعد مناقشة البند 68 باكراً، وهو البند الذي يوجب الجامعات الخاصة استيفاء أقساطها بالليرة اللبنانيّة بدلاً من الدولار الأميركي، علماً أنّه قبل أسبوع واحد تظاهر جمهور حركة أمل التي يرأسها برّي، أمام وزارة التربية رفضاً لدولرة الأقساط.
ولا تقف السّلطة عند رفض الاستماع لأيّ أمر يعني الشعب، بل تتعدّاه إلى التهرّب من أيّ اتّهام لأيّ من أعيانها أو تحميلها أيّ مسؤوليّة في ظلّ انهيار اقتصادي كبير، وجريمة تفجير 4 آب. فمثلاً، خلال النقاش في موضوع الدعم (البند 23 عن اعتماد الأدوية الجنيسيّة)، قال النائب بلال عبدالله (اللقاء الديمقراطي) متحدّثاً عن حاكم مصرف لبنان، “عندما يهرب شخص من مسؤوليّاته”، فغضب رئيس المجلس وطلب شطب العبارة من المحضر. فصحّحها عبدالله بتغيير الفعل إلى “يتهرّب” فعاد برّي وشطب العبارة. إلّا أنّ عبدالله لم يستسلم ولكن محاولته الثالثة لتغيير العبارة إلى “لا يلتزم بمسؤوليّاته” لم تسلم من شطب برّي لا بل أغضبته ثم وجّه سؤالاً للنائب هادي أبو الحسن في الكتلة نفسها “شو باه اليوم؟”، قاصداً عبدالله. وقد ذكّر بكل ذلك النائب ميشال ضاهر الذي أوضح أنّ ما تريده السّلطة صراحة من أيّ محاولات أو مبادرات هو مصالحها، لا مصلحة الشعب: “مع المبادرة الفرنسيّة وسيدر بيّنا إنّو بدنا مصريّاتا مش إصلاحاتا”.
الاستراتيجيّة التي تتّبعها هذه السّلطة مع شعبها تقتصر على خداعه بوضع اقتراحات قوانين أو مشاريع قوانين تبيّن أنّ شيئاً ما سيتغيّر. فمثلاً يحاول المجلس النيابيّ أن يوهم الناس أنّ “الأموال المنهوبة” ستعود، فيقول نائب تكتلّ “لبنان القوّي” إبراهيم كنعان إنّ إعادة الأموال المنهوبة هو أمر ضروريّ، فيقاطعه برّي ليؤكّد أنّ ذلك “أكثر من ضروريّ”، ويضيف لاحقاً “قانون مهمّ”، وكأنّ المال سيعاد فعلاً، وكأنّ أحداً غير أشخاص هذه السلطة هو من هرّب الأموال إلى الخارج. وبالطبع، يندرج قانون رفع السرّية المصرفية لحاجات التدقيق الجنائي في السياق نفسه بحسب ملاحظات “المفكرة القانونية”.
وتستخدم السّلطة بعض القوانين لتخدير شعبها فقط، فيصبح دور المجلس النيابيّ في دولة يفترض أن تكون ديمقراطيّة هو تهدئة الشعب ومحاولة امتصاص غضبه، بمعزل عن خدمة مصالحهم. فيقول نائب كتلة الوفاء للمقاومة علي فيّاض، عند تلاوة أهميّة اقتراح قانون تمديد المهل القانونيّة، إنّ هذا الاقتراح “بيّن إنو أحد عوامل تهدئة الشارع” و”حمى المجتمع من فوضى”.
يبقى لإيلي الفرزلي دوره المتميز والمنتظم في تبرئة السّلطة بجميع أركانها من أيّ فساد أو أيّة مساءلة. ويتابع في ذلك دوره في تأمين استمراريّتها منذ دخوله مجلس النوّاب في تسعينيّات القرن الماضي. تتماهى خطاباته عبر السنوات، ليظلّ “َضمير” السّلطة الذي يضمن عدم انكسارها، لا بل على العكس يحاول أن يساوي بين جميع أطرافها لتبقى واحدة، غير مزعزعة. فالفرزلي طالب بتوحيد السّلطة أمام الشعب في جلسة 21 نيسان 2020، رافضاً “التزاحم في تبرئة النفس من دم هذا الصدّيق” وصارخاً أمام النوّاب من على منبره على مسرح قصر الأونيسكو، داعياً إيّاهم إلى الدفاع عن وجهة نظرهم، ومؤكّداً أنّ السّلطة بأطرافها هي في صفّ واحد “يؤكل الثور الأبيض يوم يؤكل الثور الأسود”. وفي جلسة أيلول الماضي، لم يتوانَ الفرزلي عن طلب رفع الحصانات لأنّه يعرف أنّ شخصيّات السلطة جميعها محاطة “بالطهارة والطوبى”. وجاءت جلسة كانون الأوّل، ليعيد الفرزلي الخطاب نفسه لضمان وحدة الصفّ في السلطة، وتأكيداً على براءتها من كلّ ما يحصل ومن كلّ اتّهامات الشعب لها. وتعليقاً على قانون رفع السرّية المصرفيّة، أعلن الفرزلي رفضه لرفعها لولا مسألة التدقيق الجنائيّ: “لولا التدقيق الجنائيّ والله والله وأقولها مرتيّن لكنت أعلنت بالفم الملآن أنّني ضدّ رفع السريّة المصرفيّة لأنّني لا أخشى تمييعاً أو تهمة التمييع، ولأنّني على ثقة تامّة بأنّي نظيف الكفّ منذ وطأت قدماي الأرض”.
يكره الفرزلي أن تحاول السّلطة النزول عند رغبة الشعب، وإن كان ذلك لكسب مصالح معيّنة، فيرفض اقتراح قانون فيه “ميل لحالة شعبويّة يراد منها أن نقول للناس أنّنا أبرياء من دم هذا الصدّيق”. وصرخ بعدها أمام النوّاب “يا سادة، الشعبويّة إلى زوال… وإيّاكم أن تسايروا أحداً في لعبة السرّية المصرفيّة، لأنّني أرى في وجوهكم الثقة كلّ الثقة، والبراءة كلّ البراءة ونظافة الكفّ”. وخطاب الفرزلي، الذي ذكر أنّه كرّر بعضه في جلسة في عهد الرئيس إميل لحّود، يعني أنّ السّلطة مستمرّة منذ ذاك الوقت، وقبله، في محاولة توحيد صفوفها أمام كلّ اتّهام تواجهه، وبخاصّة إذا ما أتى من الشعب الذي تستمد سلطتها، من حيث المبدأ، من تمثيله. أعادت كلمات الفرزلي الثقة لكتل السلطة فامتلأ مسرح الأونيسكو بتصفيق النوّاب، وعاد الفرزلي إلى كرسيه مطمئناً على ثبات “سلطته”… والأهم تمايز دوره الذي لا يضاهيه فيه أحد.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.